الاثنين، مايو 04، 2009

عن محاويل الذاكرة

د. عدنان الظاهر

( ناحية المحاويل 1940 ـ 1950 )

مَن أسّسَ بلدة المحاويل ومتى ومَن أطلق عليها هذا الإسم وما معناه ؟

لم أجدْ في كل ما قرأتُ من كتب التأريخ القديمة والحديثة أيَّ خبرٍ عن هذه البلدة أو تأريخ نشأتها علماً انَّ الإسم الذي كان متداولاً ومعروفاً عنها هو [ خان المحاويل ] . وبالفعل ، فلقد كان فيها خانٌ كبير جداً مبنيٌّ بالطابوق المفخور القوي الذي قاوم عوادي الزمن وبقيَ بناءُ الخان شامخاً بقبابه النصف كروية وبحجراته الواسعة الكثيرة العدد . كان للفترة المذكورة في أعلاه مهجوراً وحجراته مظلمةٌ رطبةٌ مملوءةٌ بالخفافيش بين المتعلق مقلوباً والطائر بين الجدران والطالع في مهمات خاصة . كنا ـ أطفالُ ذاك الزمان ـ نكرهُ هذه المخلوقات الغريبة العادات والأشكال والأطوار بل ونخشاها إذْ كان الأهل يرددون على مسامع أطفالهم أنَّ الخفّاشَ إذا إلتصق بوجه أحدٍ من البشر تصعب إزالته عندذاك إلا إذا سُلطتْ عليه مرآةٌ ! كنا ندخل الحُجُرات الرطبة المظلمة جماعاتٍ جماعاتٍ ونرشقها بالحجارة وهي مُعلَّقة بالمقلوب على الجدران فيسقط منها من يسقط وينجو من ينجو ثم نولّي هاربين بأقصى ما نستطيعُ من سرعة خوفاً مِن أنها قد تُلاحقنا حتى بيوت أهلينا وكنا نكتمُ هذا الأمرَ عنهم خوفاً من الردع أو العقاب . المهم : هل أخذت البلدةُ إسمَها من هذا الخان فسُميّت خان المحاويل أم أنها كانت موجودةً أصلاً هناكَ قبل بناء الخان فيها ؟ مَن أسماها المحاويل وما تفسيرُ هذا الإسم ؟ أظن ... أظنُّ وأنَّ الكثيرَ من الظن إثمٌ ... أظنُّ أنَّ للخان علاقة وثيقة بإسم البلدة . أرى أنَّ الإسمَ " محاويل " مشتق أو محرَّفٌ من الفعل تحوّلَ يتحوّلُ تحويلاُ أو تحويلةً والمحاويل جمعٌ له ما يماثله في اللغة العربية بديلاً عن تحاويل جمع تحويلة . مثل ذلك كمثل الفعل سبّح يُسبِّحُ تسبيحاً وتسبيحةً وتسابيح تماماً كمحاويل أو تحاويل . وفي هذه المقام نحن لسنا بعيدين عن الفعلَّ الآخر حوّلَ يُحوِّلُ تحويلاً . إذاً فهذا الخان ( خان المحاويل ) كان مكاناً يستريحُ فيهِ المسافرون القادمون من مدينة النجف وباقي مدن جنوب العراق ووسطه في طريقهم إلى بغدادَ العاصمة وسواها من مدن العراق الأخرى . أو القادمون من كربلاء حيث ضريح الحسين . فالخان هو محطّة إستراحة كفندق مجاني وبلدة المحاويل والحالة هذه تمثّلُ مرحلة من مراحل السفر إلى بغداد ومنها إلى باقي مدن الوسط والجنوب . لا أعرفُ كم فرسخاً تبعدُ عن الحلة والفرسخُ كان وحدة المسافات في ذلكم الزمان ... لكني أعرف أنَّ المسافةَ بين المحاويل والحلة عشرين كيلومتراً بالطريق الحديث الرابط بينهما وكنتُ أقطعها بسيارتي بحوالي الربع ساعة أو عشرين دقيقةً أوائل ستينيات القرن الماضي .

يبدو من الإسم أنْ في هذا المكان بالذات تجري عمليات تحويل المسافرين من عربة إلى أخرى وإبدال الخيول التي كانت تجّرها بأخرى أخذت قسطها من الراحة والماء والطعام ( العَلَف / شعير أو تبن جاف أو حشيش كصيل وقتَ الربيع ) . كذلك الأمر بالنسبة لخيّالة بريد حكومات ذلك الزمان إذْ درجوا على تبادل مهمات إيصال بريد الحكومة بين مرحلة وأخرى ففريقٌ يستريح وفريق يواصل المهمة فضلاً عن حماية المسافرين وتأمين طرق القوافل . المهم ، كانت هنا في هذا المكان تجري عملية التحويل وجمعها تحويلات أو تحاويل التي غدتْ بمرور الزمن محاويل .

متى تمَّ بناءُ هذا الخان ؟ لا أحسبه يرقى إلى الزمن العباسيِّ فآجرُّ بناء الخان كان قوياً صلباً غيرَ متآكل حتى بدايات أربعينيات القرن الماضي وربما أخذ بعض الأهالي الكثير من هذا الآجر الممتاز وشيدوا به منازلهم كما فعل بعضُ أهل الحلة بطابوق بابل ! لم يكنْ في الخان بئرٌ ولا غرابة ، فإنه كان على مبعدة 300 ـ 400 متراً من نهر المحاويل تقريباً ومكانه في وسط البلدة حتّى ذلك الوقت ( أربعينيات القرن الماضي ) . متى إذاً تمَّ تشييد الخان وفي زمن أي والٍ عثماني وسلطان إذا سلّمنا أنه بناءٌ غير عباسي ؟ هل شيّده المغولُ أو غيرُهم قبلَهم أو بعدهم وقد توالت على حكم العراق شعوبٌ وأقوامٌ وقامت في الحلة إمارات أكثرها شهرةً إمارة الأمير نور الدولة دُبيْسْ من آل مِزيَد الأسديين * ( 408 ـ 474 هجرية ) الذي جاءه الشاعر مهيارُ الديلمي مادحاً قائلاً في قصيدته :

وأنَّ بابلٍ منكم لَبحَراً

لو أنَّ البحرَ جادَ كما يجودُ

إذا الوادي جرى ملحاً أُجاجاً

ترقرقَ ماؤهُ العذبُ البَرودُ

فتىً في السنِّ مُكتَمِلٌ حِجاهُ

طريفُ المُلكِ سؤددهُ تليدُ

ويأبى اللهُ إلا مِزيدياً

على أسَدٍ يؤمَرُّ أو يسودُ

إذا اشتبهتْ كوابكمُ طلوعاً

فنورُ الدولةِ القمرُ الوحيدُ

تراهُ الخيلُ أفرسَ مَنْ تمطّتْ

بهِ والجيشُ أشجعُ مَنْ يقودُ

كما قامت في الحلة إمارة أخرى هي الدولة الجلائرية ( 826 ـ 835 هجرية ) ** . فهل كانت هاتان الإمارتان [ أو إحداهما ] معنيتين بتأمين البريد والطريق وسلامة المسافرين بين بغداد وباقي مدن وسط وجنوب العراق فاتخذتا من خان المحاويل محطةً للراحة والتزوّد بالماء والطعام وتبديل خيول رجال البريد وعربات المسافرين ؟ جائز ولكني أرجِّحُ أنَّ بلدةَ المحاويل هي بلدةٌ قديمة سبقت بناء الخان بعقود وعقود نظراً لموقعها على الطريق الرئيس الذي يربط جنوب العراق بوسطه وشماله . ولأنَّ فيها نهراً جارياً في كافة فصول السنة فرعاً من شط الفرات / فرع الحلة . ولأنها محاطة بعدد لا يُحصى من البساتين والمزارع وهي بذا توفِّرُ كل ما كان يحتاجه المسافرُ الماشي على قدميه والراكب دابةً أو عربةً وكل ما قد تحتاجه قطعات عساكر الدول التي حكمت العراق حتى آخرها حكومات سلاطين آل عثمان ثم الإنكليز الذين عاصرنا إحتلالهم للعراق حتى قيام ثورة تموز 1958 . لذا ما كان صدفةً أو عبثاً أنْ أقام الإنكليز قريباً من شمال المحاويل في الطريق إلى بغداد معسكرا حربياً عام 1941 الذي تحول فيما بعد إلى مدرسة ريفية ثم معسكراً للأجئين الفلسطينيين عام 1948 .

إذاً بلدة المحاويل أكثر قِدماً من الخان . أُرجّحُ أنَّ أسمها ( محاويل ) القديم ظلَّ كما هو مع إضافة ( خان ) بعد بناء هذا الخان لتغدو خان المحاويل . الطريف أنَّ أهالي المحاويل الكرام لا يعرفون تأريخ مدينتهم ولا أصلها ولا مَن أسسها وما كانوا مهتمين بهذه الأمور عدا ـ أتذكرُ جيداً ـ أنَّ نفراً قليلاً من بين المعلمين المحاويليين كانوا في معرض الهزل والتنكيت وساعات السكر يتندرون مفلسفين أصل تسمية بلدتهم فكان قائلهم يقول : أسسها إثنان رجلٌ إسمه " محا " وإمرأة إسمها " ويل " وحاصل الجمع بالطبع هو " محاويل " فيتضاحكون مرحين بأصواتٍ عالية . كما أتذكر المرحوم الأستاذ عبد الجبار عبيد السلطاني حين يلعب مع باقي زملائه وأصدقائه الطاولي أو الآزنيف [ ولا سيما محسن علي العبّاس وكاظم بريسم ] ولا يؤاتيه الحظُّ في اللعب يصرخُ عالياً : لعنةُ الله على روح محا و ويل وكل مَن ساهم في تأسيس هذه البلدة !!

الشئ بالشئ يُذكر . قرأتُ مرّةً في كتاب لا أتذكر إسمه أو إسمَ مؤلفه ... لفتَ نظري واحدٌ من علماء الأدب العراقيين القدامى أو الفقهاء أو المؤرخين إسمه كذا المحاييلي !! فهل كان هذا الرجل من بلدة إسمها المحاييل قبل إنقلاب إسمها إلى محاويل ؟ هنا تعترضنا إشكالية لغوية ، فالمحاييل كما أراها جمع مُحتال ، حيّال كما نقولُ في العراق ... حيّالون ... محاييل ... محتالون ... محاتيل . لا أحسبُ تسمية هذه البلدة ، كشأن أغلب أسماء المدن ، تخرجُ عن أُطُر اللغة واشتقاقاتها فلنبحث في اللغة العربية عن أصل ومعنى كلمة محاويل .

ملاحظة : ما سبب خلوِّ طريق بغداد ـ الحلة من خانات إستراحة تحويلية أخرى شبيهة بخان المحاويل ؟ أكانت بالفعل موجودةً ثم درست ؟ أين بالضبط أماكنها خاصةً ليس صعباً تحديد هذه الأماكن إذا إعتبرنا المسافة بين الحلة وخان المحاويل هي 20 كيلومتراً هي مسافة قياسية تتكرر دائماً لتثبيت مواقع محطات البريد الحكومية وإستراحات للمسافرين والسابلة وغيرهم من طالبي الراحة والماء والطعام ومبيت الليالي ؟ يغلبُ على ظني أنَّ مثل هذه المحطات كانت موجودة وأجتهدُ أنْ أقدِّرَ أماكنها كما يلي : الحلة ـ خان المحاويل ـ الحصوة ـ المحمودية ـ كرخ بغداد . ففي الحصوة نهرٌ صغير والمحمودية قريبةٌ جداً من نهر اليوسفية والنهر شرط ضروري لقيام البلدات والمحطات والمدن . إذا كان الأمرُ كذلك فلِمَ لمْ تُطلق تسمية هذه البلدات الثلاث الإضافية بخان الحصوة وخان المحمودية أسوةً بخان المحاويل ؟ الجواب ـ ربما ـ لم تُشيَّدْ خانات في هذه البلدات لكنها كانت بالفعل محطات توقف للإستراحة التحويلية والتزود بالماء والطعام أما المبيت ففي المساجد والجوامع وهو أمرٌ مألوفٌ في العراق حتى اليوم . يبقى خان المحاويل لُغزاً كبيراً ينتظر حلّه والكشف عنه وهذه مهمة المؤرخين وباحثي الآثار ولا أدري هل بقيَ شئٌ من هذا الخان اليوم أم قد إنمحى وانقرضَ ؟

أهل المحاويل

أهلُ المحاويل عربٌ أقحاحٌ ، وكلُّ مَن عاش في المحاويل يعرف أنَّ لهم لهجات في الكلام مختلفة الأمر الذي يدلُّ على أنَّ أصولهم العشائرية هي أصولٌ مختلفة . طبيعي أنْ يكونوا ـ شأن باقي سَكَنة مدن العراق الكبيرة المعروفة ـ قد جاءوا المحاويل من أطرافها وحزامها العشائري القريب منها . فعشيرة زبيد ( رئيسها أبو حاتم وحِمْيَرْ محمد بك الرشيد ) منتشرة بين قصبتي الصباغية والإمام ليس بعيداً عن المحاويل . لا أعرف من باقي العشائر المحيطة بالمحاويل إلا عشيرة الدليم [ ألبو علون ] في الخاتونية بين الحلة والمحاويل ... لكنَّ الطريفَ في أمر هذه العشيرة أنْ لا من أحدٍ من أفرادها إستوطنَ المحاويل . كذلك الأمرُ بالنسبة لتجمع خاص ما كان عشائري التكوين والطابع هم ألبو مصطفى ، تجمعُ أفرادهم وعوائلهم قراباتُ دمٍ متينة ولا أدري هل كانوا متحدرين من قبائل معينة أم لا ؟ لم تكن المنطقة الخاصة بهم تبعدُ عن المحاويل إلا لبضعة كيلومترات وكانت تقع تماماً على ضفاف نهر الفرات / فرع شط الحلة . كان هؤلاء القومُ سادةً ولكن من السنة ويمتازون بجمال الوجوه وبياض البشرات وزرقة العيون وطول القامات . لا أعرفُ شيئاً دقيقاً عن إقتصاد قصبة ألبو مصطفى وهل كان أهلوها ومالكو أراضيها الخُصبة مزارعين أو ملاّك بساتين لكني أعرف أنَّ بينهم عوائل ليست منهم كان رجالها يمتهنون فلاحة وزراعة الأراضي فهل كان هؤلاء مجرد فلاحين لأولئك أو كانوا من مالكي أراضيهم الخاصة ومزارعهم وبساتينهم ؟ التكوين الإجتماعي للسادة من آلبو مصطفى تكوين يثيرُ الإنتباه ! ما كانوا شيوخ عشائر وما كان فيهم منهم شيخٌ رئيسٌ يتزعمهم وما كان فيهم إقطاعيون كبار وكانوا مكتفين ذاتياً بما لديهم . فمن أين نزحوا للمحاويل وما أصلهم وما جذورهم العشائرية أو مناطقهم الأم . ما كانوا يتلقبون بإسم عشيرة غير ألبو مصطفى وهذا لا يكفي لتتبع جذور وأصل أرومتهم . كما أنهم لم يستعينوا بإسم مدينة كما كان الأمرُ شائعاً بين العراقيين من قبيل الفلوجي والراوي والعاني والسامرائي والهيتي والبغدادي والموصلي على سبيل المثال . كما لم يستقر أحدٌ منهم في بلدة المحاويل إلا السيد مصطفى علي الخليل الذي كان يتنقلُ ما بين المحاويل وبغداد حيث مقر عائلته ومدارس وكليات أولاده وهم أصدقاء أعزّاء .

في المحاويل عوائل تحمل لقب [ الخفاجي ] و [ السلطاني ] و [ الزبيدي ] و

[ الدُهيمي ] و [ الجبوري ] وهي من أكثر الألقاب العشائرية شيوعاً في بلدة المحاويل .

بساتين المحاويل / إقتصاد المحاويل

تحيطُ ببلدة المحاويل بساتين نخيل بشكل أساسي ، ويغلب على حدسي أنَّ المنطقة بأكملها كانت عبارة عن غابات من النخيل المتنوّع الثمر ، لماذا ؟ لأني وجدتُ في الفترة المحددة بذكرياتي عن هذه البلدة أنَّ في بيوت غالبية أهاليها العظمى بساتين من أشجار النخيل من حيث الأساس مع بعض أشجار الحمضيات وسواها القليل . واضحٌ أنَّ أشجارَ النخيل هذه كانت هناك قبل قيام وتأسيس البلدة وليس مِن شتل وزرع مؤسسي بيوتها ومالكيها . هناك إستثناءات قليلة فيما يخصُّ ما في بعض البساتين المحيطة ببلدة المحاويل من أشجار فاكهة التفاح والمشمش والتين والأعناب المنوّعة الطعوم والأشكال والتسميات كالعنب الأبيض والأسود وديس العنز . أما أشجار الحمضيات فلم تكن شائعة في بساتين المحاويل لا في بيوتها ولا في تلك المحيطة بها . كانت الحمضيات تغزو سوق المحاويل شتاءً عادة قادمةً إليها بوجه خاص من منطقتي الصباغية والإمام مع القليل من الرمان والكوجة . وعدا مزرعة السيد مصطفى الخليل ، لم تزرع المحاويل قمحاً ولا شعيراً . ثم ما كانت معروفة زراعة القطن والسمسم ونباتات عبّاد الشمس ولا حتى الذُرة على حدِّ علمي . مع ذلك كانت في المحاويل دائماً ماكنة طحين يديرها مع أولاده السيد حمزة مكينجي وكان أغلب زبائنها من أعراب أطراف المحاويل فقد كانوا يزرعون الشعير بالدرجة الأولى طعاماً لهم ولدوابهم ثم القمح [ الحنطة ] ربما للبيع أو المبادلات مع غيره من الغلاّت .

الأفاعي في المحاويل

أتذكّرُ جيداً كيف كنتُ أرتعبُ من رؤية أفعى تزحفُ أو تتسلق شجرةً أو تدخلُ شقّاً في سقفٍ أو حائط أو تعوم في النهر ويا طالما رأيتها حتى في المدرسة وفي بيتنا وفي البساتين . ما كانت أفاعي المحاويل ضخمةً جبّارةً إنما كان أطولها بحدود المتر لا أكثر ثم كانت دقيقة القوام تتراوح ألوانها بين الرصاصي وهو اللون الغالب ثم اللون المائل للخُضرة في أفاعي النهر والسواقي وما جاورها من بساتين وحدائق ، ثم اللون المائل للبنّي وخاصةً في صغارها . لم أرَ أفعىً أو ثعباناً أسودَ أبداً وكنا نخاف من هذا الثعبان كثيراً لأنَّ الشائعَ بين الناس حينذاك أنَّ العربيدَ الأسود شرسٌ يهاجم البشر ثمَّ إنه سام فكان إسمه يثير في النفوس ما هو أكثر من الرعب . بلى ، رأيت حيّةً برأسين كما رأيت حيتين عجيبتين لم أرَ شبيهاً لهما في حياتي . كانت الصبيّةُ ( حسنية ) بنت العم محمد العيفان ترعى بعض غنيماتهم في بستان قريبٍ من ضفة قناة المحاويل كثير أشجار الفاكهة ولا سيّما التين الأسود والرمان الحامض وهو الغالب على رمان المحاويل فالحلو نادرٌ أو قليل . كنتُ مع مجموعة من الأصدقاء الأطفال نلهو أو نسبح في النهر قريباً من حسنية حين سمعناها تصرخ : تعالوا ... هنا حيتان عجيبتان ... تعالوا أركضوا بالعجل . هُرعنا إليها فأشارت إلى أفعيين برأسين صغيرين بحجم رأس دبّوس أو كنقطة كبيرة تلتفان على بعضهما كما تلتفُّ الجدائل صعوداً شاقولياً ونزولاً وكان دمُ يسيل من جسديهما . لم نفهم وقتذاك مغزى هذه الحركات ولكنَّ الأفعيين كانتا في طقس تزاوج وتلقيح . لم يصبر حميد مجيد المحمد ـ وكان معنا يقودنا ـ طويلاً فهجم عليهما بعصا كانت أصلاً مع الأخت حسنية فقتلَ واحدةً وهربت الأخرى لكنه لاحقها بعصاه وبضربتين لا أكثر أرداها قتيلةً . حملهما واحدةً بذراعه اليمنى والأخرى باليسر ى من ذيليهما فكان رأساهما يخطان على الأرض لفرط طولهما الذي كان بطول حميد تقريباً . حين وصلنا قلب مدينة المحاويل قرر حميد أنْ يتخلصَ منهما فرماهما من على القنطرة إلى النهر الجاري ونفض يديه . مرت أعوامٌ وأعوامٌ طويلة كثيرة لم تنسني هذا الحادث المتميّز . أفعى طويلة برأس من الصغر بحيث لا تراه العينُ المجرّدةُ إلا بصعوبة . أما الجسدان فكانا يتضخمان تدريجاً كلما إبتعدا عن الرأس . وثمّةُ حادث آخر حصل في مدرستنا أثناء ساعات الدوام الرسمي إذْ ظهرت أفعى مُرقّطةٌ كانت تدور بين الصفوف من صف لآخر فلاحقها أستاذنا لطفي سلمان برمحٍ باقٍ من زمان الكشافة لكنها دخلت شقاً في أحد الصفوف فطلب من فراش المدرسة ( جبر ) نفطاً فأتاه بقنينة ( بُطل ) ملآى بالنفط صبَّ الأستاذ لطفي بعضه في الشق وأوقد فيه النار فشرعت الأفعى تتحرك من وسطها وتلتوي ولا تُخرج من الشق رأسها فسحق وسطها بالرمح وظلَّ يسحق حتى أخرجت رأسها فسحقه برمحه حتى ماتت . أكبرتُ وقتها شجاعة أستاذنا السيد لطفي سلمان وتمنيتُ لو كنتُ مثله شجاعاً في ملاحقة وقتل الأفاعي . وحادثة أخرى مع الأفاعي لا تخلو من طرافة . كان الوقت بين العصر والغروب حين ظهرت أفعى متوسطة الحجم في نادي الموظفين المحاط بحديقة كبيرة غنّاء فأخرج أبو نزار العم السيد مصطفى الخليل مسدسه ( وما كان مسدسه يفارقه أبداً ) وصوّبه نحو الأفعى فأرداها قتيلةً بإطلاقة واحدة فقط ... حملها متعهد النادي السيد سعيد بهاء ودفنها في الحديقة الخلفية للنادي . سقطت حيتان في لحظةٍ واحدةٍ من سقف بيتنا في يوم صيفيٍّ شديد الحرارة وولتا مسرعتين نحو بيت الراحة الصيفي فسقطتا في عمق الحفرة ولم نعثرْ لهما على أثر !! كما كان أمراً مألوفاً أنْ نرى الأفاعي على شارع الأسفلت العام وهي تنتقل من جهة الشارع إلى الجهة الأخرى حيث كانت البساتين تحفُّ به من كلتا جهتيه وكنا نلاحقها بالحجارة فنقضي عليها أو تتمكن من الهرب بعد أنْ تُغيّر لونَ جلدها فنفقدُ أثرها . كثرة الأفاعي في المحاويل تُعزى بالطبع لكثرة المزارع والبساتين ولتوفر الماء في النهر وما يتفرع منه من سواقٍ وجداول صغيرة ونُهيرات أكثرها شهرةً البدعة و ساجية الجرص أي ساقية الجرص . ما كان الناسُ حينذاك يخشون ثعابين البيوت التي كانت تتعايش معهم في دورهم بين سقوف جذوع النخيل وبواري القصب بشكل خاص حيث تضع بيوضها هناك أو تبحث عن صغار الطيور والعصافير وبيوضها وأفراخها . كان المعروف بين الناس أنَّ ثعابين البيوت أليفة ودودة غير مؤذية وليست سامة . وبالفعل ، لم أسمعْ أنَّ أحداً لسعته أوقتلته بسمّها أفعى ولم يرَ أحدٌ أفعىً سامة أو إستطاعَ تشخيصها أو مسكها ثم قتلها . الظاهرة الملفتة للنظر أنَّ المحاويل في تلك السنين كانت خالية تماماً من الفئران والجرذان فما تفسير ذلك ؟ ألأنَّ بيوت المدينة جافةٌ لأنَّ معظمها مبنيٌّ من الطين أم بسبب كثرة الأفاعي التي تقتات عليها علماً أنها الوجبات المُفضّلة للأفاعي السامّة وحدها حيث تقتلها بضربها بأنياب السم أولاً ثم تنتظرها حتى تلفظَ أنفاسها وتموت فتبتلعها ببطء أو الأصح أنها هي الأفعى تدخلُ في ضحيتها رويداً رويداً مبتدئةً بالرأس المخروطي حتى الذيل الطويل وهو آخر ما تُدخله الأفعى في جوفها . لكنَّ الأفاعي السامة لا وجود لها في البيوت والجرذان والفئران كذلك لا وجودَ لها في دور المحاويل إذاً لا علاقة تربطُ بين إختفاء القوارض ووجود الثعابين السامة . ما سببُ إختفائها إذاً ؟

أبو دخيل ، العم حمزة القناط

مَنْ كان يقوم بمهمات تلقيح النخيل إذا حان وقت اللقاح ونضجت جيوبه ( الشرّاب ) ؟ العم حمزة قناط أي حمزة قناة . العم حمزة شخصية فذّةٌ جاء المحاويل من أماكن أخرى أجهلها ، كان قصير القامة ـ خلافاً لزوجه أم دخيل ـ محدودب الظهر قليلاً وكان مسؤولاً بالدرجة الأولى عن صيانة حديقة مدير الناحية ثم حدائق نادي الموظفين وما كان يفارقه المنجل أبداً . هو مَن كان يقوم بتلقيح النخيل لقاء أجور بسيطة أو حتى مجاناً في حالات كثيرة . زرع العم أبو دخيل مرةً شتلةَ رازقي في بعض زوايا حدائق نادي الموظفين وما أنْ إكتشفتها حتى سرقتها وزرعتها في بيتنا لكنَّ فرحتي بما سرقتُ لم تدمْ طويلاً إذ عرف السارق فشكاني إلى مدير الناحية السيد حسن علّو ثم زار بيتنا واقتلع شتلة الرازقي وأعادها إلى مكانها في حديقة النادي . الطريف أنَّ مديرَ الناحية أصرَّ على أنْ يرى سارق الشتلة لكني هربتُ وماطلتُ خوفاً من العقاب المحتمل رغم تطمينات والدي أنْ لا مِن عقابٍ ينتظرني إنما أراد مدير الناحية أنْ يرى وجهَ وشكل هذا الطفل الجريء الذي سرق الشتلة التي جلبها هو خصيصاً لزرعها في حديقة نادي الموظفين وكانت النبتة الوحيدة من نوعها في المحاويل .

المرجع /

*تأريخ الحلة / القسم الأول / المؤلف : الشيخ يوسف كركوش . الناشر : محمد كاظم الحاج محمد صادق الكتبي 1965 . الصفحة 16 .

**نفس المرجع / الصفحات 102 ـ 112

ليست هناك تعليقات: