د. عدنان الظاهر
مَن غيرُ سيدوري قادرٌ على تفسير رؤيايَ ؟ ركبتُ أول قطار متجه صوب العاصمة الجيكية براغ . إستأجرتُ فور وصولي براغً ومعي حقيبتي سيارة تاكسي قاصداً مقهى وحانة الصديقة المخلصة سيدوري . لاحظتُ تغييراتٍ كثيرةً طرأت على محلها إذْ تقلصت مساحته وقلَّ تعداد ما كان فيه من حجرات وصالات وغرف طعام وأستقبال وزوايا قمار البوكر والروليه الأمريكي فضلاً عن إختفاء ذاك العدد الكبير من عمال وخدم المحل . ما كانت سيدوري حزينةً ولا مبتئسة ولا بالمتشائمة أبداً . وجدتها كما عهدتها دوماً عالية الراس شامخة الهامة والقامة . قالت زيارتك هذه غريبة ومفاجئة فما خطبك يا صديق ؟ قلتُ لها بل أرتاح قليلاً وأشرب من الشراب الثقيل كثيراً ثم أقصُّ عليك قصتي وسبب حضوري المفاجئ . شرعت في خدمتي كما عوّدتني منذ أزمان سحيقة فقلتُ ها قد حان الوقتُ كي أسالها عن أسباب ما قد طرأ على محلها من تغييرات جذرية . قالت ، وبسمة ساخرة على محيّاها : بعد مغادرتك مباشرةً إفتتح قومٌ مجهولون قريباً من محلاتي مكاناً غاية في الغرابة والشذوذ ، فلا هو مقهى ولا حانة ولا ملهى ليلي ولا مرقص التعري بالأقساط [ ستربتيز ] ولا هو ماخور بورنو . تُعزفُ فيه الموسيقى الصاخبة منذ الساعة السابعة مساءً ولا تتوقفُ إلا عند ساعات الفجر الأولى . لم يُطقْ رواد محلاتي هذا الوضع فهجروها إلى غيرها مما عرّضَني وممتلكاتي إلى حالة قريبة من الإفلاس لولا أنْ تداركتني رحمةُ صديقنا كلكامش الشهم الغيور الذي تعرف . والآن يا سيدوري ؟ أحاول بالتدريج ورويداً رويداً تصفية أعمالي هنا لعلني أجدُ مكاناً مناسباً آخر أبتاعه أو أستأجره وأمشّي به أحوالي الجديدة . أو أهاجر مع ما لديَّ من أموالٍ إلى بلد آخر وقد قال شاعرٌ : سافرْ تجدْ عوضاً عمّن تفارقه ... ، أردتُ أن أواسيها بكلماتٍ مناسبة لكنها طلبت مني السكوت واضعةً أمامي كأس بيرة آخر . كنتُ مُتعباً ثمَّ أنهكني سماع قصة سيدوري الحزينة لذا فارقتني الرغبة في تناول المزيد من كؤوس الجعّة . لم أسالها عن هوية هؤلاء القوم الشاذين إذْ ما كان عسيراً عليَّ تشخيص هوياتهم ومعرفة حقيقة دوافعهم ونواياهم الشريرة . إنهم قومٌ عادون أشرارٌ موسوسون تناهى إلى علمي ومنذ زمن بعيد إَّنَّ في رؤوسهم شياطينَ مَردة وفي قلوبهم ناراً من شواظ نيران الجحيم . إنهم سَفِلةٌ منحطون . أخطأتُ أني لم أُخبرْ سيدوري في حينه أمر هؤلاء ولم أكشفْ لها هوياتهم ولا سوء فعالهم لأني كنتُ في شكٍّ من أمرهم ولم أكنْ على يقين . طلبت سيدوري مني وقد لاحظت سهومي وسعة شرودي أن أحكي لها موضوع زيارتي هذه الفجائية حيثً لم أكتبْ لها ولم أفتحْ معها خطاً تلفونياً كعهدنا في سالف الأزمان . من أين وكيف ابدأ يا سيدوري يا مليكة سومرَ وأكدَ ومملكة بابل التي أوشكت أن تفترسها وحوشُ وجحوشُ وضباعُ براغ في غفلة من الزمن المفرط بالرداءة ؟ ترددتُ كثيراً ثم قررتُ أنْ أفتحَ موضوعي فسيدوري مني وأنا منها ولا من سببٍ يحرجني أمامها . قويت رغبتي في تناول كأس بيرة شديدة البرودة قلقد شبّت النيرانُ في داخلي فعانت من لظاها سيدوري المسكينة الصابرة . قصتي يا صديقة أني رأيتُ في منامي ليلةَ أمس حلماً أزعجني حتى أني لم أستطعْ مواصلة النوم فبقيتُ على جمر الغضى أتقلّبُ فحزمتُ حقيبتي وأتيتك على عَجَلٍ . رأيتُ مجموعةَ وحوشٍ ضاريةٍ بوجوه غاية بالقبح وغاية في غرابتها كأنها وجوهُ بشرٍ لكنَّ بعضَها بأربعة عيون وبعضها بخمسة آذانٍ وبعضها الآخر بفكوك ضباع وأسنان تماسيح تنتهي أجسامها بأذناب كالأفاعي الشديدة السُميّة . نعم ، كانوا يتكلمون ولكن بلغة خاصة لا يعرفها البشرُ وأغلبُ تخاطبهم فيما بينهم بلغة الإشارات والأيدي والعيون لكأنهم القرودُ في غابات الأمزون أو إفريقيا . يا للهول !! رأيتهم يتبادلون الأدوار فهذا ينقلبُ إلى ذاك وذاك إلى آخرَ وثالث يمسخ نفسه متخذاً هيئةً وجسداً جديدينً فلا هو هذا ولا هو ذاك ، بومة حيناً وخنزيراً بريّاً أحيانا . يا للعجب !! من أين أتت هذه المخلوقات الكريهة ولأي سبب ؟ دنوتُ من أحدهم في محاولة للتعرف عليه أو سبر بعض أغواره أو لعله يفقه شيئاً من لغتي . خاطبته بعدة لغات فلم يتجاوب وحين واصلت سعيي صرخ في وجهي غضبانَ أشدَّ ما يكون الغضبُ وإنفجر في فمه بركانٌ من غازات سودٍ رائحتها كريهةٌ قتّالةٌ لا تُطاق . هل هو غاز الخردل أو غاز الأعصاب ؟ جائز ، كل شئ جائز اليوم . مع ذاك ... قلتُ فليكن ما يكنْ ... سأواصل جهدي للتعرف على كنه هذه المخلوقات المشوّهة . كيف تستطيع التقلب والتحول وتبادل الأدوار ؟ من أين أتتها هذه القابليات ؟ من درّبها ومن علمها هذه الفنون ؟ كم من الزمن إستغرق تأهيلها وإعدادها هذا لترويع الناس وإبتزازهم وإخافتهم حتى الموت ؟ كانوا يقتربون مني رويداً رويداً وببطء شديد ولكن بإصرار وعزم يُخفيان أمراً قد يكونُ خطيراً . كان في مقدمتهم كبيرهم الذي علّمهم السحر .. كان لي واضحاً أنه كبيرُ قومه المَرَدة الشياطين . فكاه فكا تمساح يقطر دمٌ عبيطٌ من بين شدقيه . رأسه رأسُ ثور مجنّح ، في ظهره أرجلُ أخطبوط ثمانية ، كفاه كفا قرد غوريللا ، ما هذا المسخ ؟ أجاب بهدوء منافق مصطنع مُتخذاً هيئة شيخٍ طاعنٍ في السن بلغ من الكبر عتيا : يا هذا يا غريبُ ! ليس لك مكانٌ هنا بيننا في مملكتنا فأغربْ سريعاً عن وجهي وإلا قلبتُ سقوف كافة بيوت مدينة براغ فوق رأسك ورأس الذين أنجبوك ! إغربْ سريعاً عن وجوهنا ولا تزرْ براغ ثانيةً وإلا فالموت ينتظرك !! سأحطمُ نُصبَ القديس فاتسلاف حجراً حجراً وأهشّمُ بها رأسك العنيد . ضحكتُ منهُ وضحكتُ عليه ضحكاتٍ عالية فجُنَّ جنونه صارخاً : يا لعين وتضحك عليَّ وأنا في مدينتي التي تركها {{ أجدادي ...... }} إرثاً لي ولذريتي من بعدي ؟ هيا أسرعْ وارحلْ يا [[ شعبوي يا باطني يا نرجسي يا ... يا ... ]] ... إزداد ضحكي وزادت وتائرً سخريتي من هذا المسخ الأجرب الموسوس الذي دمّر الخرفُ والمرض الباقي من دماغه . قهقهتُ أعلى فأعلى هازئاً به ساخراً منه ثم بصقتُ في وجهه الكريه فيا للعجب !! إختفت بقية الوحوش من خلف كبيرهم لكأنَّ الأرض قد إنشقت وابتلعتهم ... يا سبحانَ الله !! تضاءل الوحش الأكبر شيئاً فشيئاً وتضاءل وتضاءل حتى مسخته قدرةٌ خفيةٌ فتحول إلى كلب صغير بحجم جرو . يا سبحاَنَ الله !! صار الجرو يتطلّعُ إليَّ مستعطفاً مترحّماً هازاً ذيله ذلاً ومسكنةً وهواناً . يا سبحاَنَ الله !! إجتاحني التحوّلُ الخفيُّ فأشفقتُ عليه فرفعته وحملته على ذراعي كما كان دأبي مع طفلي في شهوره الأولى . طفقتُ أمسِّدُ جبهته وأذنيه وظهرَه ثم أمسكتُ برفقٍ ذَنَبه فتجسّد السيدُ المسيحُ شاخصاً بقامته المَهيبة أمامي وهو يردد بصوتٍ خفيض [[ أحبّوا أعداءكم ... أحبّوا أعداءكمْ ]] . كان ما زال الكلبً الوضيعُ الضئيلً بين ذراعيَّ فحررته مردداً علّه يفهم مغزى قولي [[ العفو عندَ المقدرة ]] . لم أصدّق ما سمعت : جاءني صوتُ صديقي أبي الطيّب المتنبي مُنشداً كأحلى ما يكونُ الإنشادُ {{ ترفّقْ أيها المولى عليهم // فإنَّ الرفقَ بالجاني عقابُ }} .
هذا هو سبب زيارتي المفاجئة هذه يا سيدوري ، جئتكِ لأقصَّ عليك ما رأيتُ ليلةَ أمسٍ في منامي لتفسّري لي رؤيايَ التي أقضّت مضجعي وكادتْ أنْ تقصمَ ظهري ففسري ما تراءى لي في حُلُمي يا سيدوري . إعتذرتْ بأدبٍ جمٍّ سيدوري ثم قالت أنا سومريةٌ وأنت بابليٌّ فحريٌّ بك أنْ تسالَ مَلَكي بابلَ هاروتَ وماروتَ فهما الأقدر على تفسير الأحلام وفك الغاز الرؤى ... ثمَّ قد ورد إسماهما في القرآن ولم يردْ كما تعلمُ إسمي ، فهما الأعلى عند ربّهم مكاناً ومكانةً وهما الأشرفً قَدراً .... عدْ لبابلَ مسقطِ رأسك تجدْ هناك تفسير أحلامك صغيرها وكبيرها . عدْ إلى هناك فهناك صاحبتك عشتارُ ولها مع سَحَرة بابلَ ومنجّميها علاقات متينة وثيقة ..
الاثنين، يناير 05، 2009
سيدوري في مملكة الحيوان
Labels:
عدنان الظاهر
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق