زياد جيوسي
أعود لحضن الحبيبة رام الله من جديد، أمارس معها طقوس العشق الأبدي، احتضن أشجارها وياسمينها ودروبها بالحب، بعد ما يزيد عن الأسبوع قضيته أسير الصومعة بلا تجوال، مكتفياً بممارسة اختلاس النظر عبر نافذتي، متنشقاً في الصباح الهواء البكر القادم من الغرب، متأملاً الندى على الأسطح المقابلة، متمتعاً بمنظر الحمائم والعصافير في الصباح وهي تصحو مع الفجر، تعزف الجمال بأصواتها وتلتقط رزقها، متمتعاً بالنعناع و زهوري التي تستكين بجمال في أحواضها على نافذتي، إضافة لزيارة الأصدقاء والقراءة والكتابة كلما سمحت ظروفي بالجلوس إلى حاسوبي ولو لسويعات قليلة.
كان مساء الاثنين الماضي أول خروج لي من الصومعة باستثناء زيارات الطبيب، سرت باتجاه مؤسسة قطان عبر ذلك الشارع الجميل المحفوف بالياسمين والصنوبر والأشجار البرية والحرجية، مررت من جوار مدرسة ثانوية رام الله فعادت إلى ذاكرتي هذه المدرسة التي تميزت قبل عام النكسة في بطولات كرة الطائرة، بينما تميزت مدرسة الهاشمية في بطولات كرة القدم متنافسة فيها مع مدرسة البيرة الجديدة، ولا أعلم ما آلت إليه الأيام وهل هذا التميز ما زال قائماً أم تغيرت الدنيا مع هذه المدارس، فمدرسة رام الله ارتبطت بالذهن في السنوات الأخيرة بالاجتياحات الإسرائيلية للمدينة، واستيلائهم على المدرسة وتحويلها إلى مركز لجنودهم، ومركز اعتقال مؤقت للمواطنين، وفي الجانب المقابل أمر من أمام فندق "الكازبلانكا" الجميل، متأملاً الأشجار الضخمة التي تحف به، وخاصة شجرة الكينا الهائلة الحجم والجمال، فيذكرني اسم الفندق بالمغرب العربي، فاشعر كم هو الانتماء حين نسمي الأماكن بالأسماء العربية، فتنتقل أسماء مدن فلسطين إلى أنحاء الوطن الكبير، كما يتم استحضار أسماء المدن العربية إلى فلسطين، في الوقت الذي يؤلمني لجوء البعض إلى الأسماء الأجنبية الغير مفهومة، والتي لا تمت لنا بصلة، أو تغريب الكلمات العربية وكتابتها بالإنكليزية، واستخدام الاسم الأجنبي بحروف عربية، وكأن لغتنا العظيمة التي كرمها الله بالقرآن ضاقت عن تسمية المحلات والمتاجر، ونجد اللغة الأجنبية تطغي على الكثير من اليافطات، بينما تتوارى لغتنا إلى زوايا اليافطات والعناوين، فأتساءل أين القوانين وأين الرقابة وأين الانتماء، عيب والله ما نراه من اعتداء على اللغة والتاريخ، عيب يحتاج إلى مسارعة من الجهات المختصة لتصحيحه، فيكفينا الاحتلال الجاثم على الصدور حتى نستحضر احتلال اللغة والنفوس والتغريب.
أصل لمؤسسة عبد المحسن القطان لحضور افتتاح معرض للفن التشكيلي، لشاب فلسطيني اسمه "نصر جوابرة"، يمثل حالة وأنموذجاً من حالات الشعب الفلسطيني، فهو لاجئ مطرود من بلدته "عراق المنشية"، نما وترعرع في مخيم العروب في الضفة الغربية، يسكنه الحنين لبلدته الأصلية، وتختزن ذاكرته آلام المخيم والمعاناة، إضافة للهم الشخصي فقد أنهى دراسته في بغداد، وتزوج من عراقية ولا يستطيع إحضارها إلى فلسطين، فتسكن عمّان عاصمة الأردن مع ولده، فانعكس ذلك على لوحاته في معرضه الشخصي الأول، الذي أسماه "ذاكرة"، وحقيقة أن المعرض كان "ذاكرة"، فقد شعرت وأنا أتسمر أمام بعض من لوحاته، بشلال الذاكرة يفيض في روحي، رأيت بعضاً من طفولتي، رأيت المخيم أمامي وشعرت بنفسي أقتحم هذه اللوحات وأجول فيها، رأيت نفسي أجول في أزقة المخيم الضيقة، بيوت الصفيح وألواح "الزينكو"، الأبواب المختلفة الأشكال والأحجام، النوافذ التي تطل على بعضها في الأزقة، الأمهات والجدات يجلسن على المصاطب أمام البيوت، أو كما كنا نسميها "القُصة" بضم القاف، يتسامرن ويتذكرن أيام العز في البلاد، قبل الطرد الهمجي إلى مخيمات اللجوء، تذكرت العاب الطفولة في الأزقة والحارات، شيطنتنا ومشاغباتنا، أطفال انتشروا في العالم بعد أن كبروا، وأطفال بقوا أطفالاً بعد أن نالهم الموت سواءً بالرصاص أو غيره، ورغم قتامة الألوان التي سادت اللوحات بشكل عام، إلا أن بصيص الأمل لا تخلوا منه لوحة من اللوحات، فبقي الأمل يظهر في الزوايا مبشراً بغد أجمل.
فالمخيم كان وما يزال رمزاً لمأساة الهجرة والطرد من الوطن، وما زال المخيم هدفاً توجه إليه كل المحاولات لإنهاء قضية فلسطين، فطالما المخيم قائماً فمعنى ذلك أن حق العودة والحلم به ما زال قائماً، لذا نجد المحاولات سراً وعلانية لشطب المخيم من الجغرافيا، ومن الذاكرة أيضاً، في محاولات يائسة لشطب ذاكرتنا، وما مأساة مخيم "نهر البارد" ومجزرة مخيم تل الزعتر وصبرا وشاتيلا وغيرها ببعيد.
ومن هناك عرجت بعد جولة في الشوارع إلى النادي العربي الأرثوذكسي، لأمتع نفسي بجلسة هادئة مع بعض الأصدقاء، ونارجيلة عجمية تذكرني دوماً بروح جدي لوالدتي رحمه الله، فأقرأ على روحه الفاتحة، فأول ما تعلمت النارجيلة بعد أن أنهيت الثانوية كانت معه، حين كان يجلس تحت دالية العنب في مخيم الوحدات جنوب عمّان، بعد نهار من العمل والكد والتعب، ليعود لمنـزله ويجد الجدة رحمها الله قد رتبت له الجلسة بين العشرات من قوارير الزهور الفواحة العبير، وتحت دالية العنب، ووردة ياسمين قطفتها ووضعتها في ماء النارجلية، تتراقص مع كل نفس يأخذه منها، فأندس إلى جواره طفلاً حتى كبرت، أستمع دوماً لأحاديثه الجميلة وذكريات الوطن ويافا، وكم كنت أُسر حين يحضر لي معه مجلة أو كتاباً، فقد عمل في مجال المطابع منذ الهجرة حتى وفاته، مما كان يتيح لي الحصول على بعض من الكتب والمجلات، التي كان يصدف أن يطبعها، وما زال في مكتبتي بعض من هذه الكتب القديمة، أحافظ عليها لقيمتها الأدبية وارتباطها بالجد الحنون رحمه الله.
جو جميل ولو أنه مشبع بالرطوبة في رام الله هذا الصباح، نسمات ناعمة تبشر بالخريف القريب، أنهي جولتي عائداً وصحيفتي اليومية في يدي، أحتسي كوب الشاي بالنعناع الأخضر اليانع، أجهز لنفسي إفطاراً سريعاً، أستذكر طيفي البعيد القريب، أبنائي البعيدين، أستمع لفيروز تشدو:
يا ربوع بلادي يا أحب الربوع، في حنايا فؤادي من هواك ورود، يا ترى هل نعود صوب أرض الجدود، والليالي تجود بالهنا والرجوع...
صباحكم أجمل
رام الله المحتلة 5\9\2007
http://ziadjayyosi1955.maktoobblog.com/
أعود لحضن الحبيبة رام الله من جديد، أمارس معها طقوس العشق الأبدي، احتضن أشجارها وياسمينها ودروبها بالحب، بعد ما يزيد عن الأسبوع قضيته أسير الصومعة بلا تجوال، مكتفياً بممارسة اختلاس النظر عبر نافذتي، متنشقاً في الصباح الهواء البكر القادم من الغرب، متأملاً الندى على الأسطح المقابلة، متمتعاً بمنظر الحمائم والعصافير في الصباح وهي تصحو مع الفجر، تعزف الجمال بأصواتها وتلتقط رزقها، متمتعاً بالنعناع و زهوري التي تستكين بجمال في أحواضها على نافذتي، إضافة لزيارة الأصدقاء والقراءة والكتابة كلما سمحت ظروفي بالجلوس إلى حاسوبي ولو لسويعات قليلة.
كان مساء الاثنين الماضي أول خروج لي من الصومعة باستثناء زيارات الطبيب، سرت باتجاه مؤسسة قطان عبر ذلك الشارع الجميل المحفوف بالياسمين والصنوبر والأشجار البرية والحرجية، مررت من جوار مدرسة ثانوية رام الله فعادت إلى ذاكرتي هذه المدرسة التي تميزت قبل عام النكسة في بطولات كرة الطائرة، بينما تميزت مدرسة الهاشمية في بطولات كرة القدم متنافسة فيها مع مدرسة البيرة الجديدة، ولا أعلم ما آلت إليه الأيام وهل هذا التميز ما زال قائماً أم تغيرت الدنيا مع هذه المدارس، فمدرسة رام الله ارتبطت بالذهن في السنوات الأخيرة بالاجتياحات الإسرائيلية للمدينة، واستيلائهم على المدرسة وتحويلها إلى مركز لجنودهم، ومركز اعتقال مؤقت للمواطنين، وفي الجانب المقابل أمر من أمام فندق "الكازبلانكا" الجميل، متأملاً الأشجار الضخمة التي تحف به، وخاصة شجرة الكينا الهائلة الحجم والجمال، فيذكرني اسم الفندق بالمغرب العربي، فاشعر كم هو الانتماء حين نسمي الأماكن بالأسماء العربية، فتنتقل أسماء مدن فلسطين إلى أنحاء الوطن الكبير، كما يتم استحضار أسماء المدن العربية إلى فلسطين، في الوقت الذي يؤلمني لجوء البعض إلى الأسماء الأجنبية الغير مفهومة، والتي لا تمت لنا بصلة، أو تغريب الكلمات العربية وكتابتها بالإنكليزية، واستخدام الاسم الأجنبي بحروف عربية، وكأن لغتنا العظيمة التي كرمها الله بالقرآن ضاقت عن تسمية المحلات والمتاجر، ونجد اللغة الأجنبية تطغي على الكثير من اليافطات، بينما تتوارى لغتنا إلى زوايا اليافطات والعناوين، فأتساءل أين القوانين وأين الرقابة وأين الانتماء، عيب والله ما نراه من اعتداء على اللغة والتاريخ، عيب يحتاج إلى مسارعة من الجهات المختصة لتصحيحه، فيكفينا الاحتلال الجاثم على الصدور حتى نستحضر احتلال اللغة والنفوس والتغريب.
أصل لمؤسسة عبد المحسن القطان لحضور افتتاح معرض للفن التشكيلي، لشاب فلسطيني اسمه "نصر جوابرة"، يمثل حالة وأنموذجاً من حالات الشعب الفلسطيني، فهو لاجئ مطرود من بلدته "عراق المنشية"، نما وترعرع في مخيم العروب في الضفة الغربية، يسكنه الحنين لبلدته الأصلية، وتختزن ذاكرته آلام المخيم والمعاناة، إضافة للهم الشخصي فقد أنهى دراسته في بغداد، وتزوج من عراقية ولا يستطيع إحضارها إلى فلسطين، فتسكن عمّان عاصمة الأردن مع ولده، فانعكس ذلك على لوحاته في معرضه الشخصي الأول، الذي أسماه "ذاكرة"، وحقيقة أن المعرض كان "ذاكرة"، فقد شعرت وأنا أتسمر أمام بعض من لوحاته، بشلال الذاكرة يفيض في روحي، رأيت بعضاً من طفولتي، رأيت المخيم أمامي وشعرت بنفسي أقتحم هذه اللوحات وأجول فيها، رأيت نفسي أجول في أزقة المخيم الضيقة، بيوت الصفيح وألواح "الزينكو"، الأبواب المختلفة الأشكال والأحجام، النوافذ التي تطل على بعضها في الأزقة، الأمهات والجدات يجلسن على المصاطب أمام البيوت، أو كما كنا نسميها "القُصة" بضم القاف، يتسامرن ويتذكرن أيام العز في البلاد، قبل الطرد الهمجي إلى مخيمات اللجوء، تذكرت العاب الطفولة في الأزقة والحارات، شيطنتنا ومشاغباتنا، أطفال انتشروا في العالم بعد أن كبروا، وأطفال بقوا أطفالاً بعد أن نالهم الموت سواءً بالرصاص أو غيره، ورغم قتامة الألوان التي سادت اللوحات بشكل عام، إلا أن بصيص الأمل لا تخلوا منه لوحة من اللوحات، فبقي الأمل يظهر في الزوايا مبشراً بغد أجمل.
فالمخيم كان وما يزال رمزاً لمأساة الهجرة والطرد من الوطن، وما زال المخيم هدفاً توجه إليه كل المحاولات لإنهاء قضية فلسطين، فطالما المخيم قائماً فمعنى ذلك أن حق العودة والحلم به ما زال قائماً، لذا نجد المحاولات سراً وعلانية لشطب المخيم من الجغرافيا، ومن الذاكرة أيضاً، في محاولات يائسة لشطب ذاكرتنا، وما مأساة مخيم "نهر البارد" ومجزرة مخيم تل الزعتر وصبرا وشاتيلا وغيرها ببعيد.
ومن هناك عرجت بعد جولة في الشوارع إلى النادي العربي الأرثوذكسي، لأمتع نفسي بجلسة هادئة مع بعض الأصدقاء، ونارجيلة عجمية تذكرني دوماً بروح جدي لوالدتي رحمه الله، فأقرأ على روحه الفاتحة، فأول ما تعلمت النارجيلة بعد أن أنهيت الثانوية كانت معه، حين كان يجلس تحت دالية العنب في مخيم الوحدات جنوب عمّان، بعد نهار من العمل والكد والتعب، ليعود لمنـزله ويجد الجدة رحمها الله قد رتبت له الجلسة بين العشرات من قوارير الزهور الفواحة العبير، وتحت دالية العنب، ووردة ياسمين قطفتها ووضعتها في ماء النارجلية، تتراقص مع كل نفس يأخذه منها، فأندس إلى جواره طفلاً حتى كبرت، أستمع دوماً لأحاديثه الجميلة وذكريات الوطن ويافا، وكم كنت أُسر حين يحضر لي معه مجلة أو كتاباً، فقد عمل في مجال المطابع منذ الهجرة حتى وفاته، مما كان يتيح لي الحصول على بعض من الكتب والمجلات، التي كان يصدف أن يطبعها، وما زال في مكتبتي بعض من هذه الكتب القديمة، أحافظ عليها لقيمتها الأدبية وارتباطها بالجد الحنون رحمه الله.
جو جميل ولو أنه مشبع بالرطوبة في رام الله هذا الصباح، نسمات ناعمة تبشر بالخريف القريب، أنهي جولتي عائداً وصحيفتي اليومية في يدي، أحتسي كوب الشاي بالنعناع الأخضر اليانع، أجهز لنفسي إفطاراً سريعاً، أستذكر طيفي البعيد القريب، أبنائي البعيدين، أستمع لفيروز تشدو:
يا ربوع بلادي يا أحب الربوع، في حنايا فؤادي من هواك ورود، يا ترى هل نعود صوب أرض الجدود، والليالي تجود بالهنا والرجوع...
صباحكم أجمل
رام الله المحتلة 5\9\2007
http://ziadjayyosi1955.maktoobblog.com/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق