زياد جيوسي
طَيبٌ جو رام الله في هذا الصباح، بوادر الخريف تهل علينا منذ أيام، لذا أتمتع كثيراً بهذا الجو الساحر، النسمات الناعمة والغيوم التي تملأ سماء رام الله، الإحساس بتولد شيء جديد، ورغم أننا في رام الله يندر أن نشكو من ارتفاع الحرارة، إلا أن هذا الصيف حمل لنا حراً أكثر من مرة، فشعرنا فيه بالاختناق، مضافاً لذلك حرارة الجو السياسي وانعكاساته على أرواحنا ونفوسنا.
أجول في صباح رام الله بفرحة طفل، تعودني ذكريات الأسبوع من يوم الجمعة الماضي، أمر من أمام المجلس التشريعي المعطل، أرى العلم الفلسطيني يتراقص مع نسمات الهواء، فتعيدني الوانه إلى أيام مضت وكل منها يحمل لوناً من الوان العلم..
مساحة خضراء.. السبت كان يوم من أيام حياتي الجميلة والمتميزة، كان اللون الأخضر هو ما يجمله، ففي ذلك اليوم قررت الخروج إلى بلدة الطيّبة، فمنذ سنوات طويلة لم أتمكن من مغادرة حدود المدينة، بسبب الحواجز الاحتلالية المقيتة، كنت مدعواً من قبل بلدية الطيبة لحضور مهرجان الطيبة الثالث، لتسويق منتجات الطيبة في قاعة البلدية، والطيبة بلدة لم أزرها إلا مرة واحدة منذ حوالي عشرة سنوات ليلاً، وشعرت كم هو جوها وهوائها طيب، لكني لم أحظى قبل هذه المرة بزيارتها نهاراً، ورغم أني قرأت عنها الكثير إلا أني فوجئت حقيقة بجمالها.
ركبت سيارة مع سائق ثرثار لم يرحمني طوال الطريق، في الوقت الذي كنت أريد أن أمتع روحي وعيناي بجمال الطريق، فهو لم يدرك أني لم أخرج من اسر مدينتي منذ سنوات تزيد عن الثمانية، واني متلهف لرؤية هذا الجمال والمساحات الخضراء التي تغطي التلال، والزيتون وهو يتناثر على الروابي والتلال كنجمات ليلة ربيعية، مررت بطريق جديدة لم أراها من قبل فهي ناتجة عن حصار الاحتلال الذي أغلق الطريق الرئيس تجاه الجلزون وتلك القرى، فأوجدت روح التحدي طريقاً آخر طويل يمر من قرية سردا باتجاه مدخل مخيم الجلزون، فتحولت مسافة لا تصل إلى كيلومترين إلى مسافة تصل لعدة كيلومترات، ومن هناك مررت عن دورا القرع وعين سينيا ومن ثم صعدنا بطريق ملتوي صاعد بحدة باتجاه عين يبرود، وكم أعجبت بشجرة تاريخية تتوسط الشارع وتم المحافظة عليها، فأحيطت بسياج حجري يحميها ولم تتم الاطاحة بها، كما تم ذلك في الكثير من المواقع، ومن هناك وعبر بيوت جميلة وبساتين زيتون رائعة أكملنا الطريق إلى سلواد فدير جرير وصولاً للطيبة، وفوراً إلى مقر البلدية فالتقيت الأخت والصديقة بثينة كنعان خوري المخرجة الفلسطينية المتميزة، وعرفتني على شقيقها رئيس المجلس البلدي، الذي استقبلني كما استقبل كافة المدعوين ببشاشة ومحبة وطيبة، فتذكرت أن القائد العظيم صلاح الدين هو من أطلق على البلدة اسم الطيّبة، من طيبة أهلها ومناخها، وقد أسرني الأخ داود كنعان خوري بلطفه وبشاشته وطيبته، كما أسرني الترحيب الجميل من كل من التقيت، ومن أجمل ما لفت نظري في قاعة البلدية مجموعة من أدوات تراثية، جرار فخار قديمة ملونة، مكوى ملابس من أيام الفحم، لوح لدراسة القمح، صحون فخارية وخشبية، والماعون الكبير الذي كانت تجتمع حولها الأسرة لتناول الطعام سوياَ، وكان يطلق عليه اسم "الباطية"، وغيرها من أدوات عرفتها طفلاً، فوقفت أتأملها وأستعيد ذكريات موغلة في طفولتي، حين اقترب مني شخص لطيف من أهل البلدة، ربما ظن أني سائح لا اعرف هذه التراثيات، فجاء ليعرفني عليها، ففوجئ بحديثي عنها فعرفت منه أن معظم هذه القطع كانت مملوكة له، واعتزازاً ببلدته تبرع بها للبلدية، فحييت به هذه الروح، كما لفت نظري انتشار لوحات فنية للعديد من الفنانين على جدران المجلس، مما يدلل على الروح الجميلة للقائمين على البلدة.
والطيبة التي عرفت بأسماء قديمة مثل "عفرة" أي التراب الناعم، وعرفت باسم "أفرام" أي الثمار المضاعفة، تعتبر من أقدم المدن الكنعانية، وحين وقفت في الساحة الخارجية ونظرت إلى البلدة شعرت كم هي حاجتي أن أعود لزيارة طويلة لها، فالبيوت التاريخية والقديمة على رأس تلة شدتني بعنف، لكن الوقت كان ضيقاً، فلا بد من العودة لرام الله، فحضرت حفل الافتتاح الجميل بالكلمات، سواء كلمة رئيس البلدية أو وزير الحكم المحلي أو محافظ رام الله والبيرة، وكلمة المطران الوطني والمناضل الأب عطاالله حنا، والفقرات الفنية سواء لفرقة الكمنجاتي أو فرقة الدبكة التي دفعت بالمحافظ أن يقفز إلى خشبة مسرح القاعة ويدبك بعنفوان الشباب مع الشباب الصغار بالسن المبدعين بالأداء، إضافة لهذا الكم الرائع من المنتجات الوطنية الرائعة.
بعد الغداء غادرت الطيبة برفقة صديقي مروان طوباسي الذي التقيته هناك، ومتعت عيناي وروحي بالمشاهد في العودة، وان نغص روحي منظر علم الاحتلال مرفوعاُ على برج مراقبة، فكأنه خنجر مزروع في الصدر، واعداً نفسي بزيارة أخرى أمتع نفسي وروحي بجولة في البلدة وبيوتها وأثارها التاريخية، شاكراً بلدية الطيّبة، والطيِبة بثينة كنعان على هذه الدعوة التي لا تنسى، والتي ستبقى ذكراها ما حييت.
مساحة خضراء أخرى.. ما أن وصلت قلب رام الله حتى كان هاتفي يدق، كان على الطرف الآخر الصديقة الفنانة المسرحية والكاتبة سناء لهب، قالت: دقائق ونكون في الفندق مع باقي الأصدقاء، توجهت فوراً لهناك، فنحن ننتظرهم بشوق للمشاركة بحفل إطلاق ديوان "دوثان" لشاعرنا الجميل، وصديقي الحميم عبد السلام العطاري، وعقد لقاءات لاتحاد كتاب الانترنت العرب في فلسطين، وصلت وإياهم بنفس اللحظة، وكان لقاءُ حميمياً ورائعاً، مع أصدقاء قدموا من أكثر من منطقة من شمال فلسطين القسم الذي اغُتصب عام 1948، لم نلتقي سابقاً وجهاً لوجه، جمعنا القلم والحرف والشبكة العنكبوتية، جمعتنا صحيفة وموقع ورقستان الالكتروني، وجمعنا اتحاد كتاب الانترنت العرب، عرفنا بعضنا عبر الهواتف والرسائل، فكان يوم أخضراً بهذا اللقاء، تركي عامر الشاعر والكاتب الرائع، نزيه حسون الشاعر والبلبل الشادي، الشاعر الجميل سامي مهنا، والقاصة راوية بربارة الجميلة روحاً وقلماً وإنسانية، والصديق الرائع منير بربارة الذي كان يصر بمرح أنه القارئ الوحيد، إضافة للصديقة الكاتبة والفنانة سناء لهب الرائعة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حيث جلسنا جلسة جميلة ثم توجهنا للغداء بمطعم هادئ، تخللها حوار جميل عن الشعر والكتابة، ومن ثم إلى موقع الاحتفال بمطعم الدايموند على دوار الساعة في قلب رام الله، حيث أطلق "دوثان" وسط احتفاء جميل من الحضور الكبير والمتميز، وحقيقة وان كنا نحتفي بالعطاري، فهو كما قال: أنه يحتفي بأصدقائه، وقد كان الحفل متميز بمعنى الكلمة، ولم أشهد في رام الله احتفاءً بكاتب وكتاب كما شاهدت، وقد كرمنا الحبيب تركي عامر بتقديم كأس مجلة ورقستان، فقد تم تقديم الكؤوس إلى الشاعر العطاري والشاعر مراد السوداني والشاعر المتوكل طه، إضافة لي والشاعر الغائب الحاضر الصديق طلعت شعيبات، الذي استلمت الكأس نيابة عنه، ومن الجو الاحتفالي إلى تكريمي بزيارة صومعتي، حيث اجتمعنا جميعاً إضافة لأصدقاء كتاب وشعراء آخرين، منهم من هو في رام الله ومنهم من قدم من الداخل الجميل، كالكاتبة التي تتميز بطيبتها أسماء عزايزة، والفنان مضاء الذي غنى للجولان ولجبل الشيخ على أنغام العود الشجية مع صوته الرائع جمالاً، لنكمل الجلسة إلى وقت متأخر من الليل، في إلقاء نصوص شعرية وأدبية ومناقشتها، وإن لم يخلو جو الجلسة من المرح بمشاكسات تركي عامر لسامي مهنا.
وفي الصباح كنا نجتمع من جديد في باحة الفندق والحوار والشعر والنقد، وبعدها رتبنا لزوارنا برنامج سريع، فمن لقاء مع أعضاء اتحاد كتاب الانترنت العرب، إلى زيارة لبيت الشعر وصحيفة الحياة، وجولة في المدينة حتى المساء حين غادرونا، فودعتهم وسالت الدمعات من عيوني، حاملاً كماً من الكتب التي أهدوني إياها من نتاجهم، مما سيبقيهم معي بحروفهم وروحهم، لأذهب فوراً لحفل عشاء وصلته متأخراً وأعود لأنام بدون حركة.
مساحة بيضاء.. منذ الصباح كنت في بلدية رام الله، فيوم الاثنين كان الاحتفال بيوم النظافة العالمي، ومن يحب رام الله يجب أن لا تفوته المشاركة بمثل هذه المناسبة، فعندها فقط يتجسد القول بالفعل، وكان اليوم الأول برعاية مجموعة شركة الاتصالات الفلسطينية، حيث أعلن عن بدء الحملة بكلمات مختصرة من رئيس البلدية جانيت خوري، ومن المدير التنفيذي لمجموعة الاتصالات الدكتور عبد المالك جابر، حيث تكرس دور القطاع الخاص بدعم المشاريع العامة، وبعد جلسة قصيرة في مكتب الأخت جانيت، انطلقت مع السيدة المناضلة نهلة قورة، مدير مكتبة رام الله العامة، حاملين المكانس إلى منطقة الحوش في قلب رام الله القديمة، وبدأنا مع الشباب والشابات المتطوعين بعملية تنظيف شاملة، وكنا ونحن نرتدي القمصان القطنية البيضاء والقبعات الواقية من الشمس والبيضاء أيضاً، كالثلج يغمر المدينة جمالاً وطهراً، كما عبرت عن ذلك الأخت جانيت رئيس البلدية، وان أسفت للغياب الشامل للكتاب والفنانين عن الحضور والمشاركة ولو معنوياً، فكيف يمكن أن يكون حب رام الله والوطن، إن لم يقترن القول بالفعل، ورام الله التي تطرب على القصيد والنص، تعتز وتفخر وترقص الدبكة أيضا، حين ترى الفعل يصاحب القول.
خط أحمر.. مساء الاثنين كنا على موعد مع فنان "الغلابا" باسل زايد في أمسية " الحلقة الثانية من قعدة عود"، حيث أمتعنا بتحليل كلمات وألحان أغنية "راح حلفك بالغصن يا عصفور"، ومن ثم شدا لنا بصوته الجميل وعزفه الساحر على العود مجموعة أغنيات جميلة، وحقيقة تمتعنا كثيراً وان أسفنا لمسألة واحدة، فقد صدفت زيارة لإدارة المركز لزوجة أحد السفراء الأوربيين، وان كنا نرحب بالضيوف الكرام، إلا أن سلوك رجال الأمن المرافقين كان مبالغ فيه، فلا يجوز أن يقوموا بالانتشار مع سلاحهم في حديقة المركز، ولا يجوز أن يحتلوا درج المركز وأبوابه الداخلية والخارجية، فالمركز الثقافي يجب أن يحترم، والمبالغة في إجراءات الأمن أثارت استياءً كبيراً من الجمهور، حتى أن أحد الجنود رفع بندقيته في وجه الفنان حين أراد أن يدخل ليغسل يديه قبل بدء العرض، ولم يتورع أحدهم أن يتحدث معنا بجلافة ونحن نقف على باب القاعة، ويطلب منا الدخول لأن الضيفة ستصعد الدرج، فرفضنا ذلك جميعاً، وقلنا له لتتفضل وأهلا بها، لكن لا تحاول معاملتنا وكأننا إرهابيين، فهذا مركز ثقافي ونحن جئنا لنمتع روحنا وأسماعنا، لا أن نشعر أننا في ثكنة عسكرية أو أننا مشتبه بنا، ولم نتنفس الصعداء ونتمتع بالحفل إلا حين غادروا، فيا أيها المعنيين من مسئولين أجهزة أمنية، ركزوا مع التدريب على ضرورة أن يتم توعية رجل الأمن، حتى لا تتوسع الهوة بين المواطن وبينه، فمن يحضر للتمتع بالموسيقى لا يحمل معه إلا روحه وقلمه.
بقعة سوداء.. أيها السادة.. أسلتم دمنا، دمرتم نفوسنا، فهلا تركتمونا نصلي بسلام لخالقنا ؟ هلا ابتعدتم عن صراعات الفتاوى بين الصلاة في العراء والصلاة في المساجد، كفى.. فالدين ليس ملكاً إلا لله، وليس وسيلة صراع ومناكفة، ولا يجوز لكل من يريد أن يعتبر نفسه ظل الله في الأرض أن يقرر لنا أين نصلي، ولا يكتفي بذلك فيلجأ للقوة وإطلاق النار وقمع وسائل الإعلام وضرب الصحفيين، حتى أن موضة ضرب الصحفيين وتحطيم الكاميرات أصبح سمة منتشرة، فمن غزة إلى الخليل ضرب الصحفيين وحطمت الكاميرات، ابتعدوا عن قمع حرية الكلمة والإعلام، ابتعدوا عن فرض الفتاوى على المصليين، دعونا نعبد ربنا بحرية أينما أردنا، فكفى استخدام للمساجد للدعاية الحزبية والقدح بالآخر، ابتعدوا عن المساجد وتحزيبها، أو دعونا نحن وخالقنا، فأمامكم مهمات أكبر وأعظم، فالوطن ما زال محتلاً، وفي الأمس فقط هدم الاحتلال عشرون منـزلاً في عناتا، وكل يوم عشرات المعتقلين والجرحى، ولا يكاد يمر يوم بدون سقوط شهداء، فهلا تذكرتم أن الوطن ما زال محتلاً.
أعود لصومعتي لأكتب مع كوب الشاي الأخضر، أستحضر طيفي الذي لا يفارقني والذي انشغلت عنه في الأيام الماضية، بحكم الانشغال فيما سبق، أستمع وروحه لفيروز:
سيف فليشهر بدنيا وتصدع أبواب وتصدع، الآن الآن وليس غداً أجراس العودة فلتقرع.
أنا لا أنساك فلسطين ويشد بي البعد، أنا في أطيافك نسرين أنا زهر الشوق أنا الورد.
صباحكم أجمل.
رام الله المحتلة
طَيبٌ جو رام الله في هذا الصباح، بوادر الخريف تهل علينا منذ أيام، لذا أتمتع كثيراً بهذا الجو الساحر، النسمات الناعمة والغيوم التي تملأ سماء رام الله، الإحساس بتولد شيء جديد، ورغم أننا في رام الله يندر أن نشكو من ارتفاع الحرارة، إلا أن هذا الصيف حمل لنا حراً أكثر من مرة، فشعرنا فيه بالاختناق، مضافاً لذلك حرارة الجو السياسي وانعكاساته على أرواحنا ونفوسنا.
أجول في صباح رام الله بفرحة طفل، تعودني ذكريات الأسبوع من يوم الجمعة الماضي، أمر من أمام المجلس التشريعي المعطل، أرى العلم الفلسطيني يتراقص مع نسمات الهواء، فتعيدني الوانه إلى أيام مضت وكل منها يحمل لوناً من الوان العلم..
مساحة خضراء.. السبت كان يوم من أيام حياتي الجميلة والمتميزة، كان اللون الأخضر هو ما يجمله، ففي ذلك اليوم قررت الخروج إلى بلدة الطيّبة، فمنذ سنوات طويلة لم أتمكن من مغادرة حدود المدينة، بسبب الحواجز الاحتلالية المقيتة، كنت مدعواً من قبل بلدية الطيبة لحضور مهرجان الطيبة الثالث، لتسويق منتجات الطيبة في قاعة البلدية، والطيبة بلدة لم أزرها إلا مرة واحدة منذ حوالي عشرة سنوات ليلاً، وشعرت كم هو جوها وهوائها طيب، لكني لم أحظى قبل هذه المرة بزيارتها نهاراً، ورغم أني قرأت عنها الكثير إلا أني فوجئت حقيقة بجمالها.
ركبت سيارة مع سائق ثرثار لم يرحمني طوال الطريق، في الوقت الذي كنت أريد أن أمتع روحي وعيناي بجمال الطريق، فهو لم يدرك أني لم أخرج من اسر مدينتي منذ سنوات تزيد عن الثمانية، واني متلهف لرؤية هذا الجمال والمساحات الخضراء التي تغطي التلال، والزيتون وهو يتناثر على الروابي والتلال كنجمات ليلة ربيعية، مررت بطريق جديدة لم أراها من قبل فهي ناتجة عن حصار الاحتلال الذي أغلق الطريق الرئيس تجاه الجلزون وتلك القرى، فأوجدت روح التحدي طريقاً آخر طويل يمر من قرية سردا باتجاه مدخل مخيم الجلزون، فتحولت مسافة لا تصل إلى كيلومترين إلى مسافة تصل لعدة كيلومترات، ومن هناك مررت عن دورا القرع وعين سينيا ومن ثم صعدنا بطريق ملتوي صاعد بحدة باتجاه عين يبرود، وكم أعجبت بشجرة تاريخية تتوسط الشارع وتم المحافظة عليها، فأحيطت بسياج حجري يحميها ولم تتم الاطاحة بها، كما تم ذلك في الكثير من المواقع، ومن هناك وعبر بيوت جميلة وبساتين زيتون رائعة أكملنا الطريق إلى سلواد فدير جرير وصولاً للطيبة، وفوراً إلى مقر البلدية فالتقيت الأخت والصديقة بثينة كنعان خوري المخرجة الفلسطينية المتميزة، وعرفتني على شقيقها رئيس المجلس البلدي، الذي استقبلني كما استقبل كافة المدعوين ببشاشة ومحبة وطيبة، فتذكرت أن القائد العظيم صلاح الدين هو من أطلق على البلدة اسم الطيّبة، من طيبة أهلها ومناخها، وقد أسرني الأخ داود كنعان خوري بلطفه وبشاشته وطيبته، كما أسرني الترحيب الجميل من كل من التقيت، ومن أجمل ما لفت نظري في قاعة البلدية مجموعة من أدوات تراثية، جرار فخار قديمة ملونة، مكوى ملابس من أيام الفحم، لوح لدراسة القمح، صحون فخارية وخشبية، والماعون الكبير الذي كانت تجتمع حولها الأسرة لتناول الطعام سوياَ، وكان يطلق عليه اسم "الباطية"، وغيرها من أدوات عرفتها طفلاً، فوقفت أتأملها وأستعيد ذكريات موغلة في طفولتي، حين اقترب مني شخص لطيف من أهل البلدة، ربما ظن أني سائح لا اعرف هذه التراثيات، فجاء ليعرفني عليها، ففوجئ بحديثي عنها فعرفت منه أن معظم هذه القطع كانت مملوكة له، واعتزازاً ببلدته تبرع بها للبلدية، فحييت به هذه الروح، كما لفت نظري انتشار لوحات فنية للعديد من الفنانين على جدران المجلس، مما يدلل على الروح الجميلة للقائمين على البلدة.
والطيبة التي عرفت بأسماء قديمة مثل "عفرة" أي التراب الناعم، وعرفت باسم "أفرام" أي الثمار المضاعفة، تعتبر من أقدم المدن الكنعانية، وحين وقفت في الساحة الخارجية ونظرت إلى البلدة شعرت كم هي حاجتي أن أعود لزيارة طويلة لها، فالبيوت التاريخية والقديمة على رأس تلة شدتني بعنف، لكن الوقت كان ضيقاً، فلا بد من العودة لرام الله، فحضرت حفل الافتتاح الجميل بالكلمات، سواء كلمة رئيس البلدية أو وزير الحكم المحلي أو محافظ رام الله والبيرة، وكلمة المطران الوطني والمناضل الأب عطاالله حنا، والفقرات الفنية سواء لفرقة الكمنجاتي أو فرقة الدبكة التي دفعت بالمحافظ أن يقفز إلى خشبة مسرح القاعة ويدبك بعنفوان الشباب مع الشباب الصغار بالسن المبدعين بالأداء، إضافة لهذا الكم الرائع من المنتجات الوطنية الرائعة.
بعد الغداء غادرت الطيبة برفقة صديقي مروان طوباسي الذي التقيته هناك، ومتعت عيناي وروحي بالمشاهد في العودة، وان نغص روحي منظر علم الاحتلال مرفوعاُ على برج مراقبة، فكأنه خنجر مزروع في الصدر، واعداً نفسي بزيارة أخرى أمتع نفسي وروحي بجولة في البلدة وبيوتها وأثارها التاريخية، شاكراً بلدية الطيّبة، والطيِبة بثينة كنعان على هذه الدعوة التي لا تنسى، والتي ستبقى ذكراها ما حييت.
مساحة خضراء أخرى.. ما أن وصلت قلب رام الله حتى كان هاتفي يدق، كان على الطرف الآخر الصديقة الفنانة المسرحية والكاتبة سناء لهب، قالت: دقائق ونكون في الفندق مع باقي الأصدقاء، توجهت فوراً لهناك، فنحن ننتظرهم بشوق للمشاركة بحفل إطلاق ديوان "دوثان" لشاعرنا الجميل، وصديقي الحميم عبد السلام العطاري، وعقد لقاءات لاتحاد كتاب الانترنت العرب في فلسطين، وصلت وإياهم بنفس اللحظة، وكان لقاءُ حميمياً ورائعاً، مع أصدقاء قدموا من أكثر من منطقة من شمال فلسطين القسم الذي اغُتصب عام 1948، لم نلتقي سابقاً وجهاً لوجه، جمعنا القلم والحرف والشبكة العنكبوتية، جمعتنا صحيفة وموقع ورقستان الالكتروني، وجمعنا اتحاد كتاب الانترنت العرب، عرفنا بعضنا عبر الهواتف والرسائل، فكان يوم أخضراً بهذا اللقاء، تركي عامر الشاعر والكاتب الرائع، نزيه حسون الشاعر والبلبل الشادي، الشاعر الجميل سامي مهنا، والقاصة راوية بربارة الجميلة روحاً وقلماً وإنسانية، والصديق الرائع منير بربارة الذي كان يصر بمرح أنه القارئ الوحيد، إضافة للصديقة الكاتبة والفنانة سناء لهب الرائعة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حيث جلسنا جلسة جميلة ثم توجهنا للغداء بمطعم هادئ، تخللها حوار جميل عن الشعر والكتابة، ومن ثم إلى موقع الاحتفال بمطعم الدايموند على دوار الساعة في قلب رام الله، حيث أطلق "دوثان" وسط احتفاء جميل من الحضور الكبير والمتميز، وحقيقة وان كنا نحتفي بالعطاري، فهو كما قال: أنه يحتفي بأصدقائه، وقد كان الحفل متميز بمعنى الكلمة، ولم أشهد في رام الله احتفاءً بكاتب وكتاب كما شاهدت، وقد كرمنا الحبيب تركي عامر بتقديم كأس مجلة ورقستان، فقد تم تقديم الكؤوس إلى الشاعر العطاري والشاعر مراد السوداني والشاعر المتوكل طه، إضافة لي والشاعر الغائب الحاضر الصديق طلعت شعيبات، الذي استلمت الكأس نيابة عنه، ومن الجو الاحتفالي إلى تكريمي بزيارة صومعتي، حيث اجتمعنا جميعاً إضافة لأصدقاء كتاب وشعراء آخرين، منهم من هو في رام الله ومنهم من قدم من الداخل الجميل، كالكاتبة التي تتميز بطيبتها أسماء عزايزة، والفنان مضاء الذي غنى للجولان ولجبل الشيخ على أنغام العود الشجية مع صوته الرائع جمالاً، لنكمل الجلسة إلى وقت متأخر من الليل، في إلقاء نصوص شعرية وأدبية ومناقشتها، وإن لم يخلو جو الجلسة من المرح بمشاكسات تركي عامر لسامي مهنا.
وفي الصباح كنا نجتمع من جديد في باحة الفندق والحوار والشعر والنقد، وبعدها رتبنا لزوارنا برنامج سريع، فمن لقاء مع أعضاء اتحاد كتاب الانترنت العرب، إلى زيارة لبيت الشعر وصحيفة الحياة، وجولة في المدينة حتى المساء حين غادرونا، فودعتهم وسالت الدمعات من عيوني، حاملاً كماً من الكتب التي أهدوني إياها من نتاجهم، مما سيبقيهم معي بحروفهم وروحهم، لأذهب فوراً لحفل عشاء وصلته متأخراً وأعود لأنام بدون حركة.
مساحة بيضاء.. منذ الصباح كنت في بلدية رام الله، فيوم الاثنين كان الاحتفال بيوم النظافة العالمي، ومن يحب رام الله يجب أن لا تفوته المشاركة بمثل هذه المناسبة، فعندها فقط يتجسد القول بالفعل، وكان اليوم الأول برعاية مجموعة شركة الاتصالات الفلسطينية، حيث أعلن عن بدء الحملة بكلمات مختصرة من رئيس البلدية جانيت خوري، ومن المدير التنفيذي لمجموعة الاتصالات الدكتور عبد المالك جابر، حيث تكرس دور القطاع الخاص بدعم المشاريع العامة، وبعد جلسة قصيرة في مكتب الأخت جانيت، انطلقت مع السيدة المناضلة نهلة قورة، مدير مكتبة رام الله العامة، حاملين المكانس إلى منطقة الحوش في قلب رام الله القديمة، وبدأنا مع الشباب والشابات المتطوعين بعملية تنظيف شاملة، وكنا ونحن نرتدي القمصان القطنية البيضاء والقبعات الواقية من الشمس والبيضاء أيضاً، كالثلج يغمر المدينة جمالاً وطهراً، كما عبرت عن ذلك الأخت جانيت رئيس البلدية، وان أسفت للغياب الشامل للكتاب والفنانين عن الحضور والمشاركة ولو معنوياً، فكيف يمكن أن يكون حب رام الله والوطن، إن لم يقترن القول بالفعل، ورام الله التي تطرب على القصيد والنص، تعتز وتفخر وترقص الدبكة أيضا، حين ترى الفعل يصاحب القول.
خط أحمر.. مساء الاثنين كنا على موعد مع فنان "الغلابا" باسل زايد في أمسية " الحلقة الثانية من قعدة عود"، حيث أمتعنا بتحليل كلمات وألحان أغنية "راح حلفك بالغصن يا عصفور"، ومن ثم شدا لنا بصوته الجميل وعزفه الساحر على العود مجموعة أغنيات جميلة، وحقيقة تمتعنا كثيراً وان أسفنا لمسألة واحدة، فقد صدفت زيارة لإدارة المركز لزوجة أحد السفراء الأوربيين، وان كنا نرحب بالضيوف الكرام، إلا أن سلوك رجال الأمن المرافقين كان مبالغ فيه، فلا يجوز أن يقوموا بالانتشار مع سلاحهم في حديقة المركز، ولا يجوز أن يحتلوا درج المركز وأبوابه الداخلية والخارجية، فالمركز الثقافي يجب أن يحترم، والمبالغة في إجراءات الأمن أثارت استياءً كبيراً من الجمهور، حتى أن أحد الجنود رفع بندقيته في وجه الفنان حين أراد أن يدخل ليغسل يديه قبل بدء العرض، ولم يتورع أحدهم أن يتحدث معنا بجلافة ونحن نقف على باب القاعة، ويطلب منا الدخول لأن الضيفة ستصعد الدرج، فرفضنا ذلك جميعاً، وقلنا له لتتفضل وأهلا بها، لكن لا تحاول معاملتنا وكأننا إرهابيين، فهذا مركز ثقافي ونحن جئنا لنمتع روحنا وأسماعنا، لا أن نشعر أننا في ثكنة عسكرية أو أننا مشتبه بنا، ولم نتنفس الصعداء ونتمتع بالحفل إلا حين غادروا، فيا أيها المعنيين من مسئولين أجهزة أمنية، ركزوا مع التدريب على ضرورة أن يتم توعية رجل الأمن، حتى لا تتوسع الهوة بين المواطن وبينه، فمن يحضر للتمتع بالموسيقى لا يحمل معه إلا روحه وقلمه.
بقعة سوداء.. أيها السادة.. أسلتم دمنا، دمرتم نفوسنا، فهلا تركتمونا نصلي بسلام لخالقنا ؟ هلا ابتعدتم عن صراعات الفتاوى بين الصلاة في العراء والصلاة في المساجد، كفى.. فالدين ليس ملكاً إلا لله، وليس وسيلة صراع ومناكفة، ولا يجوز لكل من يريد أن يعتبر نفسه ظل الله في الأرض أن يقرر لنا أين نصلي، ولا يكتفي بذلك فيلجأ للقوة وإطلاق النار وقمع وسائل الإعلام وضرب الصحفيين، حتى أن موضة ضرب الصحفيين وتحطيم الكاميرات أصبح سمة منتشرة، فمن غزة إلى الخليل ضرب الصحفيين وحطمت الكاميرات، ابتعدوا عن قمع حرية الكلمة والإعلام، ابتعدوا عن فرض الفتاوى على المصليين، دعونا نعبد ربنا بحرية أينما أردنا، فكفى استخدام للمساجد للدعاية الحزبية والقدح بالآخر، ابتعدوا عن المساجد وتحزيبها، أو دعونا نحن وخالقنا، فأمامكم مهمات أكبر وأعظم، فالوطن ما زال محتلاً، وفي الأمس فقط هدم الاحتلال عشرون منـزلاً في عناتا، وكل يوم عشرات المعتقلين والجرحى، ولا يكاد يمر يوم بدون سقوط شهداء، فهلا تذكرتم أن الوطن ما زال محتلاً.
أعود لصومعتي لأكتب مع كوب الشاي الأخضر، أستحضر طيفي الذي لا يفارقني والذي انشغلت عنه في الأيام الماضية، بحكم الانشغال فيما سبق، أستمع وروحه لفيروز:
سيف فليشهر بدنيا وتصدع أبواب وتصدع، الآن الآن وليس غداً أجراس العودة فلتقرع.
أنا لا أنساك فلسطين ويشد بي البعد، أنا في أطيافك نسرين أنا زهر الشوق أنا الورد.
صباحكم أجمل.
رام الله المحتلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق