الاثنين، سبتمبر 17، 2007

سعد جاسم يعيد اكتشاف وطنه عبر الأنثى



هدلا القصار
شاعرة وكاتبة من لبنان

تأويلات متماوجة لنصوص الحيرة

استوقفتني قصيدة الشاعر العراقي سعد جاسم، " لا وقتَ إلاّ لإبتكارك" طويلاً لا بل فرضت علي قراءتها لأكثر من مرة. وفي كل مرة اشعر ان القصيدة تبدأ من اشراقة عنوانها، نعم هكذا هي القصائد الجميلة تنتزعنا من واقع الحياة الصاخب والصلب لتأخذنا معها في نزهة مباغتة، لنتأمل التجربة ونعيش فيها، بل وندخل في روح القصيدة، كما لو أننا نخوض تجربتها مع الشاعر نفسه.

بين الحداثة والسرد، بين الواقعية والسريالية، وبساطة اللغة، يحلق بنا الشاعر سعد جاسم بعيداً في فضاءات عالمه المركب بين الأنثى ، أنثاه التي يجسدها في الوطن "العراق" كما المرأة، بحيث لا يمكن الفصل بينهما. وأننا لندهش في هذه التجربة المنفردة حين يستوقفنا بسرده التقني والنوعي في إطار المستوي الواقعي الفلسفي، ولكن الأكثر تعبيرا عن خاصيته الذاتية في خصائصها الرومانسية والشفافة ليضعنا من جديد بإسرار هذا النص وتشكيلات حداثته المتنوعة، حيث يتنقل بنا ما بين الروح والجسد/ والخيال والذاكرة / والحب ورغباته .. مهرجانات قصيدته. حيث يطرح علينا السؤال هنا، عن الأدوار التي تلعبها المرأة في إبداعات الشاعر وتأويلاته المتعددة، المتمازجة، التي يمكن ان يتخذه التوظيف الشعري في هذه القصيدة كما في قصائد أخرى . فكم من مرة تتجسد هذه الأنثى بغربته وسعرات حرارة انفعالات هذا
الشاعر؟ وكم من علاقة تربط الوطن بأنثاه التي تدخل في مراحل تأملاته وحواسه مرتحلة بعذوبة الروح؟ وكم من مرة في هذه القصيدة، يحولها الشاعر إلي ومضات في محور عالمه الخفي ليضعها بحواراته المتألقة، ليأخذنا إلي فضاءاته الموسيقية في خمس قطع متناغمة متماسكة مكثفة، وكأنه يضعنا بين خمس قصائد، ليسرح بنا في ميدانه، ثم يعود ليقرأ لنا صهيله وصوت انفعالاته المتأججة كموج البحر الصامت.فأحلام هذا الشاعر تظهر بين الوعي والخيال في صور خلاقة مبدعة، حيث يجسد الوطن، عراقه، هو المرأة، والمرأة هي الوطن، والكينونة وأصل الخلق ثم الكينونة الشاملة، كما كينونته الخاصة.

وينثر لنا تنهدات صيحاته وحزنه وأسراره، فمنذ الكلمات الأولي يعرض ابتكاراته الذي خمرها من أشواق حنينه وانفعالاته، ليهيئ لنا طين الكينونة، وهو يدعو الصبح والعصافير وملائكة الليل ليشاركوه تدوين قصيدته، في احتفاله بمهرجانات قصيدته كما ابتكاره للأنثى الذي يعادل إعادة خلق الوطن، ليشاركوه جميعهم الانطلاق بالقصيدة كالفرس يتجول في براريه، ويفجر ينابيع

صوره ليجمعها بين طين الوطن والأنثى علي نحو من المزيج الرائع والخلاق.ثم يبدأ باستدراجنا للأنثى الحقيقية حين يقول :
تشتعل بالنور/ الأنوثة/ وكرنفالات الماء/ والماء إله.
هنا يشبه الشاعر الأنثى ؛ بالماء بما أن الماء هو أصل الخلق /الحياة، والحياة هي الأم، وألام هي المرأة والوطن الذي يشكل عند الشاعر الحالة السيكولوجية كما الخيال الواقعي في امتزاج الوطن والأنثى .لنقرأ كرنفالات هذا الخلق، ثم يعود بنا للغوص في ذاتيته المعمقة بالشوق والحنين :وعاشقُكِ الموغلُفي أَقاصيك الرؤية واليقين
هنا يدمج الشاعر ما بين القطعة الأولى والقطعة الثانية ويركض بنا بخفة إلي سماواته الرهيفة ليعود ويقطرنا بنبيذ الوطن وهو في هذه الدلالة الشعرية يعني سكرات الحب والنشوة. ولكن عندما يقول "نبيذاً رافدينياً" فانه يجمع هنا بين الأنثى والوطن. واشتعالهم بالنص، وبالروح/ واليقين / والعشق الموغل فيه/ هو تعبير عن تحيلقه الشعري ولكن الذي ينطلق به من اللاوعي. ثم يأخذ قسطاً من التنهدات والشهقات الشعرية.العودة للانثىثم يعود ليعلن مكابدات الشوق في حنينه ومحبته للأرض كما محبته لأنثاه حتى يصفها بالجسد/ وجلنار شفتي نشيد الحب/ الحب الموحد حد التشنج،
وبحركة خفيفة ينقل هذا الحب إلي أغنية، وهي الأغنية -الأمنية بـ يا ريت أنت وأنا في البيت، بمعني الانفراد بكينونته ليشهد نافورات لمناداته الغياب، في دمه وأصوات هواجسه رغم المسافات والأزمنة " التي تلاشت بينهما حين تكوكبت مشاعره لتتجانس بين الماء والحياة من جديد " بمعني الدماء المصحوبة بشهقة البكاء الصامت والحزين المرجو من الله.

هنا يمكننا أن نرى لعبة شاعرية هذا الشاعر التي عايشناها بين الواقع الورقي والخيال الروحي وتأجج انفعالات الروح التي أصبحت كحالة السكر كما نداء روح الوطن التي امتزجت بهذه الكلمات حين شبهها بالصحائف، وهديل الحمام، وصوت الماء الصامت/ والصاخب /الدافئ/ الذي يهذي به هذا النص فهي عبارة عن مشاعر السحر الخفي الموجود عند الشاعر الواقع تحت تأثيره كنوع من السحر أو الانجذاب الروحي، والذي لا يشعر به سواه حين دخلت ارتجاجات صوره التي عبر عنها باحتفالات المروج/ والصنوج / وهي الحالة الهستيرية الشعرية اللاوعية/ والقرنفل/ والبخور/ وهي إثبات لرائحة السحر والغموض الذي تصاعد في خياله كينابيع الآيات /وطعامه/وكاسات نبيذه/ هنا يصبح كالنداهة حين يتجلى في فراديس نداها وصداها وكلماته التي شعر بها في لحظات انتشائه الأخيرة كالروحانية المسترسل بها كالجنون . ثم يعود بنا من جديد ويجسد الأرض بالأنثى ليهذي ويتوه بينهما حين قال في نهاية شهقاته الأخيرة:لاوقتَ عندي إلا لأُحبكِ وأُحبكِ وأُحبكِ
وبكِ...فيكِ تولدُ... تنفجرُوتفنى ثُمَّ تحيا... روحهُ الماءُ الكلامواللغاتُ والكتابةُ والقراءةُهيَ روحيوأنا روحكِوأنتِ الابديةْ.هنا يذهب الشاعر سعد في نشوته الشعرية الأخيرة وصرخات صوته بين أوتاره ليدخلنا في تعابيره النرجسية وهو يردد احبك ثلاث مرات متتالية كانفجار تلاشيه وهو يقول، نفنى/ نحيا/ روح الماء/ الكلام/ والقراءة / اللغات/ الكتابة/ هي روحي/ نعم هي روح الشاعر ومشاعره، وحالته الحقيقية، الصادقة لروح الشعر ؛ نعم هي العبقرية التي تحيى لتموت، كما هي أصابع شاعرنا العراقي سعد جاسم، ولد هذا النص ليموت عند خروجه من روح الشاعر ليعود من جديد ويحيى بين سطور قصيدة أخرى .

"أما قصيدة "أرميك كبذرة وأهطل عليك...."فهي بخلاف قصيدته الأولي، في كل مرة يفرغ سعد شحنات غربته بطريقة مختلفة، ففي هذه القصيدة لم يمزج بين الغربة وأنثاه وإنما استحضرها ليؤنث ارض الوطن في مكانه ويعزفه كنغمات العود في الخشب، وبما ان المرأة خصبة كالأرض فهنا كان استحضار الأنثى ليزرع بويضة أنوثتها في أرضه ثم يهطل عليها بمعنى يشبه نفسه بالمطر، فمن هنا نبدأ مع الشاعر بأسلوب مختلف تماماً وهو الاستغابة الهجومية الملطفة برائحة الطبيعة وصوره الجميلة والمعمقة ، ثم الحنين المتوحش.

يبدأ سعد قصيدته بـ " انه الغياب" في حين يهدهد هذا الغياب بسورة الماء، ليحلق بأطيافه كالطائر ويرفرف ملتاعاً كما قال: "ملتاعاً في أفقك المستحيل" وهو في الحقيقة ملتاع من المستحيل لذا يحلق ويحلق ولا يصل وكأن الصورة التي يريدها هي ابعد من عمق نهر الفرات وحورياته المستوحى منها .أما في المقطع الثاني فيعود بحنين شعوره المشحون بالحزن والحيرة حين قال:
لا ادري هل أخاف عليك من الفرات أم أخاف منك علي عليهلأنك نافرة وعاصفة وشاسعةً وطيبة كما أمك الأرض ويمكنك ان تعشقيه
نعم هي غيرته على الوطن وحنينه الحارق وغربته القاسية التي جعلته بين هلوساته الشعرية وبين غصة العاشق وهو يعترف:لا اعرف غير أن اشتاقكولا اعرف غير أن أحلمك
ولا اعرف غير أن أرميك كبذرة وأهطل عليك.إذا سوف يستمر هذا الشوق طالما الغربة مستمرة في ضلوع هذا الشاعر المتيقظ دائما لغربته وإشجانه وحبه للوطن وغصة أرضه التي تصرخ له في أوقات رغبات عشقه للأنثى كي تختلط مشاعره وتتوزع بين الأنثى التي يمتلكها وبين امتلاك أطياف الحنين الذي يتبعثر بأشواكه وغربته الطويلة وأمنياته المتتالية كي نستمتع بتجوالنا معه ونعيش حلمه ونحلق برفرفات جناحيه، وببساطة كلماته وإبداعاته الشعرية المتفردة بمفرداته وطبقات خيالاته الجميلة .. هذا هو الشاعر سعد جاسم .
في كل مرة يضيئنا بقصيدته ثم يختفي وراء ظلها.

ليست هناك تعليقات: