ثلاثة مدن تجلّت الرّؤى فيها عبر تاريخ طويل، كلّ منها كانت لها أثر ما في تاريخ حافل في حركة تاريخ المنطقة. فهذه الحواضر لم تمرّ في التاريخ مرور الكرام، كما مرّت غيرها من المدائن، ولم يتمكّن التّاريخ وهو يلعب أحداثه على مسرح جغرافيّتها من إحالتها إلى ذكرى مدن لعبت دورها وحملت عصاها ورحلت، فما زالت تلعب دورها بقوّة وإصرار في تراجيديا تاريخيّة لا تعرف التوقّف، ومسرح ما زالت هذه المدن تقوم بدور البطولة فيه.
إبراهيم العبدلي الفنّان التّشكيليّ عراقيّ الهويّة، والّذي تخرّج في العام 1965 من أكاديميّة الفنون الجميلة في بغداد في العام ألف وتسعمائة وخمس وستّين؛ إلتقط خيط التّاريخ الّذي يجمع بين هذه الحواضر الشّامخة، من خلال معرضه الّذي حمل اسم "بين بغداد وعمّان والقدس"، فتمكّن برؤية واضحة وريشة مبدعة من إبداع سبع عشرة لوحة، كلّ منها تحمل في داخلها قصّة، سواء كانت هذه اللوحة تحمل بعضًا من المدن الثّلاث، أو من خلال صور الوجوه الّتي أبدع فيها حتّى نخالها تكاد تنطق وتنبض بالرّوح.
في مركز "رؤى" عمّان، كان لقائي الأوّل مع إبداع العبدلي، بقيت حوالي السّاعتين أجول بين اللوحات الّتي زينت جدار "رؤى". وفي وسط حضور كبير شعرت بنفسي أعود لمرحلة السّبعينات من القرن الماضي، وأجول في قاعات الفنّ التّشكيليّ في بغداد أثناء فترة دراستي، فاللهجة العراقيّة كان لها حضور كبير من أحبّة الفنّان ومريديه؛ هذه اللهجة الّتي افتقدتها منذ سنين طويلة في وجودي في رام الله، فأثارت في الرّوح ما أثارت من أشواق ولواعج، إضافة إلى الجمهور الأردنيّ العاشق للفنّ والجمال. وقد سرّني أن ألتقي مع أصدقاء لم أعرفهم إلاّ عبر القلم؛ أقرأ لهم ويقرؤون لي وإن لم نلتقِ من قبل. فكان "لرؤى" الفضل في اللقاء والتّعارف، ومنهم الأحبّة موسى حوامدة ويحيى القيسيّ. لم أكتفِ بساعتين من التّجوال والغوص في اللوحات، فعادة حين تأسرني لوحة أو معرض لوحات في حفل افتتاح، أعود مرّة أخرى في وقت يكون الجمهور فيه قليلاً، كيّْ أستطيع أن أمارس عبادة الصّمت والتّحليق فيما أراه قد اجتاح منيّ الروح.
وهكذا كان. فقد عدت بعد يومين صباحًا مرافقًا قلمي وعدسة تصويري، فجلت المعرض لمدّة ساعتين إضافيّتين وحيدًا إلاّ من جمال الرّؤى في اللوحات؛ سبع عشرة لوحة- كلّ منها تحكي حكاية، وكلّ منها تمثّل مدرسة بحدّ ذاتها. وكلّ مجموعة تمثّل قسمًا وتصنيفًا. وفي تأمّلي للّوحات وجدتها تنقسم من زاوية رؤيتي إلى عدّة أقسام أو لنقل تصنيفات، رأيتها كما يلي..
"لوحة سعاد"
القسم الأوّل: لوحات تعتمد على فنّ رسم الوجوه؛ وقد تجلّت قدرة الفنّان في دقّة الرسم ونقل الملامح. واستخدام التّضاد بين خلفيّة اللوحة ولون الوجه المرسوم، إضافة للقدرة الهائلة على استخدام ضربات الفرشاة الحرّة في الكثير من الزّوايا، مما أضفى على اللوحات روحًا متميّزة وجمالاً آخر من خلال هذا الأسلوب المتميّز والدّال على قدرة مميّزة. ففي لوحة "سعاد" كنت أدقّق بين ما أراه أمامي من فنّ في اللوحة وبين "سعاد" الأصل، فوجدت قدرة كبيرة على الإبداع الّذي يكاد يحاكي بين اللوحة والأصل، وخاصّة فيما تقوله العيون، فقد تمكّن الفنّان العبدلي من التقاط ما تقوله العيون وجسّده بطريقة هائلة. فأعطى للوحات الوجوه حياة خاصّة بها، فابتعدت عن الجمود الّذي نراه في بعض اللوحات الّتي تفتقد الرّوح في العيون.
لوحة "سعاد" كانت متميّزة بشكل خاصّ، وإن تميّزت الوجوه في لوحات الوجوه المتعدّدة بشكل عامّ، وإن كانت هذه اللوحة بحضور صاحبتها، هو ما أعطاني الفرصة للتّدقيق بقدرة الفنّان من خلال مقارنتي بين الأصل واللوحة. أمّا في لوحة "طالبتي من نيجيريا" فقد قرأت الحزن بوضوح في العيون، والنّظرة الّتي تبحث عن شيء مجهول ولكن بحزن وألم، حتّى أنّ هذا الإحساس شدّني طويلاً وأنا أتأمّل عيون اللوحة. وفي لوحة تحمل اسم "هند" لامرأة تسكب الشّاي؛ كانت تعابير الوجه تتفوّق بدقتّها حتّى على مصوّر فوتغرافيّ محترف لو التقط الصورة، فكدت أرى في العيون وملامح الوجه أنّ"هند" تتنشّق عبق الشّاي المسكوب، وعيونها تسأل أو تحادث الآخر الّذي سكبت له "إستكانًا" آخر من الشّاي؛ هذه الدّقّة بالتّعبير الّتي تثير الرّغبة بتناول كوب من الشّاي الأحمر.
"لوحة شهيد في نقطة تفتيش"
القسم الثّاني: عدّة لوحات تعتمد على الرّمز لإيصال فكرة ورسالة، وهذا تجلى بعدّة لوحات، منها بشكل متميّز لوحة "شهيد في نقطة تفتيش". ففي هذه اللوحة نجد رسمًا لدرّاجة هوائيّة واقفة بدون راكب، ولا تحمل إلاّ سلة مليئة بالبلح. وعلى امتداد يمين اللوحة وأفقها على جانبي الطّريق غابات من نخيل، وتغلق الطريق من الاتّجاهين عربات مدرّعة عسكريّة، والسّماء ملبّدة بالغيم والدّخان، رغم أنّ الموسم ليس بموسم خريف أو شتاء. ويظهر ذلك من خلال الأعشاب المخضرّة بجانب الطّريق، ممّا يعطي الرّمز للغضب القادم والمتلبّدة به سماء العراق، والّذي يبشّر بفجر الرّبيع الأخضر، وأنّ العراق الّذين يريدون قتله على نقاط التّفتيش، سيعود شامخًا كأشجار النّخيل الّتي تملأ اللوحة. وفي لوحة "الأشجار المستهدفة" نجد الرّمز الواضح بتجاور ثلاثة أشجار هي بالتّتابع من يسار مشاهد اللوحة: زيتونة فأرزة فشجرة نخيل. وتحت التّراب تشتعل نيران في جذورها، وهي رمزيّة واضحة لفلسطين فلبنان فالعراق. وفي لوحة "صاروخ معادي" نجد الرّمز من خلال لوحة لوجه جميل وعيون بجمال أكثر بحيث تكاد تنطق؛ معلّقة على جدار وزجاجها قد تكسّر واشتعلت النّار في إطارها بتأثير قصف لصاروخ معادٍ. وهنا اللوحة تحمل دلالة أنّ العدوان يدمّر كلّ جميل، وفي عيون الوجه لأنثى ساهمة نلمح السّؤال: إلى متى؟
"لوحة طيور2"
المجموعة الثّالثة: لوحات يمكن تصنيفها بلوحات من الحياة والطّبيعة؛ في هذه المجموعة كانت لوحات تحمل أسماء: "طيور1"، "طيور2"، "سفينة في الخليج"، "جِمال"، "عربات". وهذه اللوحات كانت متميّزة بمحاكاة الطّبيعة، ففي "طيور1" و "طيور2" كان هناك إبداع متميّز من خلال طيور الحمام بألوانها ووقفتها، الّتي تكاد توحي لوهلة بأنّها تكاد تطير لو اقترب منها أحد. وفي "طيور2" كان وعاء الماء المرسوم، وعلى حافّته حمامة و أخرى تهبط إليه، وكأنّه وعاء حقيقيّ بمائه وليس مجرد لوحة، وهذا يدلّل كم لِعين الفنّان وخياله وريشته من مقدرة متميّزة على الإبداع. فنظرة لجزيئات اللوحات تعبّر عن هذه القدرة الهائلة والتّجربة العميقة؛ وتجلى هذا بلوحة "جِمال"، والّتي تصوّر سباقًا بين ثلاثة من الهِجن. أمّا لوحة "سفينة في الخليج"، فتمثل بحدّ ذاتها إبداعًا متميّزًا وقدرة هائلة على التّجسيد، حتّى يكاد المشاهد وهو يتأمل مياه الخليج والطيور فوق السّفينة ينسى أنّه أمام لوحة. ويظنّ نفسه أمام الخليج ذاته، فهذه اللوحة أعادتني بقفزة واحدة إلى زيارتي للبصرة وضواحيها، وإقامتي لمدّة شهر هناك في العام ألف وتسعمائة وخمسة وسبعين.
"لوحة عمّان"
المجموعة الرّابعة: هي الأمكنة، والّتي تمثّلت بلوحات حملت أسماء "المسجد النّبويّ"و "عمّان" و "حيفا" و "السّلط" و "زقاق القدس" و "القدس". وفي كل لوحة منها نجد قصّة. وفي مجمل اللوحات نجد رواية التّاريخ في هذه الحواضر، وإن كنّا نجد في لوحة "المسجد النبوي" جانبًا من الفنّ الكلاسيكيّ للمكان، إلاّ أنّ باقي اللوحات كانت تحمل في ثناياها شيئًا يشدّ المشاهد بقوّة. ففي لوحتيّ "حيفا" و "السّلط" شدّتني التّعابير المرسومة والظاهرة على الوجوه، إضافة لطبيعة اللباس الّذي حاكى مرحلة تاريخيّة، ممّا يدلّ على قدرة تخيّل تعبر المراحل الزّمنيّة وتصوّرها، فطبيعة الطّربوش والملابس في لوحة "حيفا" تكاد تنقل المشاهد إلى تلك الفترة الّتي كانت حيفا المدينة تمثّل حاضرة المدن العربيّة، وسكّانها كباقي مدن الموانئ، تمثّل مزيجًا من السّحنات الّتي لوّحتها الشّمس فأكسبتها اللون الأسمر المتميّز. وللحقيقة ما لفت نظري في هذه السّحنات، أنّه من المعروف أنّ سكّان ساحل فلسطين وخاصّة مدن الموانئ كيافا وحيفا بشكل خاصّ،لوانها هم خليط تمازج عبر فترة زمنيّة طويلة من عرب جاءوا من مناطق متعدّدة، ونسبة جيّدة هم من مناطق مصر، والّذين كان يطلق عليهم لقب "الفتوح"، ممّا أكسب وجوه أهل الساحل بعضًا من مزايا محدّدة تظهر فيها سمات أهل مصر. فكيف تمكّن الفنّان العبدلي من التقاط هذه السّمات، رغم أنّه لم يعرف تلك المناطق ولم يعاصرها بالعمر. فهو من مواليد العام ألف وتسعمائة وأربعين، أيّْ قبل النّكبة بثماني سنوات فقط. وولد في ناحية الكرخ في بغداد، ممّا يعطي للفنان العبدلي قدرة متميّزة بمنح المكان سماته في الشّكل والبناء والشّخوص بأزيائهم وسماتهم وألوانهم، وهذه الميزة والقدرة لم تتوفّر للكثير ممّن حضرت لهم معارض تناولت الأمكنة، فكانت الأمكنة تفتقد الرّوح الّتي يمنحها لها البشر. ويتمثّل هذا بدقّة في لوحة "السّلط"، الّتي ما أن يدقّق المشاهد بها إلاّ ويشعر نفسه في أزقّة السّلط، من حيث البناء ومن حيث الوجوه وسماتها. وكذلك تجلّى هذا أيضًا في لوحة "زقاق القدس، فلو أنّ الفنّان رسم الزقّاق وحده بدون وجود امرأة ورجل في اللوحة، لكان يمكن لهذا الزقاق أن يكون في دمشق أو في نابلس أو في القدس، فهذه المدن تتشابه في أحيائها القديمة وأزقّتها، لكنّها تختلف باللباس التّقليديّ للسّكّان، ومن هنا كان منح اللوحة هويّتها وروحها من خلال المارين بالزّقاق، و الفكرة نفسها يمكن أن نراها في لوحة "القدس".
لوحة عمّان كانت "درّة التّاج" في لوحات الأمكنة في معرض الفنّان إبراهيم العبدلي، فهذه اللوحة كانت بانوراما جمعت بين المكان والتّاريخ، مازجت الحاضر والحلم والماضي، فظهرت فيها مشاهد تعود لعهد الرّومان، وتمتدّ عبر عمّان الماضي وعمّان الحاضر بأبراجها ومنشآتها الحديثة، وبين العلم الأردنيّ الّذي يرفرف على السّارية المرتفعة، وبين الحلم القادم ممثّلاً بالجواد الأبيض اليعربيّ، في إشارة واضحة لعروبة عمّان وهويّتها وأصالتها، "فالخيل معقود بنواصيها الخير"، والجواد العربيّ كان وما زال رمزًا يعربيًّا أصيلاً، وفي لونه الأبيض ووقفته الشّامخة على ربوة مطلّة كان الحلم بالمستقبل.
أتيح لي بعد المعرض بعدّة أيام، وكانت مقالتي هذه شبه جاهزة، أن ألتقي الفنّان العبدلي في مركز "رؤى"، بحضور السّيّدة سعاد العيساوي مديرة المركز، والكاتب جميل الرّوح الدّكتور سميح مسعود، وجرى بيننا حوار طويل حول ما شاهدت في معرضه هذا، وأهداني كتابًا يضمّ كمًّا كبيرًا من لوحاته، ممّا جعلني أفكّر أن أعيد النّظر بما كتبته، وأكتب عن مجمل لوحاته. ولكننّي في نهاية الأمر، آثرت أن أبقي على ما كتبت كما هو؛ محصورًا بمعرض "بين بغداد وعمّان والقدس". فأنا بطبعي أفضّل أن أكتب عن شعوري وأحاسيسي الّتي تتملّكني حين أحضر معرضًا ما، وارتأيت أن أختم مقالتي المتواضعة بحقّ معرض الفنّان العبدلي، بمقتطف من مقال كتبه الأستاذ عادل كمال يمثّل الفكرة الّتي تكونت بداخلي إلى درجة النّضج حين يقول: "العبدلي هو واحد من هؤلاء الفنّانين الّذين تمسّكوا بالمكان والمرئيات.. فقد انشغل بأثر البصريّات وامتزجت- المرئيّات– بذاكرته: هذا العالم الّذي خبره وأحبّه، فالمكان له سيكولوجيّته، وصلته برؤية الفنّان من جهة، وبأسلوبه وتكنيكه من جهة ثانية، وقد جاءت تجارب إبراهيم العبدلي، منذ السّتّينات، حتّى بداية القرن الحادي والعشرين، باختيار متوازن مع شخصيّته".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق