الثلاثاء، سبتمبر 18، 2007

تنوع الأسلوب الشعري في قصائد هدلا القصار



حازم حداد
باحث وناقد أدبي
تتميز قصائد الشاعرة اللبنانية هدلا القصار، بتنوع لافت في تجربتها كما في أسلوبها الشعري، الذي يبدو " كنبتة برية" لا يطرح تساؤلات حول مصدره بقدر ما يدفع إلى التأمل في تكنيكها الخاص . فهي تهيمن على القارئ منذ اللحظة الاولى وحتى النهاية، تحرك صورها بحذاقة بارعة، لتستعيد خلق وتفاصيل علاقاتها بالازمنة واللحظات، والامكنة، واصعة القارئ بين الحقيقة والالم والسخرية،
لنا أن نرى في هذه التجربة المميزة، فرادة اشتغال على القصيدة، كتفوق الشعر على نفسه، فالشعر هنا مأخوذاً في لحظته، أو حالته، اقتحامه، وتفجره، دونما عناء أو تكلف في الصنعة، حتى ليبدو كما لو أن القصيدة هي التي تلد ذاتها دونما تعسر يستدعي تدخل القابلة . أنها تخيط فكرتها بالخوض في الواقع الخاص وإيقاعاته وكأنها، ترخي الهام أصابعها لتتغنى بنبضها . فهي تدخل صهيل كلماتها في لحظات عالمها بصور رؤيتها الجمالية على ايقاع لحظاتها في الحياة الي لا تبحث عن حذاقة احداثها .
انها شاعرة تنطلق من الواقع المتناقض مع مثالياتها ونبضها الساخر الغنائي فتكتب قصيدتها بتناغم محسوس تربط بين شكل القصيدة ومضمونها، دون المبالغة في تأليف الجمل، وتكتفي بتدوين كلماتها من إيقاعها الخاص والمتنوع، ما يمنح أسلوبها قدراً واضحاً من الأناقة .
وهي بهذا المعنى شاعرة خارج النسق، أو السرب إذ نلاحظ أنها دائما تبدءا قصيدتها بجملة حركية مفتوحة، لتسرد علينا فحواها، ثم تختمها بحركة او بحكمة فلسفية نقدية أو بسخرية . وكانها تقامر على مفرداتها البسيطة لتهبها تلك الكلمات التي تضعها داخل قطعة فنية مميزة . تقص علينا قصة قصيدتها " الكلام أولاً والقصيدة فيما بعد" تروي قصيدتها كما لو أنها تحكي لنا قصتها، وتترك نفسها شاعريتها تنساق وراء غريزة الشعر نفسه، باعتباره ضد كل القوالب، وخارج عن كل القوانين فهي تسأل:
ما معنى الشعر يُكتب وهو لا يقبل الكذب ولا يصدق الحقيقة؟كيف أطرق أبواب القصيدة .
ثم تنهي قصيدتها بتحد صارخ، كما لو أنها تحاكي مرآة ذاتها في مواجهة فلسفة الحياة والمجتمع والأقاويل في عمل القصيدة بتحدي يطال وجودها كشاعرة :
لترعد أصابعي القصيدة وفي نفسي خوف وكأن الحياة ليست سوى حبلاً يشدنا للوراء والأمامسوف أسيطر على القصيدة حتى لو وضعت السنين على رأسي قبعة الشيب
ان لحظتها الشعرية مضخمة بالنضج، كما بالنشوة، الذي يصعب طرح التساؤلات ، انها لا تمل من طرح الاسئلة على ذاتها والتي لا يمكن الاجابة عليها . فهي اكتب عند تلك اللحظة من الغسق، لحظة انبثاق طائر "أثينا" طائر الحكمة، بحيث تعثر في كل مرة على تكنيكها واسلوبها الشعري الخاص، بوصفه اللعبة . لعبتها الطفولية الأثيرة .
انها ترهص لنضوج هذا الشعر الذي يجيء على شكل طفو، دفق من الحالة الشعرية المباغتة، المهاجمة، المقتحمة، دونما أن تجد في ثنايا هذا الشعر أثراً ما لأي شيخ في طريقتها، سوى طريقتها الشعرية الطيعة، التي تشكل عجينتها من طينتها الخاصة، لتعيد تشكيل نفسها في كل مرة بنسق جديد .
أن ما يدعونا للتوقف حقا في هذه التجربة هو الإبحار في إبداعها والتجاوز الذي تقيمه تجربة هذه الشاعرة للقالب المتكرر، كنوع من التقليد والمحاكاة أحياناً، بحيث نجد غالبا لدي الجيل الحديث من الشعراء والتي تنتمي القصار إليهم نوعاً من الاصطفاف في تقليد نمط القصيدة عند جيل الرواد الكبار بحيث تتحول هذه التجارب الوليدة إلى نوع من المحاكاة للشعراء الكبار غير ان قصائد القصار تبحث عن ذاتها فقط ولا تحاكي الا نفسها .
هنا مع هذه الشاعرة ثمة روح واحدة، وصوت واحد، هو صوتها الذي يجمع بين خيوطها، التي تسبح على أمواجها كما لو أنها فنان تشكيلي بارع لا تحب استخدام ذات اللون مرتين وهي في كل مرة تدعونا لاكتشاف هذا التنوع في تركيب النغمات المتناسقة مع الكلمات كالسلم الموسيقي .
هكذا هي تحمل سمات الحداثة الشعرية بامتياز، وهي أنثى تحلق في فضائها الطبيعي، حيث الشعر كما الفن عموماً، أنثوي، في شعرها الذي ينبض بالانفعالات أسرارها الحياتية .
تستوقفنا قصيدتها "نزهة" منذ البداية بافتتاحيتها المباغتة، حين تقول "لحظة أنا أفكر" تجعلنا في حالة سؤال بماذا تفكر وماذا ستقول وتعرض علينا:
لحظة أنا أفكر
أنا وحدي أفكر
لا احد في المنزل يتنزه
آتاني الحنين للوطن
والشوق لبيروت
وأصوات الأخوة يخاويني
وأنا أفكر
وتغوص في فضاءات تجربتها التي تتألم من أحاجي الزمن والأيام وانتظار اللحظات فضلا عن شفافيتها وغربتها التي تشركنا في ألآمها، لتتجلى على أزمتها تدمج الدراما بسرد ساخر، وكأنها أنثى تخرج من بين أوراق الغيوم وهي تختم قصيدتها بسخريتها الخاصة وتقول بعد أن فشلت أحلامها من التحقق :
" إذاً إنا والقلم ذهبنا بنزهة ".

أما في قصيدتها الجميلة نبتة برية، فتسرد لنا قصة يوم، في بحثها عما يحاكي اغترابها، بين أشجار النخيل والبحر، لكنها في هذه القصيدة تصطحبنا لمشاركتها في البحث عن ذاتها بينما تصرخ بين اشجار النخيل :
صرخت أشجار الغابـة سكانها .... تسأل؟
سمعت لحـناًً قـديمـاً من خلف التاريخ ينادي
سمعت لحـناً جـديـداً يذكرني بطفولة تاهت
سمعت لحـناًَ بعيـداً يصرخ ... ارجع هنا
سمعت لحـناً من خيوط الـذاكـرة يتأرجح
كطائر النورس التقطت تلك الأصوات
خشيت الصوت ... كالخيل وفـزعت

وفي نهاية رحلتها تترك غربتها بين الطبيعة لتعود إلى واقعها المعاش، سرير غرفتها، خزانة أسرارها، وتسلم نفسها لسلطان النوم .

أما في قصيدة "ألوان" التي تشبه نمنمات العزف الموسيقي المنفرد على البيانو ترسم لنا من خلال قصيدتها لوحة فنية رائعة، لصباح يومها، ثم تختم قصيدتها بعد ان عرضت علينا مشاكسات او نمنمات صبحها ،
عيناي تلون النهار
أم النهار يتلون
خيوط أفكاري لا تلائم اليومَ
أو ككل يوم

وفي قصيد من منا يعتذر للآخر" تشم رائحة الورد في الحانات الذي يذكرها بعيد الحب لتعالج نسيانه بطريقة غنائية عذبة :
يقولون للحب جذور ... ربماربماوربما سقطت تحت التراب سهوهوربما غابت عن العين ونست
من منا يعتذر للآخرنحن أم الوردةمن جفت تربتهنحن أم الوردة
ان شكل الفني لقصائد القصار ونصوصها، هو شكل يتجاوز المحتوى في كل مرة، دونما التدخل لتقرير ذلك كما لو ان القصيدة هي التي تلاعبها، كما قالت في مقابلة مع صحيفة الزمان, فهي تكتب قصائدها الشعرية كنوع من الاليهات الطفولية كما لو أن الشعر أو التجربة الشعرية هي صنو الطفولة، الساذجة، المتميزة بذاتها ولعبتها الفنية .
فهل هي صانعة حاذقة، ماكرة، هذه الشاعرة أم أنها هاوية فقط وهاوية أبدا ؟
لذا هي لا تركض وراء التحميلات الحاذقة المكثفة كما الفذلكات المعجنة اللغوية، التي تفقد الشعر بساطته، كما رهافته ورقته، وهي تبتعد في قصائدها عن هذه التحميلات الذائدة التي تثقل على الشعر وتحوله إلى نوع من الاحجيات المصطنعة، ولكن التي تحيل الصور في القصيدة، إلى بناءات خشبية متصلبة .
وبهذا التصور المنفرد بذاته نصل إلى بنية القصيدة عند الشاعرة القصار التي تتميز بقوة الصدق الواقعي الذي لا يخل بالشكل الفني كما في حذاقة الصنعة بحيث نجد في قصائدها هذا التوازن المرهف والشفاف الذي يمنح قصائدها هذه السمة الفنية المميزة، بغرابة أسلوبها ويجمع بين الصدق الواقعي والصدق الفني .
فهي لا تنتمي إلى مدرسة شعرية محددة كما يبدو لي، ان مدرستها الوحيدة هي صدقها ورهافة إحساسها في التعامل مع قصيدتها التي تأتيها كحالة أشبه بالحلم المباغت، وهي تكتب بهذا المعنى كقصيدتها الرشيقة الحالمة التي تحمل ذات العنوان " مباغتة حلم" تتكلم فيها عن حلم راودها وامتزاج ما بين الخيال والواقع حين وصلت به إلى نقطة مغلقة وهي تقول في نهاية الحلم :
أغمست أصابعي بماء الحلم
وبجناح الشوق لامسته
هاج كدوار البحر
سبح في حدود زهدي
قذف بي لحبً طعن وهمي
وشوقَ كسر صدر
ولدمعة فرحة تنسج مخيلتي
قبل أن يذهب الحلم في حداد .

ربما نستطيع من خلال نصوصها الشعرية الدخول في تجربتها التي تشبه البناء السنفوني كما في قصيدة "قصة شجرة" هنا قطعة فنية تكشف عن جانباً من إصرارها على إثبات وجودها في واقع الحياة الذي تصوره لنا من خلال تجسيد نفسها بشجرة فهي لحظة كشف حازمة في تجربتها، وربما يعتبر هذا نصا نادرا من الناحية التعبيرية والفنية عدا عن كونها تجربة أنثوية بامتياز .
نظـرت إليه بصمـت بــارد:
حـاورتـه نظـراتي عـاتبـة، عـن مـا فعـل بتـلك الشجـرة
الصغير قبل أن تصبح يانعـة،
وجـدت نفسـي استحضـر صـوراً وصـوراً
لـذلك الـرجل لطالما استرقت النظر إليه،
يرعى شجرته، كعاشق يرويها/ يتلمسها براحـة كفيـه
يحتضنها/ ويغنيها/
تميل إليـه أغصانها/ وكأنها في حالة من النشوة .

أنها شاعرة مسكونة بالتمرد والتقلبات والرفض لكل ما يدور حولها والذي يصعب هضمه بالنسبة لها، كما لا تخلو قصائدها من مسحة ساخرة حين يقفز المفهوم عن المألوف بالنسبة لها، فوق كل ذلك فهي لا تتردد في أن تسمح لنا بالاقتراب من عوالمها الخصوصية .
وهكذا في قصيدة صور تعرض علينا الشاعرة هدلا القصار ألبومها الخاص وتواريخ قصصها كما لو أننا نجلس معها في جلسة عائلية حميمية وهي تروي لنا قصص ألبومها وتقلبات الزمن فيه لتظهر لكل صورة تناقضها مع الواقع وعن تغير العالم من حولها، ثم تجمع قصة ألبومها بصورة واحدة ساخرة من تلك الصور .

وهنا صور للقيم التي درسناها
وهذه صورة نتغذى بذكراها
صورة للصداقة ... قبل أن تتبدل
وهذه للأناقة ... فيها كنا نتجمل
وصورة للحياة قبل أن نموت فيها
وللألم بركان من الصور
وللموت صور
للمشاعر المستعارة .....
للأفراح المغبرة .....
للبسمة المعكوسة ......
وهذه صورة أجمع فيها الزمن

أما في قصيدة " اعتذارات" التي تبدو كما لو انها تصفي حسابها مع الزمن فإنها تكشف عن لحظات حاسمة انثناء جلستها مع النفس تسخر من آلامها بطريقة تقديم "اعتذارتها للاخطاء الصحيحة التي ارتكبتها اصابعها الخمسة" هنا تبرز عن براءتها التي لا تنسجم مع العالم ومع من حولها وكأنها تطلب من الزمن استرداد طفولتها الأولى .

قدمت اعتذاري للمعجبين ... والمجاملين
وللشوارع التي فقدت بعض آثاري
لحوارات البحر الخرساء
ولن أنسى صخور إرادتي كالمد والجزر
للمرأة المنسية
وسخونة الطمأنينة
وقصاصات شعري
واللعب بحصوات الأرض
ومن الدائن والسارق
وللسناء العاهرات/ ومكر الرجال الصامت
اعتذرت منهم لأنني لن أكون ألا سواي

وكذلك في قصائد أخرى كثيرة فهي تكشف لنا بصدق واقعي نادر جانبا من حياتها الخاصة وهي قصائد يمكن النظر إليها مجتمعة كمقطوعات متناثرة في لوحة متكاملة وجميلة حين نستطيع أن نشعر بأغوار أعماق سرها كما نشيدها النثرية الذي ينبثق منه نبرة الصدق الشعري إلا أنها بين الصدق والواقع والصدق الفني على نحو نادر الحدوث وهذا هو سر وسحر لمساتها الإنسانية الجميلة التي تحملها قصائد القصار ، فأنت تكاد أن تعرفها او تعايشها كما تستطيع ان تخيط هذه المعرفة بغلالة بيضاء ونتعرف إلى عالمها عالم هذه الشاعرة .
فلعل هذه الشاعرة المبدعة تعي أن الاحتراف في الشعر هو خطر على الشعر وان الشاعر ينتهي حالما يقطع هذا الحبل السري ولكن غير المرئي في الزمن بين الهواية والغواية والاحتراف .

ليست هناك تعليقات: