مريم الراوي
لاأدري ماالذي دعاني للكتابة عن شخصية الفرد العراقي الآن..
وأظن إن لجملة " هذا العراقي من يحب يفنى ولاعاذل يمس محبوبة".. هي ماجعلتي أمسك القلم الذي فارقته لمدة كي أرسم شخصية هذا الكائن الخرافي، العالم المجبول بالجنون والدهشة والطيبة والغضب والمحبة..
كانت ولاتزل هذه الجملة تستفزني حين أرددها، أشعر إنها تمثل العراقي الحقيقي، العراقي ككل وكيفما كان، وكأنها المدخل الحقيقي لشخصيته.. بل أظن إنها العتبة الأعلى في مقام هذا المواطن الذي تجلت عظمته على مدى التأريخ القديم والحديث منه..
صورة لايمكن أن يخطئها عاقل، صفة لايمكن أن ينكرها من تعرف على أي عراقي"قلباً وقالباً"، وهنا لا نأتي الى الإستثناءات التي فرضتها الوقائع المحملة على ظهور الدبابات، أشباه البشر الحاملين رايات لانعرفها، المتكلمين بأسمنا، ولسانهم أعجمي، المنحازين لأنفسهم وللغريب، المتسلقين مستنقعات الجيف والعفن، العوالق المتمسكة بظل الخطوات الممزوجة بالدم والموت..
أنا هنا أتكلم عن الفرد العراقي، الذي فخر به التأريخ، عرفته الشعوب، ومجده الوطن.. أتكلم عنا عن تفاصيل حياتنا، بشقائها وبؤسها، بتفاصيلها الصغيرة الحزينة، بأحلامنا المصلوبة على أشرعة الإنتظار.. هنا أنا العراق، أنا بغداد، أتحدث بإسم دجلة والفرات، اواكب رحلة النخيل الأليمة عبر بوابات الموت، أرحل مع مواكب المشيعين صوب الغد، أحط نورساً عند "المسنايات" وأرقد كـ حمامة على شناشيل الهوى الملونة بالصبر وبدموع العذراوات والأرامل.. قد أصبح طيارة ورقية بيد طفل، او عروسة تلاعبها اياد الفتيات، وقد أعود مع آذان الفجر، نسمة عراقية تغازل النهارات، وشمساً تحرق الغازين ظهراً… أنا هنا طفل فقير يبيع السجائر على الأرصفة او بين السيارات، أنا الآن طفله متعلقة بثياب أمها وهي في طريقها الى العمل، أنا العاشقة التي ترسم في آخر صفحة من كراستها قلبان وعين وكلمة أحبك.. أنا صاحب القهوة وأحد روادها، أنا الوجع والحزن وكل هؤلاء أنا الآن..
وهذا هو العراقي حين يحب، ينتصر للإنسانية أجمع، يخلق كوناً من المسرات، يقاوم لأجل مايعشق، يفنى دون معشوقه دون نحيب يذكر.. قد يطعنه الزمن مراراً، ويعلو قلبه الغضب والوهن، لكنه العراقي ماوهن وإن حزن.. يرقد بصمت تحت شمس نيسان، ينظر للعابرين والقادمين، يحلم بالغد، يبتسم لكل من يخذلوه، يواسي من يسقطون من سماء عينيه، الى غياهب الدنيا، ببساطة لم يستطيعوا أن يكونوا عراقيين مثله.. لايندهش كثيراً حين يراهم يبتعدون حاملين أحلامه، تفاصيله المحببة لقلبه، لايتمسك بظلهم، لأنه يعلم إن الحب أفعال، وإن الموت دون المحبوب شيمة العشاق، فمن أراد أن يبقى، هذه أرض وسماء، ومن يحارب حتى يستحيل تراباً لأجل محبوبه فهذا عهد ووفاء، ومن أراد أن يكون غامضاً هارباً من الجنة، فله مايشاء.. وللعراقي الجميل الإبتسام..
نعم، يدرك جيداً هذا النبيل، إن المحبة والعشق أوطان منسية، لايتقن العيش فيها وبها، الا أولئك القادمين من نبضات القلب الهائم في محراب الوجد..النازحين من اليتم والحزن اليومي..
المتشبعون حد الغرق بخمرة الشوق والإلتياع.. من عساه أن يتفهم العراقي، سوى عراقي الهوى؟! بل من يدرك إن العراق هو العراق سوى الباحثين عن العشق؟!
من هنا كان العراقي قد إبتدأ، وسن أولى شرائع الحنين والإشتياق.. من هنا بدأت رحلة الصبا، وصهيل المتيمين كان قد صدح في قلوب الصبية.. فإنقلب الميناء صارخاً بوجه السفن الغريبة، رافضاً رخص الشواطئ المتنازعة على موجة شقية، خافضاً جميع الرايات الا رايات القلب، نجوماً تسبح مع دمع العين..والقلب ذلك المحراب الليلي الحزين، والأنين معزوفة الروح الأثيرة.. وعلى صخور تصفعها الغربة، يشاطر القلب مواويله و ذلك الآتي من لب الشمس، نوراً على نور.. فيصبحان رغماً عن القدر، عراقيين بإمتياز..
إذاً كيف يمكن للعراقي أن لايفنى دون محبوبه، لا يحارب دون معشوقه، لا يمتلك القلب والروح والجسد؟! كيف يمكن أن يخطئ الطريق الى القلب؟! وينحني كسيراً رافضاً الشمس، متعلقاً بالغموض، بالمسافات والمديات السحيقة؟! كيف يكون عراقي عاشق، إن لم يتقاسم الحزن والفرح، الهم والشقاء والأمل؟! كيف يمكن أن لايكون حارس ابواب عشتار؟! ورفيق أنكيدو الجبار؟! لاينبغي لجلال قلب العراقي الا أن يكون عاشقاً مستميتاً لأجل مايحب، مخلصاً شجاعاً فارساً في ميدان العشق..
الثلاثاء، مايو 12، 2009
العراقي العاشق
Labels:
مريم الراوي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق