الثلاثاء، يناير 13، 2009

الأرسي / رواية لسلام إبراهيم

د. عدنان الظاهر

مُدخل

تعرّفتُ للمرة الأولى على كتابات الروائي الأستاذ سلام إبراهيم من خلال قراءتي لمجموعته القصصية " سرير الرمل " (**) التي لفتت إنتباهي لكاتب رأيته مُختلفاً أو يختلف بوضوح عن الكثير من الروائيين عراقيين وعرباً . رأيته جريئاً صادقاً مع نفسه أولاً ثم مع قرّائه وأميناً لتأريخه الشخصي في منعطفاته المتباينة وفي حركته وفي سكونه . وجدته بارعاً في ملاحقته للأحداث صغيرها وكبيرها ورصد دقائقها وقراءة ما تستبطن وما تقدّم وما تؤخّر وما خفيَ على الناس منها . أذهلتني جرأته في تلك الرواية ثم ترسخ ذهولي هذا ليغدوَ يقيناً بعد قراءتي لما كتب في رواية

" الأرسي " موضوعة قراءتي الحالية . تضع أمامي صراحته ، حدَّ الكشف عن الكثير من المحذورات ، مذكّرات جان جاك روسّو الشهيرة . لغته جميلة متقنة ـ عدا بعض الِهنات أو الهفوات أو ربما الأخطاء المطبعية التي لاحقتها ورصدتها ووضعتُ عليها علامات ـ علماً أنه درس العلوم الزراعية في إحدى كليات جامعة بغداد . أعجبنتي ، من بين أمور أخرى كثيرة ، جسارته في مواجهة الذات والغور عميقاً في مسارب ومغارات النفس البشرية ولا سيّما موضوعات الغريزة الجنسية والغّيرة والشك والضعف خلال بعض منعطفات الحياة / الضعف الذي يُخفي أعلى درجات الشجاعة والإستعداد للموت تبرئةً للذات من معرّة الموت جبناً ورفعاً لرؤوس أهله وأعزّائه ثم قرينته أم كفاح التي أحبها بشكل أسطوري ـ كما يحدث في أساطير الإغريق ـ في زَمَني السلم والحرب مُجنّداً في جبهات القتال مع إيران أو نصيراً مقاتلاً في مهاوي وذرى جبال كردستان العراق ضد طاغية العصر صدام حسين وحزبه .. أجل ، لقد رافقته السيدة أم كفاح لتساهم في القتال ضد نظام حزب البعث هناك في كردستان فشكّلَ وجودها مع سلام ملحمة مركّبة متداخلة الفصول مختلفة الألوان يختلط فيها أعنف أشكال الحب ببعض الشكوك وبهاجس الموت وبالكشف عن أعمق وأصدق النوازع البشرية التي عالجها الكاتب برويّةٍ وتعمّقٍ وصبرٍ ودرايةٍ وشجاعةٍ فأفلح فيما سعى وإستهدف.

كما إكتشفتُ معرفة الروائي الدقيقة الواسعة لدقائق حياة الناس في مدن وسط وجنوب العراق وخاصةً حياة بسطاء الناس من خبّازين وحمّالين ونجارين وبنجرجية وباعة متجولين وغيرهم . فضلاً عن شغفه وبراعته في وصف النشاطات الجنسية وولعه في مراقبة هذه النشاطات التي يمارسها الأزواج من بين شقوق الجدران أو من فوق السطوح أو من خلال زجاج النوافد فما سبب نضجه الجنسي المبكّر الذي دفع به صبياً صغيراً إلى دوام زيارة منزل جارتهم " نادية "

في غياب زوجها الأعور السكّير مصلّح إطارات السيارات ومراقبة أوجه نشاطها اليومي المألوف في بيتها من قبيل كيف تجلس في وسط دارها لتغسل الملابس وكيف تمشي لينتهي إلى الإختلاء بنفسه منزوياً في إحدى غرف بيت نادية الجميلة ليتلصصَ من هناك عليها فيبلغ ذروة هياجه الشَبَقي وهو لمّا يبلغ الحلم بعدُ .

تصميم الرواية وتفصيلاتها

أهدى سلام روايته إلى زوجه السيدة ناهدة وإبنته وولديه ، وقسّمها إلى جزأين ، يشكّل الجزء الأول منها حوالي ثلث الكتاب ـ 108 صفحات ـ وخصص الباقي للجزء الثاني منه ـ الصفحات 108 ـ 262 ـ يضمُّ الجزء الأول الذي يحمل عنوان

" في برزخ الأرسي " ثمانية فصولٍ هي :

1 ـ المخبأ

2 ـ اشواق

3 ـ فوّهة الخلاص

4 ـ نافذة المساء

5 ـ أحلام الرغبة

6 ـ رؤيا المدينة

7 ـ رؤيا الحجر

8 ـ صرخة ..

ويضمُّ الجزء الثاني الذي يحمل عنوان " في برزخ الجبل " خمسةَ فصولٍ هي :

1 ـ ذل العاشق

2 ـ التسلل إلى الفردوس ليلاً

3 ـ أحقاد المحبّة

4 ـ جحيم في غروب رائق

5 ـ ساحة الحشر .

كما هو واضح من عنواني الجزء الأول والثاني يفهم القارئ أنَّ الروائي قد مرَّ وعانى من تبعات مرحلتين قاسيتين في حياته مختلفتين زماناً وظرفاً ومكاناً . لزم في مرحلته الأولى سجناً إنفرادياً معزولاً مُختبئاً في حجرة [ أرسي ] هو جزء مهمل في بيت عمته الأرملة المعلمة الشابة الجملية حسب وصف الروائي لها . إختبأ في هذا الأرسي البائس بعد أنْ هرب من جبهات القتال مع إيران وكان قد عانى هناك ما عانى من ويلات ومصائب الحرب الضروس التي دامت ثمانية أعوام . أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الهروب من سجن الأرسي والإلتحاق بجبهات القتال مع الأنصار والنصيرات ضد نظام صدام حسين في جبال كردستان . إذا كان الأرسي هو برزخ العبور إلى كردستان حيث إحتمال النجاة والخلاص ... العبور من الخوف والرعب وهلوسات الوحدة وشبح إحتمالات القبض والحكم عليه وعلى عمته بالإعدام فإنَّ كردستان تمثل برزخاً آخرَ مغايراً تماماً ... إنه طريق ( سراط ) العبور من الحياة الفانية الدنيا إلى عالم آخر لا يعرف طبيعته وخاتمته : أيؤدي به هذا البرزخ إلى الجنة أم إلى النار ؟! لمستُ في هذا البرزخ ، برزخ الجبل ، لمساتٍ وآثاراً من رسالة الغفران للمعري ومن جحيم الإيطالي دانتي . فيه يخاطب الراوي ويحاجج ربّه بأساليب طرقها علماءُ وشعراءُ المتصوفة الإسلاميين . إذاً لا من خلاصٍ مطلقٍ مضمونٍ للإنسان في حياته فإنْ نجا في حياته فإنه ليس على يقين من مصيره في العالم الآخر : أيُجازى فيدخل الجنة أم يعاقبُ فيدخل النار ؟

أتوقفُ مع البرزخ الأول ، برزخ أرسي العمّة

شغلت فكر الراوي الهارب من جبهات القتال مع إيران ثلاثة أمورغاية في الأهمية بالنسبة له بالطبع هي أولاً : الخوف من أنْ تكتشفه في مكمنه السرّي السلطاتُ البعثيةُ الحاكمة صُدفةً أو وشايةً وعقوبة الهارب من جبهات الحرب هي الإعدام رمياً بالرصاص . ثم ثانياً : الوحدة الفتّاكة سجيناً في غرفة ( أرسي ) رثّة التأثيث سيئة التهوية شديدة الحرارة يقضي فيها حاجاته الطبيعية ويأكل ثم ينام ، و ثالثاً : ضغظ الغريزة الجنسية عليه نفساً وعصباً سيّما وإنه رجلٌ متزوج وله طفل أو طفلة وزوجة ليست ببعيدة عن مكان مخبئه ( الأرسي ) لكنها تجهل هذا المكان وكان هذا شرط عمته الأرملة الوحيدة عليه مقابل أنْ تمنحه ملاذاً آمناً له لكنه شديد الخطورة عليها فيما لو كشفته عناصر السلطة من رجال أمنٍ ومخابرات وما كان أكثرهم وسرعة وسهولة تكاثرهم في زمني السلم والحرب . ما كانت تداعيات ومحصّلة هذه العوامل أو الهواجس الرهيبة مجتمعةً مختلطةً مركّبةً وما كان وكيف كان تأثيرها على هذا الشاب الهارب من الحرب إبتغاءَ الحياة وكيف كانت حياته بعد الهروب من جبهات الموت الشديدة السخونة ؟ هلوسات وأوهام وتخيّلات ورعب يومي متصل لا يعرفها أسوياء الناس في الظروف الطبيعية فيما يخص الهاجسين الأول والثاني . وماذا عن البلية الثالثة ثالثة الأثافي ، ضغط الجنس والحرمان منه وقوته والرغبة في ممارسته ـ تماماً كالطعام ـ تتضاعف أو تقوى أوقات الأزمات والمحن والشعور بقرب نهاية الإنسان وغموض المستقبل ومواجهة مصير مجهول وأفق مسدود ؟؟ كان إبراهيم الراوي وبطل الرواية أكثر من بارع وأكثر من خبير في متابعة مسلسل الجنس تدرّجاً وتصويراً وإخراجاً . فلقد إفتتح الرواية بمشهد مؤثّر صوّر فيه جثمانَ زوج عمته مُسجّىً في تابوت خشبي بعد إذْ قتله البعثيون إثرَ إنقلاب الثامن من شهر شباط عام 1963 . لقد وضع في هذه اللحظات بالذات الحجرَ الأساس لمعمار روايته فدشنها ببعض أحداث هذا الإنقلاب الدموي الفاشي وما جرَّ على العراقيين من بلاوي ومصائبَ وكوارث . كانت إلتفاتة متقنة إستغلها الراوي بذكاء غريزي ليمهّدَ للموضوعة الأخرى التي لم يفارقها ولم تفارقه في رحلته التي إستغرقت 262 صفحةً ، أعني ثنائية الموت ـ الجنس . كيف دلف سلام من جثمان رجل ميت قتيل إلى موضوعة الجنس ؟ دلف لها من عدة وجوه وأبواب موظّفاً ثقافته ومعرفته الدقيقة لتقاليد مجتمعه وشعبه وكيف تعبِّرُ النسوة عن مظاهر وطقوس الحزن والبكاء واللطم على الموتى من خمش الوجوه والصدور وشق الجيوب من الرقبة حتى أسفل البطن ومع هذا الشق برز صدر العمّة وهو ما يثير جنس الراوي ويغذّي سعير شبقه العارم المتحكّم فيه غريزياً . لم يكتفِ بإنكشاف الصدر بل وزاد عليه أمراً آخر لا تفعله جميع العراقيات في مثل هذه المناسبات ، أعني جعل عمته تضطجعً مع جسد زوجها المُسجّى في نعشه !! إستهلال ناجح واضح مزدوج الأهداف الدانية والبعيدة : الموت ـ الجنس. لنقرأ ما قال في هذا المقام [[ .... تشنّجت قبل أنْ تصرخَ شاقّةً ثوبها الأسود من الزيق حتى أسفل البطن وانهالت لطماً على صدرها العاري ... العمّة شبه عارية تغرز أظافرها الحادّة بالنهدين البيضاويين الصلبين ، بالوجنتين الشاحبتين ، بالعنق ... أزاحت الإزارَ ثانيةً وسقطت فوق الغافي عاريةً ممدّدةً على طوله / الصفحة 32 ]] . ثمَّ [[ .... لا يزالُ يتذكّرُ عُريها القديم ، نضارة وسطوع بشرتها البيضاء ، رقصها المذبوح في إيقاعه الشرس . كم تلظّت تلك التضاريس الرشيقة في أتون الشهوات التي تموتُ بحدود السرير البارد وأية ليالٍ مُضنية تُقلّبُ فيها الجسد الناعم على جمر الرغبات المكبوتة / الصفحة 34 ]] .

الجنس ـ حسب فلسفة الراوي ـ هو مولّد الحياة وبدونه لا من حياة على الأرض . إنه الحياة ذاتها . فثنائية الجنس ـ الموت هي نفسها ثنائية الحياة ـ الموت . الأحياء تتناسل فتّديمُ وتواصل الحياة . لا حياة لجماد . الوحدة بين توأمي هذه المزدوجة لا تنفصم ولا يمكن أنْ تنفصم . لا حياة من غير موت ولا موت بلا حياة . كلُّ حيٍّ يموت آجلاً أو عاجلاً . الجمادات وحدها لا تموت ولا تتوالد . فإذا كان الأمر كذلك وهو حتماً كذلك ، فلِمَ يُكبتُ الجنسُ ويُضطهدُ ويحاربُ في العَلَن ليمارسه الناسُ في السرِّ ووراء الأبواب المُغلقة ؟ لماذا تمارسه الحيوانات عَلَناً وبملء حريتها دون خجل أو خوفٍ من عقاب ؟ أرّقَّ هذا الموضوع ساردَ النص فأفرد له صفحةً كاملةً ، 241 ، فضلاً عن أماكنَ أخرى ومناسبات متعددة .

الإنتقال من العمّة إلى إبنتها / ضغط الجنس

يقتضينا هذا الإنتقال إلى ملاحظة أخرى تتعلق بعمق ودقة إحساس كاتب الرواية من حيث ربطه الشديد الإحكام بين نقائض الحياة ودوراتها التي تفرضها على البشر فيتقبلونها قَدَراً أو كالقدر المحتوم وهم صاغرين . الراوي معارض للنظام والحزب الذي يحكم العراق وهو ضحيته أولاً وآخراً . سيق للقتال ضد إيران رغماً عنه وضد إرادته . هرب من جبهات الحرب فسجن نفسه في مخبأ في بيت عمته الأرملة التي قتل البعثيون زوجها فرمّلوها في عزِّ شبابها ثم قتلوا أو غيّبوا أحد أبنائها وظلَّ مجهولَ المصير . يدور الزمن فيتزوج إبنتها الوحيدة رجلٌ بعثي يراه الشابُ المعارضُ سجينُ أرسي عمته مرتين في الشهر ولا من مجالٍ

للإلتقاء بينهما فهما أعداء حتى كسر العظم . يتجنبه لكي لا يفضح أمره فتحل الكارثة به وبعمّته . كيف يقترنُ قاتلٌ بإبنة مَن قد قتل ؟ وكيف وافقت الأرملة على هذه الصفقة صفقة الدم ؟ دفعاً وتجنباً للمزيد من الشرور ولها في تاريخنا مثال يعرفه الجميع ، أعني صلح الحسن مع معاوية ثم الجبهة الوطنية بين الحزب الشيوعي وحزب البعث القاتل الحاكم ... هل هذا ما أراد أنْ يقول الراوي ولو إنه لم يقله أم إنه محض تكهن وإجتهاد مني كقارئ للنص ؟ على أية حال ومهما يكن الأمر ، إني أرى في هذه المسالة قراءة إبداعية غير بعيدة عن الفلسفة لم تلقها الصدفة العمياء على قارعة الطريق ليلتقطها سلام إبراهيم هديةً جاهزةً إنما وجدها وعرضها بعد تفكير وتخطيط فنفّذها أنموذجاً فريداً آخر لمتناقضات الحياة التي تواجهنا فتجعلنا نبكي ونحن نضحك ونضحك ونحن نبكي .

قلتُ إنَّ العزلةَ والإحساس بالخطر وما يشبه اليأس من شأنها تقوية حمّى الباه لدى البشر. وكان هذا هو حال الشاب الهارب المختبئ لا يعرف ما تخبئه أقداره له وهو محصور في غيابة جبٍّ يقاسي من ضغوط مثلثة الرؤوس والزوايا والأضلاع . لكي يبتعدَ ولو إلى حين عن هاجس إحتمال إلقاء القبض عليه فيُساقُ للموت رمياً بالرصاص ، ولكي ينسى أو يتناسى مصيبته في سجنه الرهيب وما يعاني من إضطرابات عصبية وهلوسات يجد له برزخاً مناسباً مُتاحاً تحت ناظريه فيا لحسن الصُدف ويا لكِبَر حظه !! برزخٌ شدّما يميل له ويهواه وينسجم مع طبيعته الفوّارة التي أنضجته قبل أوانه وزرعت فيه أخطر نزوات الشيطان الرجيم : الجنس . الجنس كان سلاح الشيطان السحري الذي أغوى به أبانا آدمَ فمارسه مع أنثاه حواء فحقَّ عليه العقاب ونزلت به وبنا اللعنة حتى يوم الدين ! خسرنا الجنة ولم نربحْ الأرض . لم يتكلم عن الحياة الجنسية لعمته الفائقة الجمال التي ترمّلت في التاسعة عشرة ورفضت كل ما أتاها من عروضٍ للزواج بعد مقتل زوجها . لكنه أفاض في الكلام عن إبنتها التي ربما تفوق والدتها جمالاً . أين وجدها وكيف ؟ إعتادت أنْ تزورَ برفقة زوجها أمّها مرتين في الشهر ليمضيّا عطلة نهاية الأسبوع ضيوفاً معززين مدللين مكرّمين . كانا لحسن حظ أسير الأرسي الظامئ للجنس ينامان في باحة الدار ليس بعيداً عن مكمن الجندي الهارب من سوح المعارك . أسهب وأبدع وتفنن في وصف ما كان يجري ليلاً بين إبنة عمته وزوجها البعثي . لا أُعيد هذا الوصف لكني أُحيلُ القارئ لما كتب راوينا في فصل " أخيلة الرغبة " / الصفحات 56 ـ 68 و فصل " رؤيا المدينة " / الصفحات 69 ـ 89 . الغريب أو الطريف أنَّ الراوي يقع في هذا الفصل طوعاً أو سهواً في قبضة الطبيعة كما يتصورها ويريدها ويحلمُ بها ، إنه يخلط الزوجة بالأم لكأنها أمّه التي أنجبته ( الصفحة 61 ) . وماذا عن الفجوات الزمنية التي تفصل ما بين زيارات إبنة عمته لوالدتها وكيف يملأها وبأي جنس يتمتع ويحلم ؟ يملآ هذه الفراغات بذكرياته مع جارة بيت والديه زمان صباه ومراهقته المرأة الجميلة نادية ، زوج الأعور السكير مصلّح إطارات السيارات . يسيح معها في أسفار خيالية مفرطة في التغريب والإستحالة تأخذه معها في عوالم وأجواء لم يرها بشرٌ من قبلُ . إنها المنقذ وإنها المرأة المُنتَظرة التي تهديه سواء السبيل وتفرّج عن بعض كربه وتشنجه بالحدود القصوى من الطاقات الجنسية التي لا يستطيع أنْ ينفضها عن كاهله إلا بممارسة العادة الجنسية ( الصفحة 75 ) .

كلمة قصيرة في فصل ( رؤيا الحجر ) / الصفحات 90 ـ 101

أنفقتُ بعض الوقت متسائلاً عن أهمية هذا الفصل وجدواه وهل من الممكن الإستغناء عنه دون المساس بوحدة موضوعات الرواية ؟! لقد كرر فيه الكثير مما قال فيما سلف من الفصول من تهاويم وشرود وأخيلة هي من طبيعة ونسيج الهلوسات . ثم ، حيرتني كثرة ورود أسماء الجمادات : الرخام ، الصخر ، الحجر. فلقد وردت عشر مراتٍ في الصفحة 92 وتسع مراتٍ في الصفحة 94 وست مراتٍ في الصفحة 96 وخمس مرّاتٍ في الصفحة 98 وثماني مراتٍ في الصفحة 99 فما دلالة ذلك لصاحب الرواية ؟ أكان يريد أنْ يقولَ إنَّ حياته لا طعمَ ولا لونَ لها ولا أي مذاق أي أنها حجرٌ من حجرٍ في حجر فما مغزى أنْ نحياها متعذبين خائفين محرومين حتى من ممارسة حقنا الطبيعي في الجنس ؟ الحجرُ والجمادات وحدها لا تمارس الجنس ولا تتنفس ولا تأكل الطعام !

الهروب من موت أكيد إلى موت مُحتَمل /

في برزخ الجبل

برزخ الجبل هو الجزء الثاني من رواية الأرسي والركن الثالث في مسلسل الأحداث : الحرب مع إيران ـ الإختباء القسري في حجرة بائسة ـ ثم حرب الأنصار الشيوعيين في جبال كردستان . رتّبت قرينة الراوي السيدة ناهدة طريقاً للهرب إلى كردستان العراق للإلتحاق هناك برفاقهما المقاتلين من الأنصار . كانت ما زالت ناشطةً في صفوف التنظيم السرّي للحزب الشيوعي العراقي .

أود قبل المضي مع أحداث برزخ الجبل أنْ أبيّن الفوارق الكبيرة بين الراوي وقرينته طبعاً وسلوكاً . إنهما متناقضان في الكثير من الأمور . فهي عنيدة قوية الشخصية تنفذ قراراتها دون رجعة أو تراجع أو تردد . وهي لم تنفصل عن تنظيمات الحزب ولم تُجمّد ناشطها فيه وكانت رغم الصعوبات والمخاطر الجمّة تجلب إلى بيتهم منشورات سرية . ثم إنها هي التي قبلت بسلام زوجاً رغم معارضة ذويها بادئ الأمر . هي مُلحدة وهو غير ملحد لكنه يتناول الخمور ويلتجئ أحيانا إلى رب يخاطبه ويشكوه حاله ويحاججه في أمر مخلوقاته . نجد أفضل حوار له مع ربه في الصفحة 241 حيث إجتمعت محنتا عذاب الدنيا وعذاب قوة الغريزة الجنسية لدى الراوي [[ ... تسوقني صوبَ فِرنك السماوي ، نحو سعيرك الأبدي ؟ أية عدالة هذي ! وأنت العارف برحلة عمري الخاطفة ... عذاب في عذاب... ذل في ذل ... حرمان في حرمان ... كل ذنوب الحرمان جذرها فيكَ ... فيك أنت ... أنت مَن زرع بي جذوةَ شهوةٍ متأججة عنيفة إنضغتُ تحت وطأتها وسطوتها في بيئةٍ قاسيةٍ وتقاليدَ صارمة قامعة لا مجالَ فيها للتنفيس عن نوازع الغريزة إلا بالسر ... ، أتلوّعُني عقاباً على شدّة جذوتك التي زرعتها في دمي ، الجذوةُ سرُّ الوجود ودافعهُ ... ]] . أحسنتَ سلام .الجذوةُ سرّ الوجود ، فهي كالشمس أم الحياة على أرضنا . الشمس تعني النورَ والحرارة التي سرقها بروميثيوس من الآلهة التي لا تتناسل (( لم يلدْ ولم يولدْ )) وقدمها للإنسان لكي يُخلّدَ نفسه بالتناسل في الحياة .

الآن لنرَ كيف سارت الأمور في جبال كردستان ..

قدّم الراوي صوراً رائعة دافقة بالحيوية والحركة لما كان يجري هناك من أحداث يومية صغيرة أوكبيرة وقد عايشها مشاركاً ومعايناً بعدستي مصوِّر سينمائي بارع مزوّدٍ بكاميرا ديجيتال فائقة الحساسية . لم يفته أي حدث مرَّ أمامه أو مرَّ عليه هنا أو هناك سواء خلال ساعات الحراسة أو جمع الأحطاب أو إعداد الطعام ولم تفته مسألة تفصيلات النوم في ردهات الطين وجذوع شجر البلوط الجبلي وغيره مما يتوفر هناك من أشجار . تخلّصَ الراوي من أشباح الحرب مع إيران ومن مشكلة الخوف اليومي من إحتمال القبض عليه مختبئاً في أرسي عمّته . كما خفّت حدة المشكلة الجنسية لكنها لم تختفِ ! فرغم وجود قرينته معه هناك ظلَّ يمارس العادة السرية بين حين وآخر . إنه الخوف من إحتمال الموت وكان محقّاً في خوفه ذاك إذْ تعرّض موقعهم الجبلي للقصف بالأسلحة الكيميائية فأصيب من أُصيب ومات من مات وفقد الباقون بصرهم فأصبحوا عمياناً . هو نفسه أُصيب بعينيه وكذلك قرينته . سوى حادثة القصف بالأسلحة الكيميائية لم يقدِّم لنا الراوي أية تفاصيلَ عن إلتحام أو معارك مع جيش العدو البعثي أو مع جحوش مرتزقته من فرسان صلاح الدين من أبناء المنطقة !! تركيزه على ضحايا القصف بالأسلحة الكيميائية مسألة في غاية الأهمية بالنظر لما تحمل من أبعاد إنسانية فضلاً عن البعد الدولي فهذه الأسلحة مُحرّمةٌ دولياً .

ما الجديد في برزخ الجبل على الصعيد الشخصي ـ النفساني بالنسبة لكاتب الرواية ؟

1ـ أضاف الجبل وبرزخه متاعب له خفيفة جديدة تتعلق بموضوع التحرشات والغيرة على قرينته من باقي الرفاق ثم ما أخذ يساوره من شكوك له في بعضها شئ من الحق. قرأنا ذلك مكتوباً في الصفحة 125 و الصفحات 164 ، 165 ، 166 فأُحيل القارئ الكريمَ إليها لكي {{ أُبرئَ ذمتي من التبعات }} !!

2ـ ولقد كان جريئاً جداً في كشف بعض مظاهر الحياة اليومية هناك وبعض الممارسات التي ربما تبدو شاذة أو غريبة لكنها في واقع الحال ليست كذلك . إنها نتاج العزلة وإنها الحرب وإحتمالات الموت في أية لحظة . وإنه الحرمان من ممارسة الغرائز الطبيعية حتى مع الزوجات إذ تمَّ عزلهن عن أزواجهنَّ في ردهات أخرى خاصة بالنسوة ، الحريم ، [ الصفحات 127 ، 133 ، 134 على سبيل المثال / فصل التسلل إلى الفردوس ليلاً ] .

3ـ قاتل كاتب الرواية في ساحات الحرب العراقية ـ الإيرانية لكنَّ حرب الأنصار تظلُّ تجربةُ جديدةً لم يسبق له أنْ مارسها طوال سنيِّ حياته . لقد أثبت لنفسه ولرفاقه ولقادة هذه الحرب أنه مقاتلٌ جرئٌ وجديرٌ لما يحملُ الأبطال من أوسمةٍ على صدورهم . لا شكَّ أنَّ تجربته في الحرب مع إيران قد مرّسته وزودته بخبرة المقاتلين الأشدّاء وكان دوماً مستعداً للموت في سبيل الأهداف التي وهب نفسه لها رغم خوفه على مصير قرينته فيما لو أُستُشهِدَ وتركها وحيدةً بعده في الحياة . ظلَّ هذا الهاجس يؤرّقه وقد كشفه لا عن ضعف ولكن من موقع قوّة الرجل الشهم الحريص على مستقبل وسمعة قرينته وهي أمانةٌ في عنقه حتى لو كانت قوية الشخصية متميزة في قراراتها واثقة من نفسها . كان يحبها بل ويعشقها بل ويتعبدُّ لها ليلاً ونهاراً وكان أكثر من بارع في وصف جسدها بشكل خاص ثم ساعات الإختلاء بها كما يختلي الأزواج بأزواجهم . كان مُتيّماً بزوجه ولا مجنون بني عامر أوجميل بثينة . لقد أقاما ذات فترة سويةً في ردهة واحدةٍ مع ست نساء

لرفاق من الأنصار ، مارس خلال ليالي هذه الفترة ما يمارس رجلٌ مع إمرأته وقد أسهب وأجاد في وصف ما كان يجري لهما ولباقي النسوة المحرومات تعسّفاً من أزواجهنَّ [[ الصفحات 143 ـ 146 ]] .

4ـ لم يفتْهُ وسط هذا الهول والجحيم والعزلة وخطر الموت ... لم يفته رصد مناسبات إنسانية فاجأته وهو في أشد أوضاعه قنوطاً مصاباً بالغازات السامة في عينيه لا يرى إلا من خلال نيران الجحيم ... منها زيارة صديقه القديم البصراوي السيد إبراهيم أبو خولة إذْ جاءه من مبعدة ثلاثة أيامٍ ليطمئنَّ على حاله بعد الضربة بالأسلحة الكيميائية. هنا يكشف الراوي لنا أنَّ أبا خولة هذا كان زميلاً وصديقاً لشقيقه الشهيد كفاح خلال أعوام الدراسة في الجامعة التكنولوجية في بغداد . لقد ذكّره بالتأكيد بزوج عمته الذي قتله البعثيون في إنقلاب 1963 وبإبن عمته طالبَ كلية التربية الرياضية الذي فُقدَ عام 1978 في ظروف غامضةٍ ولم يُعثر له على أثر ، ثم بأخيه الشهيد كفاح المناضل ضد حكم وحكام البعث العراقي. لوحة سوداء مأساوية فما الذي يجعل بطل الرواية يحنُّ للعودة لمدينته الديوانية في وسط العراق ؟ ما الذي تركه نظامُ الحكم البعثي في العراق من الذكريات سوى أكثرها سواداً وسوداويةً ؟ الحريةُ هي في القتال في ذرى الجبال ووديانها العميقة أما الموت والعبودية فهي في العراق . كتب ما يلي [[ ... غرفتُ الماءَ من القِدر ودلقته على جسدي الناضح . وقتها كنتُ في أعماقي سعيداً أشدَّ السعادة لا أفكّرُ في الغد بل أعيش اللحظة ... أدلقُ الماءَ وأتخيّلُ صحنَ العشاء وخلوة المساء مع حبيبتي في غرفتنا المنزوية أسفلَ سفح تلّة خلفَ طبابة الموقع . أفركُ جلدي بالصابون راحلاً عن ضجيجِ الرفاقِ في الساحةِ إلى مساحة متعةِ شعوري بالحرية وجواري حبيبةٌ تحنو عليَّ دون خوفٍ من هاجسِ خطفٍ من شارعٍ أو بيتٍ أو مقهى وضياعٍ إلى الأبد في أقبيةٍ وزنازينَ كما حدثَ مع أعزِّ أحبابي / الصفحة 171 ]].

(*) الأرسي / رواية لسلام إبراهيم . الناشر : الدار للنشر والتوزيع

< القاهرة ؟؟ > . الطبعة الأولى 2008 .

(**) سرير الرمل / قصص لسلام إبراهيم . الناشر : دار حوران للطباعة والنشر والتوزيع ، دمشق ، الطبعة الأولى 2000 .

ليست هناك تعليقات: