عدنان الظاهر
أسمعُ أغنية أم كلثوم الجميلة [ ليه تلوعيني وإنتِ نور عيني ] التي تتغزلُ فيها بفتاة وتعاتبها أرقَّ عتابٍ وأجملِ نغمةٍ ونبرةِ حزنٍ فأكررُ سماعي لهذه الأغنية دون كلل أو ملل . ثم زدتُ بها هياماً إذْ أتحفني صديقٌ بعيدٌ بكتاب لروائية أجهلها ولم أسمعْ بها قبلاً . كانت هذه الروائية الغريبةُ الأطوار والبعيدةُ متورطةً في عشق فتاة أصغر منها بخمسة أعوامٍ . لقد كرّست جُلَّ صفحات كتابها في مناجاة هذه المعشوقة البعيدة هي الأخرى عنها . كانت تتصل بها ـ فضلاً عن التخيّلات والرؤى وأحلام اليقظةِ والليالي الطويلة ـ عن طريق التلفون أو الرسائل الألكترونية . حين إنتبه أهلوها إلى وضعها غير الطبيعي وكثرة ما تنفق من أجور على مكالماتها التلفونية قالت لهم إنَّ في رأسها جنيّاً خبيثاً يحملُ فايروساً خطيراً يجعلها تعشق فتاةً آيةً من آياتِ الجمال تعيش في بلد بعيد تتمنى أنْ تزورَه يوماً لكي تلتقي بمن عشقت وعشق معها ذلك الجنيُّ العفريتُ المعشعش طاغوتاً في رأسها. أسقمها هذا العشقُ الغريبُ وزهدت في الطعام فنحلَ جسمُها وجفاها النومُ وصار نادراً وغدتْ فريسةً لأوهامٍ متبايةٍ شتى . إلتوت قدمُها اليمنى ـ أو هكذا أوحى لها ذلك الجانُ المُقيمُ في رأسها ـ ففقدت القدرةَ على المشي فضلاً عن القيام والقعود وقضاء الحاجات اليومية المعتادة . عجزَ الطبُّ وأطباءُ الإختصاص من جرّاحين وأطباء عظام وكسور وسواهم ... عجزوا عن إكتشاف سر ما تشعرُ به من آلام مُبرِّحةٍ وعجزٍ تام عن الحركة . ولم تنفع معها حتى الأدوية المستوردة خصيصاً لها من أرقى البلدان الأوربية . هذا ما قالته الروائيةُ لأم كلثوم عصرَ يوم صيفيٍّ جميل في دارة هذه على نهر النيل في القاهرة. سالتها صاحبة أغنية [ ليه تلوعيني ] أكانت دوماً كذلك تُحسُّ بالعجز عن الحركة دون سبب وجيه ظاهر أو معروف فأجابت كلا ، إنما حصلَ ذلك بعد أنْ قمتُ بزيارة لبلد صديقتي الشقراء الجميلة البعيدة والتقيتُ بها هناك لقاءات قليلة قصيرة عجلى ثم أضافتْ : صديقتي ملولٌ مدللةٌ متقلبة المزاج لا تفي بوعد ولا تلتزم بكلمتها وتُخلف مواعيدي معها دون أنْ تعتذرِ أو تبررَ أو تفسّرَ الأسباب . سألتها أم كلثوم وهل كانت صديقتك تعرف أنك واقعة في غرامها إلى حدِّ الهوس المَرَضيّ ؟ قالت نعمْ ، لذا فإنها تُمعنُ في معاندتي ومشاكستي بل وإذلالي . الحب بهذلة يا أم كلثوم ! شرعت أم كلثوم تردد بصوتٍ خفيض : ليه تلوعيني وانتِ نور عيني ] .
بعد شرب فنجان القهوة مع قطعة حلوى إستأنفت العاشقةً كلامها فقالت : فضلاً عن حبّي لتلك الأجنبية الشقراء وتعلقي الشديد بها ، وجدتها نافذةً أُطلُّ على العالم من خلالها لتبديد ما أشعر به من عزلةٍ وضجر بحياتي مُقيمةً في حجرتي شبه كسيحةٍ . فضلاً عمّا كنتُ أشعر به من حزنٍ وجزعٍ على صحة ومصير والدتي التي كانت هي الأخرى مريضة . فكلما توجّعت أو أنّت أو شكتْ تضاعف شوقي لسماع صوت حبيبتي البعيدة الغائبة . أمران إثنان شدّاني بقوى أكثر من سحرية لهذه المعشوقة اللعوب : عزلتي ومحنتي بقدمي ثم مرض والدتي . ما تفسيركِ لصدّها عنكِ واللعب عليك وسلوكها غير الطبيعي تجاه فتاة طيبة مثلك بأمسِّ الحاجة لمن يكلمها ويجاملها ويتعاطفُ معها ؟ سألتها أم كلثوم . قالت الكاتبةُ لا أدري، ربما لأنها تحسبني ثقيلةَ الظلِّ عليها أتدخلُ في دقائق أمورها الشخصية أو تظنني أحبُّ أنْ أُثيرَ لغيري مشاكلَ وهذا صنفٌ معروفٌ بين البشر . وهل كنتِ بالفعلِ كذلك ؟ سألت مُضيّفتُها وفنجانُ القهوة في يدها . أجابت الضيفةُ أجل ، أحبُّ أنْ أعرفَ عنها كلَّ شئٍ الصغير والكبير : ما تأكلُ وماذا ترتدي صباحاً وما ترتدي في الأماسي وكيف أمورها خلال ساعات العمل ومَن هُنَّ صديقاتها الحميمات . ما كانت تردُّ على أسئلتي هذه إلا نادراً وبعد تعنيف وغطرسة بل وكانت تقفلُ التلفونَ في وجهي فأكتبُ لها رسالة قصيرة بالبريد الألكتروني فلا ترد . عجيبٌ أمرٌ هذه الفتاة ، تكتب لي أحياناً رسائل مختصرة جداً في أو بعد منتصف الليل حين لم أكن أتوقع أنْ تكتب لي رسائل . كلما زاد ألمُ قدمي إزددتُ شوقاً لها ، وكلما سمعتُ أنين أمّي فتحتُ الموبايل لأسمع صوت فتاتي اللعوب . ألمانِ مرتبطان بها لكأنها طبيبي وأدويتي المسكِّنة أو المخدِّرة . [ ليه تلوعيني وانتِ نور عيني ؟ ] . قادتها أم كلثوم من يدها لتتمشيا في حديقة قصرها على ضفة نهر النيل الهادئ حيث الزوارق البخارية والشراعية واليخوت السياحية محمّلة بالسياح الأجانب تصدحُ فيها أصوات الموسيقى الصاخبة والأغاني المصرية المنوَّعة بما فيها بعض أغاني أم كلثوم . أخرجت أم كلثوم من حقيبتها تلفونها المحمول مبتعدةً قليلاً عن ضيفتها وشرعت تتكلم مع الطرف الثاني .
المتنبي وعُمر الخيّام في ضيافةِ أم كلثوم
بعد فترة قصيرة قالت لضيفتها المعقّدة تهيأي ! أمامك مفاجأة كبيرة لا تمرُّ إلا في عالم الأحلام والخرافات والأساطير . ذُهلت الضيفة وانعقد لسانها حتى عجزت ـ وقد حاولت ـ عن الكلام لتسأل عن تفصيلات هذه المفاجأة . غدت أم كلثوم قلقةً بعد هذه المكالمة القصيرة فصارت تردد مع نفسها بعض أغانيها لتنأى بنفسها عما كان يُقلقها . ثم صارت توسِّعُ من خطواتها وتمعن النظر بتركيز على ما كان يجري أمامها في نهر النيل . لم يمضِ وقتٌ طويل حتى حضر الشاعر العراقي أبو الطيّب المتنبي ممتطياً ظهر حصان عربيٍّ أصيل فضيِّ اللون مُردِفاً خلفه رجلاً ( غريبَ الوجه واليد واللسانِ ) . قبّلَ المتنبي رأس أم كلثوم وسألها عمّن تكونُ الفتاة التي كانت ترافقها كأنها إبنتها ؟ قدّمتها له كأديبة ناشئة لديها طموحات كثيرة في أنْ تُصبحَ كاتبةً كبيرةً شهيرة . أشار المتنبي لرديفه أنْ يتقدمَ ليتعرفَ على السيدة التي شدتْ وأبدعتْ حين غنّتْ شعرَ رباعياته التي شَهُرت بفضلها سريعاً بين الناس . إنه إذاً عمر الخيّام ؟ قالت أم كلثوم فهزَّ الخيّامُ رأسه مؤكداً ما قالت . أمرت أم كلثومُ خادمها أن تُسرعَ في تجهيز القهوة وبعض الحلوى ثم لتنصرفَ بعد ذلك إلى إعداد طعام العشاء للضيوف الجُدُد . إعتذر المتنبي عن العشاء قائلاً القهوة وما سيأتي معها كافٍ، أما العشاء فلا لزومَ له لأنه وصاحبه الخيام لا يستطيعان البقاء طويلاً وعليهما مغادرة مصر قبل حلول الظلام . ما أنْ ذكرَ المتنبي مصرَ حتى شعّت عينا أم كلثوم من وراء نظّارتها السوداء بنور ووهجٍ غريبين مختلطين ببهجة نادرة المثال والوقع . قالت له محتجَّةً وصلتَ مصرَ ومعك ضيف يزورها للمرة الأولى وتنوي الرجوع سريعاً إلى بلاد فارسَ ؟
أم ـ أضافت أم كلثوم ـ أنك ما زلتَ تعاني من عقدة كافورٍ الإخشيدي الذي ظلمك وخانك فغدوتَ بسببه تكرهُ مصرَ وتتحاشى أهلها ؟ لم يعلّق المتنبي وكان مشغولاً بترجمة أقوال أم كلثوم إلى اللغة الفارسية . حضرت القهوة وما زالت الشمسُ فوق النيل عاليةً . ترشّفَ المتنبي قهوته على مهلٍ وهو يردُّ على إتهامه بكره مصر قائلاً : لم أكره مصراً ولا أهلها بسبب عقوق وجهل الإخشيدي ولكن كرهتها بعد إصابتي بحمى الملاريا التي أنهكتني عظماً ولحماً فربطتها بما كنتُ أُلاقي من جحود وإخلاف كافورٍ لي ولما كان يقولُ وما كان يعدُ فقلتُ فيها وفيه :
يقولُ ليَ الطبيبُ أكلتَ شيئاً
وداؤكَ في شرابكَ والطعامِ
وما في طبّهِ أني جوادٌ
أضرَّ بجسمهِ طولُ الجَمامِ
فأُمسكَ لا يُطالُ له فيرعى
ولا هو في العليقِ ولا اللجامِ
تململت أمُ كلثوم وفنجان قهوتها في يدها لتقولَ شيئاً تتهيبُ قوله . أدرك المتنبي ذلك بحواسه الخمس القوية فشجّعها على قول ما تريد أنْ تقولَ فقالت لكنك هجوتَ مصرَ وهجوتَ كل المصريين في قصيدتك الأخرى ( عيدٌ بأيةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ ) . لم يعانِ المتنبي من أيما حَرَجٍ وهو يسمع هذا الكلام . إنشغلَ بالحديث بالفارسية مع صديقه عمر الخيام ، ربما كان يترجمُ له ما كان يجري من حديث أو يُجيبه على بعض أسئلته عن نهر النيل وطوله ومنابعه وما فيه من حيوان وخاصةً التمساح والكركدن لأنَّ المتنبي كان قد ذكر الحيوانَ الثاني في بعض شعره . إعتذر المتنبي من أم كلثوم بعد فترة طالت قليلاً ثم قال : نعمْ ، هجوتُ مصرَ والشعب المصري قليلاً وخفيفاً في القصيدة التي تفضّلتِ فذكرتِ لكني كنت قد قلتها وأنا في طريقي إلى العراق بعد مغادرتي فسطاط مصر هرباً من الخصيِّ الأسود . ولم يكنْ بالطبع حينذاكَ من مجالٍ لأنْ أتوقعَ أنْ سياتي يومٌ أزورُ القاهرةَ ثانيةً فيه وألتقي حضرة السيدة أم كلثوم . أعني لو توقعتُ ذلك لما كنتُ قلتُ تلك القصيدة أو في الأقل لما قلتُ فيها ما قلتُ في هجاء مصرٍ وأهل مصر . تدخلت ضيفةُ أم كلثوم لأول مرة طالبةً السماح للكلام مع المتنبي. قالت لها أم كلثومُ تفضّلي فقالت : سيدي أبا الطيّب ! أيها العراقي الكوفي ولي تجربة مرّةٌ مع بعض العراقيين ! هل لي في سؤال ؟ قال تفضّلي يا بُنيّةُ ، إسألي عمّا بدا لك ولا تتحرجي فنحن في زمن الإنفتاح والعولمة والدمقرطية وحرية التعبير بكافة الوسائل عدا الضرب بالمسدسات أو الأيدي ، تفضّلي يا روائية . قالت الكاتبة المغلوبة بعشقها الأنثوي على أمرها أنا لشديد أسفي لا أحبُ الشعر ولم أطّلع جيداً على ديوان شعرك، هلاّ أنشدتنا ونحن في قاهرة مصر اليوم ما قلتَ من ذمٍ أو هجوٍ في مصر وأهلها في قصيدة العيد إياها ؟ قال المتنبي على الفور لم أقل شيئاً ذا بال في ذم مصرَ أو المصريين في تلك القصيدة سوى البيت :
نامتْ نواطيرُ مصرٍ عن ثعالبها
فقد بَشِمنَ وما تفنى العناقيدُ
وكان المرحومُ طه حسين شديد الإعجاب بهذا البيت بالذات . وضعت أم كلثوم فنجانَ قهوتها على الطاولة المغطاة بشرشف ثمين مطرّز بالزهور الزاهية الألوان كأنه حديقة غنّاء، غيّرت جلستها قليلاً ثم قالت : دفاعك عن نفسك في قصيدة العيد إضطرني أنْ أفتحَ معك موضوع قصيدتك الأخرى التي أوجعتنا بما جاء فيها من ذم مُقذِعٍ رغم أنك أضحكتنا على زعيمنا ومولانا الكركدن كافور الإخشيدي حيث رسمته بصور ساخرة هزلية كاريكاتورية بلغة هذا الزمان .
مقصورةُ المتنبي
إحمرّت وجنتا الكاتبة المستجدة التي ترى المتنبي لأول مرة . أعادت شدَّ ربطة رأسها فأحسَّ المتنبي أنَّ لدى هذه الفتاة مسألة تريد الإستفسار عنها . أشار برأسه لها إشارة خفيفة أنْ تكلمي يا صبيّة . يا عم ، قالت ، ما خطبُ القصيدة الثانية التي أوجعتَ أهلنا وأحبتنا المصريين فيها كما تفضلتْ للتوِّ سيدتي أم كلثوم ؟ تحرّجَ المتنبي وأراد التهرّبَ من هذا الموضوع لأنَّ فضيحته كبيرة الكبائر وداهية الدواهي . كعادته حين يروم التهرب من أمرٍ يُحرجه ، مال برأسه صوبَ جاره الخيّام وراح معه في أحاديث تبدولا نهاية لها . همست صاحبةُ القصر المُنيف المُطلِّ على النيل في أُذن ضيفتها العزيزة وغادرت مكانها ثم عادت بعد فترة وجيزة . قضت بعض حاجاتها الطبيعية فوزنها كبير وشحمها كثير والنتيجة معروفة للأطباء وغير الأطباء ! ما أنْ عادت أم كلثوم إلى مكانها حتى تجرّأتْ الروائية الضيفة فأعادت سؤالها بصوتٍ ذي نبرةٍ عالية متجهةً بكامل جسدها الثقيل الناصع البياض نحو المتنبي إشارةً ورمزاً للتحدي والإصرار . تناول قطعة حلوى وناول صاحبه قطعةً أخرى وتأهب للأجابة : قلتُ هذه القصيدة في شهر ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وثلاث مئة وأنا في طريقي إلى الكوفة عائداً إليها من مصر . القصيدة طويلة حملت إسم [ ضَحِكٌ كالبكاء ] وكانت قافيتها الألف المقصورة لذا أسماها بعض الناس " المقصورة " ، وجاراها بعدي الكثير من الشعراء كان الشاعرُ العراقيُّ النجفيُّ محمد مهدي الجواهري واحداً منهم . حثّتهُ الصبيّةُ الكاتبةُ ضيفةُ أم كلثوم أنْ يقرأ وأنْ لا يتوقف أو يتلكأ . قال حاضر، سأقرأ ما نحنُ فيه فقط ، أعني ذمي لكافور وأخوتنا المصريين . رانَ صمتٌ مَهيب على المكان وعلى مَن فيه حتى لكأنَّ ماء النيل الجاري وحركة البواخر واليخوت والزوراق فيه قد توقّفت وغدت ميّتة . شرع الشاعرُ ينشدُ :
وماذا بمصرَ من المُضحكاتِ
ولكنه ضَحِكٌ كالبُكا
بها نَبَطيُّ من أهلِ السوادِ
يُدرِّسُ أنسابَ أهل الفلا
وأسودُ مِشفَرُهُ نِصفُهُ
يُقالُ لهُ أنتَ بدرُ الدجى
وشِعرٍ مدحتُ بهِ الكرْكّدَنَّ
بين القريضِ وبين الرُقى
وقد ضلَّ قومٌ بأصنامهمْ
وأمّا بزِقِ رياحٍ فلا
قامت الصبيّةُ الضيفةُ إكباراً للمتنبي وإعجاباً بما قال لكنَّ أمَّ كلثوم ما كانت مسرورة بما قال ضيفها . رشقت ضيفتها بنظرة عتبٍ قويةٍ فانكمشت الصبيّة على نفسها كأنها قالت يا أرضُ ابتلعيني . صبّتْ أم كلثوم في كأس بللوريٍّ فارغ قليلاً من الماء البارد وشرعت تترشف منه على مهل وتَؤَدَة . قالتْ وقد إنبسطتْ أفهمُ معاني أبياتك الشعرية هذه ما عدا البيت الأخير،
أراه عصيّاً على مداركي واستيعابي للشعر فهلا تفضّلتَ ففسّرتَ ؟ بكل سرور ، أجاب المتنبي . القوم الذين ضلوا بأصنامهم هم بنو إسرائيل الذين ما أنْ غاب نبيُّهم عنهم لبعض الوقت حتى عادوا لوثنيتهم فصنعوا من الذهب لهم عجلاً وعبدوه . أما زق الرياح فإنه كافور بعينه لأنه كان بطيناً كثير الأكل نهماً حتى لكأنَّ بطنه زقاً مملوءاً ريحاً . ولإسراف المصريين في الخضوع لهذا الكافور الأسود أَشرتُ إليهم كأنهم يتعبدون لا لصنم ولكنْ لزقٍّ من الريح . أغضتْ ام كلثوم قليلاً كأنَّ تفسيرَ المتنبي لهذا البيت الشعري قد أخجلها أو أحرجها . لقد عانت أم كلثوم من كافورٍ آخرَ عاصرته فأساءَ إليها وأنكرَ قيمتها الفنية لذا فهي من أقدر الناسِ على فهم الظاهرة الكافورية ! ما رأيكِ يا جارية ؟ سأل المتنبي ضيفة أم كلثوم ملاطفاً متودداً لكي يساعدها في الخروج من حالة الخجل والإنكماش على الذات وربما لوضع المزيد من الأسئلة فإنه يُحب الصبايا الرعابيب ( أي البدينات ) السوداوات العيون .تململت الرعبوبةُ متأهبةً للكلام لكنها أعرضت عنه . حثها المتنبي على الكلام وما إذا كان لديها مزيدٌ من الأسئلة . تشجّعت البنتُ الخجولةُ فقالت : أخبرني يا عم كيف تعرّفتَ وأين على هذا الشاعر الأعجمي ؟ طابت نفسُ المتنبي لهذا السؤال وانبسطت أساريره وأراح ظهره متكئاً على مسند أريكته الوثيرة . همس في أُذن الخيّام كلاماً بالفارسية ثم أعدَّ نفسه للإجابة . عرّفني عليه الأديب المعروف إبنُ العميد حين كنتُ في ضيافته في أرِّجّان من بلاد فارس إذْ دعاه إلى قصره وقدّمه لي بإعتباره فيلسوفاً وعالمَ رياضياتٍ وفلكٍ . سرعانَ ما تآلفنا وانسجمنا مع بعضنا خاصةً بعد أنْ عرفني قرمطياً في حين كان هو على مذاهب الإسماعيلية . هل لديكِ مزيدٌ من الأسئلة ؟ سألَ المتنبي فقالت أجلْ ، هل لهذا الرجل الفيلسوف وعالم الفلك والرياضيات أنْ يقرأ علينا قصيدته الشهيرة برباعيات الخيّام ؟ مال المتنبي برأسه نحو الخيّام وبعد قليل قال إنه يعتذرُ لأنَّ القصيدةَ موضوعةٌ أصلاً باللغة الفارسية . ثم إنه إقترحَ أنْ تتكرمَ السيدة أم كلثوم فتغنيها بصوتها ولكنْ حسب ترجمة الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي فهي أفضلُ الترجمات إلى العربية . ضحكت أم كلثوم لكنها إعتذرت أنها غنّت ترجمة أحمد رامي وقد نجحت الأغنية بهذه الترجمة وشاعت وطبّقتْ شُهرتُها الآفاقَ . قامت أمُّ كلثوم ثم أتت حاملةً جهاز تسجيل حديث . وضعته على الطاولة أمام عمر الخيام وأدارته فإذا بها تصدحُ عالياً بهذه الأُغنية وما أنْ غنّت [[ فما أطالَ النومُ عُمْراً / ولا قصّرِ في الأعمارِ طولُ السَهَرْ ]] حتى نهض المتنبي منشرحاً جَذِلاً فقال لقد غيّرَ هذا البيتُ الشعريُّ برنامجنا فقرَّ قراري وصاحبي أنْ نطيلَ المكوثَ الليلةَ معك يا أم كلثوم فهاتِ طعامَ العشاءِ . طلب الخيّامُ إعادة التسجيل فقد أعجبته الأغنية وأطربه صوتُ أم كلثوم بينما إنشغل الخَدَمُ بإعداد مائدةِ الطعام وكان النيلُ قُبيلَ مغيب الشمسِ ما زال مفعماً بالحيوية والحياة ونشاط الزوارق واليخوت . رمقت أم كلثوم ضيفتها الصبيّة بنظرةٍ فيها الكثير من حنان الأم فألفتها تغني أغنية [[ ليه تلوعيني وانتِ نور عيني / إيه جرى ؟ إيه جرى في الهوى بينك وبيني / ليه تلوعيني ]] .
الجمعة، مايو 22، 2009
أم كلثوم والكاتبة الخجولة
Labels:
عدنان الظاهر
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق