عدنان الظاهر
إلتقينا ثلاثتنا بمحض الصُدفة . جمعتنا الأقدار نصف العمياء في هذه الجزيرة الإسبانية المقابلة لسواحل الشمال الإفريقي ولا سيما الجزائر . يكتبها الإسبان
Eivissa
أجلْ ، جمعتنا الصدفة نصف العمياء فالصدف والأقدارُ تجمع البشر حسب هواها وتفرّقهم حسب أهوائهم . صحافيتان إحداهما سيدة في أواسط الثلاثينيات من العمر والأخرى آنسة في مطلع عشرينياتها . لم نلتقِ قبلاً فلعبتُ دور رجل الخير الوسيط وقمتُ بتعريفهما على بعض فانسجمتا على الفور فهما صحافيتان وأديبتان وكلتاهما من الشمال الإفريقي فالسيدة ( سُهيلة ) من الجزائر والآنسة ( الزهراء مجبير ) من المغرب فمن أنا بينهما ؟ لا شيء ! أبداً ، مجرَّدَ لا شيء أتاهما من لا شيء فصنعتا مني شيئاً ذا قيمة معنوية وليست قيمة سوق [ سوقية ] . دارت بيننا في مقهى على ساحل البحر إسمها ( مقهى سيدوري السومرية ) أحاديث وأحاديث في شتى مجالات الحياة وكانت للأدب من أحاديثنا حصة أسدين ولبؤتين. بعيداً عن الأدب ومتاعبه سألت سُهيلة عن رأيها بهذه الجزيرة ، جزيرة إيبيزا ، فقالت إنها تحبها لأنها تقابل سواحل بلدها الجزائر ، ثم إنها ليست بعيدة عن مدينة برشلونة الإسبانية الشهيرة . وأنت يا آنسة الآوانس يا بنتَ مجبير ، ما رأيك ؟ قالت إنها لا تحب هذه الجزيرة لأنها تقابل الجزائر لكنها تحب الجزر الأخرى الواقعة في مياه المحيط الأطلسي القريبة من بلدها المغرب . تحبّها لأنها أساساً مغربية وليست إسبانية . طيّب يا الزهراء المزهرة صيفاً وشتاءً ، قلتِ إنكِ لا تحبينها لأنها تقابل الجزائر ولكن ، ما علاقة هذا البلد بنفرتك منها ؟ قالت سريعاً : وهل نسيتَ خلاف المغرب مع الجزائر حول الصحراء المغربية ؟ لذتُ بالصمت ولم تعلِّق السيدة الجزائرية سُهيلة . جاءت القهوة فانفرجت الأجواءُ وتبدلت النفوسُ ولكنْ إلى حين . أقحمتُ الأديبتين في موضوع عويص كيما أتعرّف على وجهتي نظريهما فيه وكانت الأسماءُ هي مُدخلُ حديثي والأسماءُ واشتقاقاتها في صلب إهتماماتي وهواجسي اللغوية . إنه موضوع القدرُ والجبرُ ! ما رأي السيدة سُهيلة في هذا الأمر ؟ قالت إنها مع الأقدار المتغيرة القوة والإتجاهات وإنَّ الإنسانَ سيّدُ نفسه في الأقل مناصفةً مع هذه الأقدار أو الصدف . ليس هناك من قوة عليا خفية تفرض علينا ما تشاء من مقادير . قلتُ متضاحكاً إنك حقاً متساهلة يا سهيلة ، مع نفسك ومع أقدارك . ردّتْ قائلةً : وإني حقاً لكذلك ، فسهيلة إسمي مصغّر سهلة وسهلة تعني بسيطة متفائلة ومتساهلة مع نفسها ودنياها ولا من آخرةٍ بعد هذه الدنيا الفانية . وما الدنيا إلا كفقاعات كأس بيرة فلنرفع الأنخاب . طلبتُ كأسي بيرة قوية لسهيلة ولي ومزيداً من القهوة للزهراء . ما لكِ صامتة أيتها الزاهدة المترهبنة في عزِّ شبابك ؟ قالت الزهراء إنها مع الجبْر ولا إيمانَ لها بسواه فكل شيء مكتوبٌ على جبين المرء ولا تنسَ أنَّ إسمي ( فاطمةُ الزهراء مجبير ) ، فالجبر قسمتي وحظي ونصيبي في حياتي ولا مهربَ منه بتاتاً . ف [[ مُجبير ]] تعني الشخص القابل بالجبر والمتكيف له لأنه أساساً مفروضٌ عليه . لكنَّ المُجبير يا زهراء هي صيغة المبالغة من الجابر أو المُجْبِر لذا فإنَّ لقبك الذي تحملين أو إسم والدك هو على الضد مما تحسبين ، أي أنَّ الوالد هو فاعل أقداره وهو المتحكم فيها والموجّه لها حتى مع شئ من المبالغة لتعظيم الرجل نفسه ثم أفعاله . ما كانت الزهراء مقتنعة بهذا الكلام فأصرّت على قناعتها الراسخة من أنها نتاج قوى ألجبر الغامضة المسلطة على البشر وأنَّ نصيبَ ما تلعب فيها من أدوار تكادُ تكونُ لا قيمة حقيقية لها . قالت إنها مجرد دمية تحركها قوى خفية لا تدرك منها إلا نتائجها وخاتماتها الفاجعة في أغلب الأحيان . إنتبهتُ ! لماذا تتكلم الزهراء عن الخواتم المفجعة ؟ هل أسالها وهل ستوضح إذا ما سألتُ ؟ بل سأُرجئ مناقشة هذا الموضوع معها ما بيننا ومن خلال تبادل الرسائل الألكترونية لعلها تستجيب لندائي وشوقي لمعرفة أسباب ما يعكر أجواء حياتها وهي لم تزلْ في مقتبل العمر وعنفوان شبابها . أعرف من خلال صورها المنشورة في المواقع أنها تبدو حزينة أو ميالة لنوع ولون خاص من الحزن العميق لا تعرف سره إلا ملائكة السماوات . الحزن شأنها الخاص كبقية خصوصيات البشر التي لها حرمتها بل وحتى قدسيتها . لم نلتقِ ثلاثتنا هنا في الجزيرة الإسبانية إيبيزا لكي أعكّر أمزجة ضيفاتي الأثيرات ومن لي غيرهن في الحياة إذا فقدتهنَّ ؟ ستنتقل عدوى الحزن العميق عندذاك إليَّ من الزهراء وإني رجلٌ لا يُطيقُ المزيد من الحزن بعد أنْ جربتُ منه الكثير أشكالاً والواناً . للناس سعات محدودة لإستيعاب الحزن وخزنه وتمثيله ما بين الصدر والقلب والكبد فإنْ لم تتم عملية تمثيله سريعاً فلربما قتلَ صاحبه أو أسلمه لداء الكآبة ( السوداوية ، المالنكوليا ) المزمنة والعوذ بالشيطان الرجيم . تآمرت الضيفتان عليَّ وقد رأين ذهولي وشرودي عنهما وكان ذلك سوء أدب مني لا ريب . هل يُعقلُ أنْ أدعو ضيوفاً للقاء حميم نادر كما في الأحلام ثم إنصرف عنهم بفكري تاركاً لهم جسداً خالياً ناحلاً لا يحلُّ ولا يربطُ ؟ هزّتني من ذراعي سهيلة ، وحسناً ما فعلتْ ، إذْ أعادتني هِزتُها لواقعي وإليهنَّ ... ضيفتيَ الغاليتين . أفقتُ من الذهول واعتذرتُ صادقاً وبحرارة أني لا أدري أين سرحتْ بي أفكاري ولا أدري أين كنتُ ، حتّى . قالت قد قبلنا أعذارك شرطَ أنْ تقصَّ علينا ما رأيتَ قبلنا في هذه الجزيرة وعما أعجبك وما لم يعجبك فيها وما كانت أسعد لحظاتك فيها وما كانت المناسبة . سمعاً وطاعةً يا سيدة السهول والتسهيلات ولكن ، هل الفاطمةُ الزهراءُ معك في طلبك المعقّد هذا ؟ هزّت الزهراء بنت مجبير رأسها موافقةً . هل هي مؤامرة حوائية ضدي جاءت صدفةً أم قد تم ترتيبها قبل اللقاء ؟ ما جدوى أنْ أقصَّ عليهنَّ تفاصيلَ ما رأيتُ ما دُمنَ جئنَ لرؤيةِ ما رأيتُ ؟ إضاعةُ وقتٍ أم إيقاع عقوبة على رقبة مسكين مثلي دعاهنَّ لتسليتهنَّ والتنعّم برفقتهنَّ ضيفاتٍ عزيزاتٍ غالياتٍ ألا تبّتْ يدا أبي لَهَب ! صحيحٌ إذاً ما قال بعض سلفنا [[ ما جزاءُ الإحسانِ إلا الإساءة ]] . ضحكت عالياً ضيفتايَ الساميتان فلقد كنَّ معي في عميق أفكاري وطُرُقات شرودي وتفصيلات هواجسي وظنوني . لديهن أجهزةٌ سريةٌ تلتقط نأمات الضمائر وما يخططُ المرءُ في سرّه وكيف يتقلّب في هواجسه وكيف ومتى ينتهي إلى قرارٍ جاهز للتنفيذ . لذا لديهنَّ القدرة الجبارة على إحباط هذه القرارات وإفشال الخطط قبل ساعة التنفيذ فأين المفرُّ منهنَّ يا أمنا حواء ؟ كانت الزهراء مثلي شاردة في تفكير عميق لا قرارَ له ولا ساحلَ ولا مرفأ . أمرٌ ما ذو شأنٍ خطير يقلقها ويسببُ لها حزناً شديد الوضوح ليس هيّناً عليَّ قبوله . كيف أُشرِكُ المتفائلة دوماً والباسمة أبداً السيدة سهيلة في أمر مساعدتي لإخراج الزهراء من ظلام ليل حزنها الحالك الذي أحال لون بشرة وجهها إلى مزيج غريب من اللون البنيِّ والليموني الشاحب . هل لي علاقة ما لما هي فيه من هم وشرود ؟ هل أنا سببُ ذلك أو كنتُ بعضَ أسبابه ؟ لِمَ لا تُفصحُ وتوضحُ وتُبين ؟ غموض بعض الناس يقتلني فمن لي بالقدرة على إخراجها من سجن غموضها وكشف عميق سرها ؟ وجدتها وجدتها ، نعم ، وجدتها . إقترحتُ على ضيفاتي أن نغادر المقهى للتمشي حُفاة الأقدام على رمال ساحل البحر فالشمس رائعة اللون في أفقها والبحر رخيُّ الموج والزوارق السريعة والبطيئة رائحة غادية لعل هذه الأجواء والمناظر تبدّل نفسية فاطمة وتعود إلى سالف طبعها الشفاف المحب للنكتة والعائم في بحورالرومانسية المغربية . لم تمضِ إلا بضعة دقائق لنجدَ أنفسنا حفاة الأقدام نتمشى جذلين بين ماء البحر ورمل الساحل. كانت الزهراءُ أكثرنا جَذَلاً وأكثرنا سروراً فعادت إلى أيام طفولتها تلعب وتلهو مع البحر ومما يجرفه الموج إلى الساحل من محّار وما يتجمع من حصى متفاوت الألوان والتشكيلات . كانت في قمة سعادتها وأوج حبورها حتى شرعت تُغني بأجمل صوت أرق الأغاني مما نعرف وما لا نعرف . ما أروعها حين يصفو مزاجها وتتألق روحها الإنسانية والأدبية حتى لتبدو كأنها تحلّق هائمةً خارج حدود الطبيعة وما وراءها . دخلتْ ـ رغم خوفي وتحذيري ـ في ماء البحر حتى غطّى الماءُ المالحُ ركبتيها وصارت تلهو وتعابث الماء بكفيها ... تجمعُهُ ثم تبعثرهُ في الهواء في نشوة لم أرها فيها قبلاً حتى خُيلَ لي كأنها سكرى وجدٍ غامض لا تعرف كنهه . تحررت الزهراء روحاً وجسداً فلقد وجدتْ ضالتها ودواءها في رمل الساحل وماء البحر الممتد أمام عينيها وخيالها زرقةً غامقةً وهيبةً لا تلمسها يدُ إنسانٍ ولا تفسرها حواسه التي بلّدتها المدنُ والتلوث وخرسانة وحديد المباني والطرق والجسور . بقيتُ وسهيلة على شاطئ البحر مشدوهين لما نرى من فتنة بشرية ـ بحرية تتبادل اللهو البرئ مع بحر غدّار ليس الأمان من طبعه . كنتُ خائفاً أنْ يستدرجَها البحرُ بسحره وغموضه قبيل مغيب الشمس فتسرف في لهوها بمائه وإستغراقها بمتعة لهوها وتمضي أعمقَ فأعمقَ حتى يُحدِّقَ بها خطرُ الغرق . تخليتُ عن قميصي وتأهبتُ لمواجهة كل طارئ سيّء . كان قلبي يدقُ عنيفاً وكنتُ أكتم عن سهيلة مخاوفي . كانت أشجع مني فلم تكنْ لتبالي بما ترى . أما أنا فكان في رأسي صدى أرجوزة قديمة كنتُ أسمعها من المرحومة والدتي زمان طفولتي حين كنتُ أُشاكسها [[ كلبي على كلب ولدي // وكلب ولدي من صخر ]] . أي قلبي على قلب ولدي لكنَّ قلبَ ولدي من صخر . ليس في قلب الولد حنين أو شفقة على أمه . فهل قلبكِ من صخرٍ يا فاطمة الزهراء ؟ إنحدر ربع قرص الشمس في البحر فشعَّ في السماء لونٌ أحمرُ ـ برتقاليٌّ لا أحلى منه. عندذاك تركت الزهراء بحرها وعادت إلينا دون أن تدري أن أكثر من نصف ثوبها البرتقالي الجميل كان مبتلاً بماء البحر . كان المساء دافئاً فلا خوفَ عليها من نزلة برد أو موجة عطاس مزعجة . كان البحر كله في عينيها والوجود كله في صدرها فما أوسعَ العينين والصدر في تلك الساعة . لماذا ذهبتِ بعيداً في البحر يا فاطمة ؟ قالت لا أدري . البحرُ أخذني إلى مسقط رأسي في الدار البيضاء . شوّقني لأمي فقلبي على قلب أمي وإنه جزءٌ من قلبها . هل تحسين بشئ من البرد وملابسك يا فاطمةُ مُبتلّةٌ ؟ قالت كلا ، في جسدي وفي قلبي كل دفء الكون كواكبَ وشموساً . كنتُ مع أمي هناك فليتكما كنتما معنا حيث مائدة الطعام ممتدة في فناء الدار وكانت والدتي في إنتظار أبي لتناول العشاء سويةً كما هو دأب العائلة منذ قديم الزمن . أي تحوّل طرأ على هذه الشابة اليافعة اليانعة بعد أنْ دخلت البحرَ وداعبت ماءه وتهيأ لها أنها كانت هناك في مدينتها مع ذويها شاركتهم طعام العشاء ثم عادت لتلتحق بنا تشاركنا متعة التمشي الطويل على رمال البحر الذي سحرها وأفقدها أكثر وعيها فصارت تتخيل وتحلم وهي تشتت ماءه المالح وعيناها شاخصتان في أفقٍ ممتد تحسبه ينتهي أمام باب بيتها في الدار البيضاء المغربية . وتمشينا طويلاً حتى هدّنا التعب فعرّجنا على مطعم صغير مطلٍّ على البحر مباشرةً يقدِّمُ الدجاج المشوي . هل نأخذ الحافلةَ رجوعاً لفنادقنا أو نقطع المسافةَ الطويلةَ مشياً على أقدامنا المتعبة ؟ حلَّ الظلامُ فلا معنى للتمشي في طرقات المدينة المزدحمة بالسيارات ووسائط النقل الأخرى .
إلتقينا صباح اليوم التالي في مقهى سيدوري السومرية على ساحل البحر وكان يومنا الأخير . إتفقنا أنْ نلتقي في شهر آب ( أغسطس ) القادم في العاصمة الجيكية براغ ففيها نهر جميلٌ كثير السحر والإمتاع .
حسب طلب بعض الأصدقاء كتبت المشاهدات الآتية عن جزيرة إيبيزا الإسبانية :
مفاجآت كثيرة بعضها متوقع والبعض الآخر غير متوقع أبداً .
إيبيزا هي الجزيرة الأم ولكن فيها مدناً رائعة الجمال والتنظيم وهندسة عمارة الدور والفنادق والشوارع أخص بالذكر منها مدينة سانت أنطوني
Sant Antoni
والثانية سانتايولاريا
Santa Eularia
.. لم أرَ في حياتي طولاً وعرضاً أجمل منهما ولا أروع . قمت بجولات بحرية قصيرة وطويلة وكانت الطويلة منها مملة ... تصوري ماذا يفعل السائح حين يضعونه أمام خيار واحد أنْ يقضي سبع ساعات في جزيرة صغيرة مقترحين انْ يقوم بجولة مكوكية بالحافلة أو أن يستأجر تاكسي وكان لحسن حظي أن تعرفت على شاب مغربي في حوزته سيارة فوضعها تحت تصرفي ودار بي أربع مدن ساحلية عادية لا يميزها شئ فوق العادة . إسم هذه الجزيرة فورمنتيرا
Formentera
لذا صرت والمغربي أتنقل خلاصاً من سيف الوقت بين مقهى ومقهى ومطعم وآخر
المدينة الثالثة التي زرتها من مدن إيبيزا وليتني لم أزرها ! هي
Portinatx
لم تكن مدينة كباقي المدن الجميلة التي رأيتُ ولكنْ وجدتها عبارة عن ساحل صغير جداً نصف دائري صخري مع عدد قليل من الفنادق والمطاعم والمقاهيُّ تطلُّ عليه من مرتفع عالٍ . ما سبب شهرة هذا المصيف الذي رأيت فيه عدداً كبيراً من العوائل الأمريكية ؟ لا أعرف !
الطرق المؤدية بالحافلة إلى هذه المدن رائعة الجمال تحيط بها سلسلتان من الجبال الغاطة بالخضرة وبساتين الحمضيات المختلفة وحقول الكروم وأشجار النخيل المختلفة الأطوال وسمك الجذوع أعذاقها ذهبية متدلية لكنهم للأسف يتركونها دون تلقيح لذا لا يجنون منها تمراً .
وماذا عن سكان هذه الجزيرة ؟ لم أرَ فيهم وجهاً إسبانياً صميماً إلا في النادر ! ما تفسير ذلك ؟ حتى في مطار الجزيرة كانت موظفات تدقيق جوازات السفر وتفتيش أجساد المغادرين من أقبح الوجوه .
ماذا عن جزيرة إيبيزا
Ibiza
نفسها ؟
شوارع جميلة لكنها ضيقة وبيوت حلوة المعمار وفنادق راقية باذخة التشكيل كنت سعيداً بفندقي وخدمات مطعم فطور الصباح .
كنت في شقة كبيرة مزودة بمطبخ وثلاجة وغرفة طعام وغرفة إستقبال مع تلفزيون وبلكونة على البحر تماماً وغرفة نوم بدولاب ملابس كبير مخفي في الحائط . الفندق مجهز بحمام سباحة صيفي لكن ما كان الماء ساخناً ولا حتى ماء البحر لذا لم أرَ ناساً يعومون
في البحر إلا الأقل من القليل .
تمشيت يوماً طويلاً بين ماء البحر ورمل الساحل حافي القدمين بسروال قصير ... تمشيت طويلاً حتى أحسست فجأةً بالتعب فطرحت جسدي المتعب على رمال الساحل وكنت بالطبع عاري الصدر وكان صندال أقدامي مخدةَ رأسي وغفوتُ بالفعل .
الساحل ضيق وأجزاء كبيرة منه غير نظيفة والفنادق والمطاعم والمقاهي تقع مباشرة على برومينادا البحر ولعل هذا أحد اسباب إتساخ رمل الساحل .
كانت مصيبتي هناك مع الطعام !! يغشّون فيه كميةً ونوعاً فكنت أعاني من متاعب في معدتي جعلتني أكون جزئياً نباتياً لذا غدوتُ أحد زبائن المطاعم الصينية والتايلاندية شبه الدائمين فطعامهم نظيف ورزهم ممتاز ودجاجهم بالكاري لا مثيلَ له فضلاً عن سوب المشروم اللذيد .
نعم ، الغش متفشٍ بشكل يجنن ... يغشون في حساب التلفون وفي حساب أجور الكومبيوتر وهناك بالطبع إستثناءات قليلة .
الفاكهة والخضرة واللحوم غالية الأثمان حتى يفوق ثمن البعض منها أسعار مثيلاتها في ألمانيا بمرتين أو مرة ونصف . بل وحتى الماء المعدني والكولا وأخواتها غالية بشكل لم أكن أتوقعه أبداً . ليس في الجزيرة مخازن كبيرة مثل كاوفهوف أو هرتي أو كارشتاد وما يعُرض من ملابس رديئة النوعية لذا فهي رخيصة الثمن ولا غشَّ فيها .
كنت مسروراً بالتمشيات الطويلة عاري القدمين على رمال البحر مع غصّة كبيرة أنَّ ماءه البارد لا يسمح لي بالسباحة فيه .
السياحات بالحافلات إلى المدن الجميلة المجاورة كانت إحدى سلواتي وهواياتي المفضلة فالطبيعة زاهية بالخضرة واشجار الناسبولي والليمون الحامض وفاكهتهما ناضجة خلافاً لباقي أشجار الفاكهة كالتين والبرتقال والكمثرى وسواها على سبيل المثال.
أشجار النخيل يفوق عددها الحصر وعذوقها مدلاة لكن التمر فيها لا ينضج للأسف لأنهم لا يلقحونه كما يفعل الأمريكان في كالفورنيا وفلوريدا مثلاً .
مغاربة كثيرون أينما وليتُ وجهي وإلى اية مدينة توجهت حتى في الأقاصي ونساؤهم محجبات يتمشين في الشوارع دافعات عربات
أطفالهن وجارّات خلفهن عدداً من الأطفال . ...
أكلت الشاورمة / دونر كباب في مطعمين مغربيين ووجدت لحسن حظي مطعماً مختصاً بتقديم الدجاج المشوي وهو إسباني .
كنتُ مسروراً بالتمشيات الطويلة في المدينة وعلى السواحل . وكنت مسرورا وسعيداً بإقامتي حيث الخدمة يومياً والفطور جيد شديد التنوع ..
عدتُ إلى ميونيخ متعباً بشكل غير عادي ولا أعرف السبب ولحد اليوم أشعر بتعب وميل كبير للنوم فأنام كثيراً .
أسبوعان كثير على هذه الجزيرة وما جاورها
والجميل من مدائنها . اسبوع يكفي أو عشرة ايام على الأكثر
إلتقينا ثلاثتنا بمحض الصُدفة . جمعتنا الأقدار نصف العمياء في هذه الجزيرة الإسبانية المقابلة لسواحل الشمال الإفريقي ولا سيما الجزائر . يكتبها الإسبان
Eivissa
أجلْ ، جمعتنا الصدفة نصف العمياء فالصدف والأقدارُ تجمع البشر حسب هواها وتفرّقهم حسب أهوائهم . صحافيتان إحداهما سيدة في أواسط الثلاثينيات من العمر والأخرى آنسة في مطلع عشرينياتها . لم نلتقِ قبلاً فلعبتُ دور رجل الخير الوسيط وقمتُ بتعريفهما على بعض فانسجمتا على الفور فهما صحافيتان وأديبتان وكلتاهما من الشمال الإفريقي فالسيدة ( سُهيلة ) من الجزائر والآنسة ( الزهراء مجبير ) من المغرب فمن أنا بينهما ؟ لا شيء ! أبداً ، مجرَّدَ لا شيء أتاهما من لا شيء فصنعتا مني شيئاً ذا قيمة معنوية وليست قيمة سوق [ سوقية ] . دارت بيننا في مقهى على ساحل البحر إسمها ( مقهى سيدوري السومرية ) أحاديث وأحاديث في شتى مجالات الحياة وكانت للأدب من أحاديثنا حصة أسدين ولبؤتين. بعيداً عن الأدب ومتاعبه سألت سُهيلة عن رأيها بهذه الجزيرة ، جزيرة إيبيزا ، فقالت إنها تحبها لأنها تقابل سواحل بلدها الجزائر ، ثم إنها ليست بعيدة عن مدينة برشلونة الإسبانية الشهيرة . وأنت يا آنسة الآوانس يا بنتَ مجبير ، ما رأيك ؟ قالت إنها لا تحب هذه الجزيرة لأنها تقابل الجزائر لكنها تحب الجزر الأخرى الواقعة في مياه المحيط الأطلسي القريبة من بلدها المغرب . تحبّها لأنها أساساً مغربية وليست إسبانية . طيّب يا الزهراء المزهرة صيفاً وشتاءً ، قلتِ إنكِ لا تحبينها لأنها تقابل الجزائر ولكن ، ما علاقة هذا البلد بنفرتك منها ؟ قالت سريعاً : وهل نسيتَ خلاف المغرب مع الجزائر حول الصحراء المغربية ؟ لذتُ بالصمت ولم تعلِّق السيدة الجزائرية سُهيلة . جاءت القهوة فانفرجت الأجواءُ وتبدلت النفوسُ ولكنْ إلى حين . أقحمتُ الأديبتين في موضوع عويص كيما أتعرّف على وجهتي نظريهما فيه وكانت الأسماءُ هي مُدخلُ حديثي والأسماءُ واشتقاقاتها في صلب إهتماماتي وهواجسي اللغوية . إنه موضوع القدرُ والجبرُ ! ما رأي السيدة سُهيلة في هذا الأمر ؟ قالت إنها مع الأقدار المتغيرة القوة والإتجاهات وإنَّ الإنسانَ سيّدُ نفسه في الأقل مناصفةً مع هذه الأقدار أو الصدف . ليس هناك من قوة عليا خفية تفرض علينا ما تشاء من مقادير . قلتُ متضاحكاً إنك حقاً متساهلة يا سهيلة ، مع نفسك ومع أقدارك . ردّتْ قائلةً : وإني حقاً لكذلك ، فسهيلة إسمي مصغّر سهلة وسهلة تعني بسيطة متفائلة ومتساهلة مع نفسها ودنياها ولا من آخرةٍ بعد هذه الدنيا الفانية . وما الدنيا إلا كفقاعات كأس بيرة فلنرفع الأنخاب . طلبتُ كأسي بيرة قوية لسهيلة ولي ومزيداً من القهوة للزهراء . ما لكِ صامتة أيتها الزاهدة المترهبنة في عزِّ شبابك ؟ قالت الزهراء إنها مع الجبْر ولا إيمانَ لها بسواه فكل شيء مكتوبٌ على جبين المرء ولا تنسَ أنَّ إسمي ( فاطمةُ الزهراء مجبير ) ، فالجبر قسمتي وحظي ونصيبي في حياتي ولا مهربَ منه بتاتاً . ف [[ مُجبير ]] تعني الشخص القابل بالجبر والمتكيف له لأنه أساساً مفروضٌ عليه . لكنَّ المُجبير يا زهراء هي صيغة المبالغة من الجابر أو المُجْبِر لذا فإنَّ لقبك الذي تحملين أو إسم والدك هو على الضد مما تحسبين ، أي أنَّ الوالد هو فاعل أقداره وهو المتحكم فيها والموجّه لها حتى مع شئ من المبالغة لتعظيم الرجل نفسه ثم أفعاله . ما كانت الزهراء مقتنعة بهذا الكلام فأصرّت على قناعتها الراسخة من أنها نتاج قوى ألجبر الغامضة المسلطة على البشر وأنَّ نصيبَ ما تلعب فيها من أدوار تكادُ تكونُ لا قيمة حقيقية لها . قالت إنها مجرد دمية تحركها قوى خفية لا تدرك منها إلا نتائجها وخاتماتها الفاجعة في أغلب الأحيان . إنتبهتُ ! لماذا تتكلم الزهراء عن الخواتم المفجعة ؟ هل أسالها وهل ستوضح إذا ما سألتُ ؟ بل سأُرجئ مناقشة هذا الموضوع معها ما بيننا ومن خلال تبادل الرسائل الألكترونية لعلها تستجيب لندائي وشوقي لمعرفة أسباب ما يعكر أجواء حياتها وهي لم تزلْ في مقتبل العمر وعنفوان شبابها . أعرف من خلال صورها المنشورة في المواقع أنها تبدو حزينة أو ميالة لنوع ولون خاص من الحزن العميق لا تعرف سره إلا ملائكة السماوات . الحزن شأنها الخاص كبقية خصوصيات البشر التي لها حرمتها بل وحتى قدسيتها . لم نلتقِ ثلاثتنا هنا في الجزيرة الإسبانية إيبيزا لكي أعكّر أمزجة ضيفاتي الأثيرات ومن لي غيرهن في الحياة إذا فقدتهنَّ ؟ ستنتقل عدوى الحزن العميق عندذاك إليَّ من الزهراء وإني رجلٌ لا يُطيقُ المزيد من الحزن بعد أنْ جربتُ منه الكثير أشكالاً والواناً . للناس سعات محدودة لإستيعاب الحزن وخزنه وتمثيله ما بين الصدر والقلب والكبد فإنْ لم تتم عملية تمثيله سريعاً فلربما قتلَ صاحبه أو أسلمه لداء الكآبة ( السوداوية ، المالنكوليا ) المزمنة والعوذ بالشيطان الرجيم . تآمرت الضيفتان عليَّ وقد رأين ذهولي وشرودي عنهما وكان ذلك سوء أدب مني لا ريب . هل يُعقلُ أنْ أدعو ضيوفاً للقاء حميم نادر كما في الأحلام ثم إنصرف عنهم بفكري تاركاً لهم جسداً خالياً ناحلاً لا يحلُّ ولا يربطُ ؟ هزّتني من ذراعي سهيلة ، وحسناً ما فعلتْ ، إذْ أعادتني هِزتُها لواقعي وإليهنَّ ... ضيفتيَ الغاليتين . أفقتُ من الذهول واعتذرتُ صادقاً وبحرارة أني لا أدري أين سرحتْ بي أفكاري ولا أدري أين كنتُ ، حتّى . قالت قد قبلنا أعذارك شرطَ أنْ تقصَّ علينا ما رأيتَ قبلنا في هذه الجزيرة وعما أعجبك وما لم يعجبك فيها وما كانت أسعد لحظاتك فيها وما كانت المناسبة . سمعاً وطاعةً يا سيدة السهول والتسهيلات ولكن ، هل الفاطمةُ الزهراءُ معك في طلبك المعقّد هذا ؟ هزّت الزهراء بنت مجبير رأسها موافقةً . هل هي مؤامرة حوائية ضدي جاءت صدفةً أم قد تم ترتيبها قبل اللقاء ؟ ما جدوى أنْ أقصَّ عليهنَّ تفاصيلَ ما رأيتُ ما دُمنَ جئنَ لرؤيةِ ما رأيتُ ؟ إضاعةُ وقتٍ أم إيقاع عقوبة على رقبة مسكين مثلي دعاهنَّ لتسليتهنَّ والتنعّم برفقتهنَّ ضيفاتٍ عزيزاتٍ غالياتٍ ألا تبّتْ يدا أبي لَهَب ! صحيحٌ إذاً ما قال بعض سلفنا [[ ما جزاءُ الإحسانِ إلا الإساءة ]] . ضحكت عالياً ضيفتايَ الساميتان فلقد كنَّ معي في عميق أفكاري وطُرُقات شرودي وتفصيلات هواجسي وظنوني . لديهن أجهزةٌ سريةٌ تلتقط نأمات الضمائر وما يخططُ المرءُ في سرّه وكيف يتقلّب في هواجسه وكيف ومتى ينتهي إلى قرارٍ جاهز للتنفيذ . لذا لديهنَّ القدرة الجبارة على إحباط هذه القرارات وإفشال الخطط قبل ساعة التنفيذ فأين المفرُّ منهنَّ يا أمنا حواء ؟ كانت الزهراء مثلي شاردة في تفكير عميق لا قرارَ له ولا ساحلَ ولا مرفأ . أمرٌ ما ذو شأنٍ خطير يقلقها ويسببُ لها حزناً شديد الوضوح ليس هيّناً عليَّ قبوله . كيف أُشرِكُ المتفائلة دوماً والباسمة أبداً السيدة سهيلة في أمر مساعدتي لإخراج الزهراء من ظلام ليل حزنها الحالك الذي أحال لون بشرة وجهها إلى مزيج غريب من اللون البنيِّ والليموني الشاحب . هل لي علاقة ما لما هي فيه من هم وشرود ؟ هل أنا سببُ ذلك أو كنتُ بعضَ أسبابه ؟ لِمَ لا تُفصحُ وتوضحُ وتُبين ؟ غموض بعض الناس يقتلني فمن لي بالقدرة على إخراجها من سجن غموضها وكشف عميق سرها ؟ وجدتها وجدتها ، نعم ، وجدتها . إقترحتُ على ضيفاتي أن نغادر المقهى للتمشي حُفاة الأقدام على رمال ساحل البحر فالشمس رائعة اللون في أفقها والبحر رخيُّ الموج والزوارق السريعة والبطيئة رائحة غادية لعل هذه الأجواء والمناظر تبدّل نفسية فاطمة وتعود إلى سالف طبعها الشفاف المحب للنكتة والعائم في بحورالرومانسية المغربية . لم تمضِ إلا بضعة دقائق لنجدَ أنفسنا حفاة الأقدام نتمشى جذلين بين ماء البحر ورمل الساحل. كانت الزهراءُ أكثرنا جَذَلاً وأكثرنا سروراً فعادت إلى أيام طفولتها تلعب وتلهو مع البحر ومما يجرفه الموج إلى الساحل من محّار وما يتجمع من حصى متفاوت الألوان والتشكيلات . كانت في قمة سعادتها وأوج حبورها حتى شرعت تُغني بأجمل صوت أرق الأغاني مما نعرف وما لا نعرف . ما أروعها حين يصفو مزاجها وتتألق روحها الإنسانية والأدبية حتى لتبدو كأنها تحلّق هائمةً خارج حدود الطبيعة وما وراءها . دخلتْ ـ رغم خوفي وتحذيري ـ في ماء البحر حتى غطّى الماءُ المالحُ ركبتيها وصارت تلهو وتعابث الماء بكفيها ... تجمعُهُ ثم تبعثرهُ في الهواء في نشوة لم أرها فيها قبلاً حتى خُيلَ لي كأنها سكرى وجدٍ غامض لا تعرف كنهه . تحررت الزهراء روحاً وجسداً فلقد وجدتْ ضالتها ودواءها في رمل الساحل وماء البحر الممتد أمام عينيها وخيالها زرقةً غامقةً وهيبةً لا تلمسها يدُ إنسانٍ ولا تفسرها حواسه التي بلّدتها المدنُ والتلوث وخرسانة وحديد المباني والطرق والجسور . بقيتُ وسهيلة على شاطئ البحر مشدوهين لما نرى من فتنة بشرية ـ بحرية تتبادل اللهو البرئ مع بحر غدّار ليس الأمان من طبعه . كنتُ خائفاً أنْ يستدرجَها البحرُ بسحره وغموضه قبيل مغيب الشمس فتسرف في لهوها بمائه وإستغراقها بمتعة لهوها وتمضي أعمقَ فأعمقَ حتى يُحدِّقَ بها خطرُ الغرق . تخليتُ عن قميصي وتأهبتُ لمواجهة كل طارئ سيّء . كان قلبي يدقُ عنيفاً وكنتُ أكتم عن سهيلة مخاوفي . كانت أشجع مني فلم تكنْ لتبالي بما ترى . أما أنا فكان في رأسي صدى أرجوزة قديمة كنتُ أسمعها من المرحومة والدتي زمان طفولتي حين كنتُ أُشاكسها [[ كلبي على كلب ولدي // وكلب ولدي من صخر ]] . أي قلبي على قلب ولدي لكنَّ قلبَ ولدي من صخر . ليس في قلب الولد حنين أو شفقة على أمه . فهل قلبكِ من صخرٍ يا فاطمة الزهراء ؟ إنحدر ربع قرص الشمس في البحر فشعَّ في السماء لونٌ أحمرُ ـ برتقاليٌّ لا أحلى منه. عندذاك تركت الزهراء بحرها وعادت إلينا دون أن تدري أن أكثر من نصف ثوبها البرتقالي الجميل كان مبتلاً بماء البحر . كان المساء دافئاً فلا خوفَ عليها من نزلة برد أو موجة عطاس مزعجة . كان البحر كله في عينيها والوجود كله في صدرها فما أوسعَ العينين والصدر في تلك الساعة . لماذا ذهبتِ بعيداً في البحر يا فاطمة ؟ قالت لا أدري . البحرُ أخذني إلى مسقط رأسي في الدار البيضاء . شوّقني لأمي فقلبي على قلب أمي وإنه جزءٌ من قلبها . هل تحسين بشئ من البرد وملابسك يا فاطمةُ مُبتلّةٌ ؟ قالت كلا ، في جسدي وفي قلبي كل دفء الكون كواكبَ وشموساً . كنتُ مع أمي هناك فليتكما كنتما معنا حيث مائدة الطعام ممتدة في فناء الدار وكانت والدتي في إنتظار أبي لتناول العشاء سويةً كما هو دأب العائلة منذ قديم الزمن . أي تحوّل طرأ على هذه الشابة اليافعة اليانعة بعد أنْ دخلت البحرَ وداعبت ماءه وتهيأ لها أنها كانت هناك في مدينتها مع ذويها شاركتهم طعام العشاء ثم عادت لتلتحق بنا تشاركنا متعة التمشي الطويل على رمال البحر الذي سحرها وأفقدها أكثر وعيها فصارت تتخيل وتحلم وهي تشتت ماءه المالح وعيناها شاخصتان في أفقٍ ممتد تحسبه ينتهي أمام باب بيتها في الدار البيضاء المغربية . وتمشينا طويلاً حتى هدّنا التعب فعرّجنا على مطعم صغير مطلٍّ على البحر مباشرةً يقدِّمُ الدجاج المشوي . هل نأخذ الحافلةَ رجوعاً لفنادقنا أو نقطع المسافةَ الطويلةَ مشياً على أقدامنا المتعبة ؟ حلَّ الظلامُ فلا معنى للتمشي في طرقات المدينة المزدحمة بالسيارات ووسائط النقل الأخرى .
إلتقينا صباح اليوم التالي في مقهى سيدوري السومرية على ساحل البحر وكان يومنا الأخير . إتفقنا أنْ نلتقي في شهر آب ( أغسطس ) القادم في العاصمة الجيكية براغ ففيها نهر جميلٌ كثير السحر والإمتاع .
حسب طلب بعض الأصدقاء كتبت المشاهدات الآتية عن جزيرة إيبيزا الإسبانية :
مفاجآت كثيرة بعضها متوقع والبعض الآخر غير متوقع أبداً .
إيبيزا هي الجزيرة الأم ولكن فيها مدناً رائعة الجمال والتنظيم وهندسة عمارة الدور والفنادق والشوارع أخص بالذكر منها مدينة سانت أنطوني
Sant Antoni
والثانية سانتايولاريا
Santa Eularia
.. لم أرَ في حياتي طولاً وعرضاً أجمل منهما ولا أروع . قمت بجولات بحرية قصيرة وطويلة وكانت الطويلة منها مملة ... تصوري ماذا يفعل السائح حين يضعونه أمام خيار واحد أنْ يقضي سبع ساعات في جزيرة صغيرة مقترحين انْ يقوم بجولة مكوكية بالحافلة أو أن يستأجر تاكسي وكان لحسن حظي أن تعرفت على شاب مغربي في حوزته سيارة فوضعها تحت تصرفي ودار بي أربع مدن ساحلية عادية لا يميزها شئ فوق العادة . إسم هذه الجزيرة فورمنتيرا
Formentera
لذا صرت والمغربي أتنقل خلاصاً من سيف الوقت بين مقهى ومقهى ومطعم وآخر
المدينة الثالثة التي زرتها من مدن إيبيزا وليتني لم أزرها ! هي
Portinatx
لم تكن مدينة كباقي المدن الجميلة التي رأيتُ ولكنْ وجدتها عبارة عن ساحل صغير جداً نصف دائري صخري مع عدد قليل من الفنادق والمطاعم والمقاهيُّ تطلُّ عليه من مرتفع عالٍ . ما سبب شهرة هذا المصيف الذي رأيت فيه عدداً كبيراً من العوائل الأمريكية ؟ لا أعرف !
الطرق المؤدية بالحافلة إلى هذه المدن رائعة الجمال تحيط بها سلسلتان من الجبال الغاطة بالخضرة وبساتين الحمضيات المختلفة وحقول الكروم وأشجار النخيل المختلفة الأطوال وسمك الجذوع أعذاقها ذهبية متدلية لكنهم للأسف يتركونها دون تلقيح لذا لا يجنون منها تمراً .
وماذا عن سكان هذه الجزيرة ؟ لم أرَ فيهم وجهاً إسبانياً صميماً إلا في النادر ! ما تفسير ذلك ؟ حتى في مطار الجزيرة كانت موظفات تدقيق جوازات السفر وتفتيش أجساد المغادرين من أقبح الوجوه .
ماذا عن جزيرة إيبيزا
Ibiza
نفسها ؟
شوارع جميلة لكنها ضيقة وبيوت حلوة المعمار وفنادق راقية باذخة التشكيل كنت سعيداً بفندقي وخدمات مطعم فطور الصباح .
كنت في شقة كبيرة مزودة بمطبخ وثلاجة وغرفة طعام وغرفة إستقبال مع تلفزيون وبلكونة على البحر تماماً وغرفة نوم بدولاب ملابس كبير مخفي في الحائط . الفندق مجهز بحمام سباحة صيفي لكن ما كان الماء ساخناً ولا حتى ماء البحر لذا لم أرَ ناساً يعومون
في البحر إلا الأقل من القليل .
تمشيت يوماً طويلاً بين ماء البحر ورمل الساحل حافي القدمين بسروال قصير ... تمشيت طويلاً حتى أحسست فجأةً بالتعب فطرحت جسدي المتعب على رمال الساحل وكنت بالطبع عاري الصدر وكان صندال أقدامي مخدةَ رأسي وغفوتُ بالفعل .
الساحل ضيق وأجزاء كبيرة منه غير نظيفة والفنادق والمطاعم والمقاهي تقع مباشرة على برومينادا البحر ولعل هذا أحد اسباب إتساخ رمل الساحل .
كانت مصيبتي هناك مع الطعام !! يغشّون فيه كميةً ونوعاً فكنت أعاني من متاعب في معدتي جعلتني أكون جزئياً نباتياً لذا غدوتُ أحد زبائن المطاعم الصينية والتايلاندية شبه الدائمين فطعامهم نظيف ورزهم ممتاز ودجاجهم بالكاري لا مثيلَ له فضلاً عن سوب المشروم اللذيد .
نعم ، الغش متفشٍ بشكل يجنن ... يغشون في حساب التلفون وفي حساب أجور الكومبيوتر وهناك بالطبع إستثناءات قليلة .
الفاكهة والخضرة واللحوم غالية الأثمان حتى يفوق ثمن البعض منها أسعار مثيلاتها في ألمانيا بمرتين أو مرة ونصف . بل وحتى الماء المعدني والكولا وأخواتها غالية بشكل لم أكن أتوقعه أبداً . ليس في الجزيرة مخازن كبيرة مثل كاوفهوف أو هرتي أو كارشتاد وما يعُرض من ملابس رديئة النوعية لذا فهي رخيصة الثمن ولا غشَّ فيها .
كنت مسروراً بالتمشيات الطويلة عاري القدمين على رمال البحر مع غصّة كبيرة أنَّ ماءه البارد لا يسمح لي بالسباحة فيه .
السياحات بالحافلات إلى المدن الجميلة المجاورة كانت إحدى سلواتي وهواياتي المفضلة فالطبيعة زاهية بالخضرة واشجار الناسبولي والليمون الحامض وفاكهتهما ناضجة خلافاً لباقي أشجار الفاكهة كالتين والبرتقال والكمثرى وسواها على سبيل المثال.
أشجار النخيل يفوق عددها الحصر وعذوقها مدلاة لكن التمر فيها لا ينضج للأسف لأنهم لا يلقحونه كما يفعل الأمريكان في كالفورنيا وفلوريدا مثلاً .
مغاربة كثيرون أينما وليتُ وجهي وإلى اية مدينة توجهت حتى في الأقاصي ونساؤهم محجبات يتمشين في الشوارع دافعات عربات
أطفالهن وجارّات خلفهن عدداً من الأطفال . ...
أكلت الشاورمة / دونر كباب في مطعمين مغربيين ووجدت لحسن حظي مطعماً مختصاً بتقديم الدجاج المشوي وهو إسباني .
كنتُ مسروراً بالتمشيات الطويلة في المدينة وعلى السواحل . وكنت مسرورا وسعيداً بإقامتي حيث الخدمة يومياً والفطور جيد شديد التنوع ..
عدتُ إلى ميونيخ متعباً بشكل غير عادي ولا أعرف السبب ولحد اليوم أشعر بتعب وميل كبير للنوم فأنام كثيراً .
أسبوعان كثير على هذه الجزيرة وما جاورها
والجميل من مدائنها . اسبوع يكفي أو عشرة ايام على الأكثر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق