عبدالله خلف العسّاف
الوطن
(سيأتي حفارُ القبور/ هذه الليلةِ/ إلى المقبرة ليجمعَ عظامي/ يتبعهُ ألفُ حفار/ يغنونَ قربَ قبري/يرقصون على نارٍ أشعلوها/ من جلدي/ سيأتي الشامتونَ/لإكمالِ مراسمِ الدفنِ/هاهو العرسُ يكتملُ/ هاهم يَخرُجون من الأجداث 105).
حين مات أنكيدو أمام عيني صديقه اللدود جلجامش لم يستوعب أن صديقه مات، فأصيب بإحباط شديد، ومن شدة صدمته أمام الموت سأل نفسه: كيف يخلد الإنسان في هذه الحياة خلوداً حسياً؟ فقرر أن يسافر إلى جدته التي ماتت منذ عصور ويسألها عن سر الخلود. فسافر أياماً وشهوراً وقطع محيطاتٍ وبحوراً، وواجه من المصاعب الجمة ما لم يواجهه من عاش قبله. وحين وصل إلى عالم الموت السفلي في الطبقة السابعة أيقظ جدتـه فسألها بجدية متناهية: كيف يا جـدتي يستطيع الإنسان أن يخلد في هذه الدنيا، وقد مات صديقي أنكيدو بين يدي؟ فقالت له سأعطيك هذه العشبة الخضراء (عشبة الحياة) خذها معك، وحين تصل إلى وطنك تناولها وسوف تخلد ولن تموت. وعاد جلجامش فرحاً بالنصر الذي حققه على الموت، وقطع المسافات الطويلة والبحار والمحيطات وواجه الصعاب والملمّات التي واجهها سابقاً. وحين اقترب من (أورك) مدينته - وهو على تلّة مرتفعة - قال في نفسه: لقد تعبتُ وينبغي ألا أدخل المدينة - وأنا على هذه الحال - وسوف آخذُ قسطاً من النوم ثم أدخلها. وقبل أن ينامَ وضع (العشبة الخضراء) إلى جانب رأسه على أن يأكلها بعد أن يستيقظ لكي يكسب الخلود في هذه الحياة. نام جلجامش بعمقِ المسافر المتعَب، وبعد ساعات استيقظ من نومه، ولم يجد عشبة الخلود الخضراء، فبحث عنها هنا وهناك، وبعد عناء من البحث عرف أن الأفعى أكلتها. فجلس حزيناً يتأمل ما حصل له وللعشبة، وبعد تفكير وتدبير اكتشف - منذ ذلك اليوم - أن الخلود لا يكون بالجسد، وإنما بالأعمال الخيّرة التي يُنجزها الإنسان في حياته. وحين عاد إلى أورك - وهو الحاكم المتغطرس - فتح أبواب السجون، وأطلق السجناء، وأشاع الحرية بين الناس، وأمر ببناء الحدائق وأماكن الترفيه، وملاعب الأطفال. وعاشت المدينة منذ ذلك الحين إلى اليوم في راحة وهدوء وأمان، وكانت على أحسن ما يكون.
إن مجموعة الكاتب صالح الحربي (أرى نسوة يسقين الجثث) التي صدرت عام 2000 في طبعتها الأولى في بيروت، والتي تضمنت ثلاثة عشر نصاً وُزّعت على 134 صفحة من الحجم المتوسط تسعى إلى مقاربة المناخ التراجيدي في أسطورة جلجامش، فهي تجسد هذا المناخ، وتعتمد في بنائه على موت الجميل بفعل الآخر، وتتجاوز المكان والزمان إلى آفاق تكاد تكون لا نهائية، لكن الفارق الأول بينهما أن جلجامش بحث عن الخلود في الحياة، وحين لم يجده بحث عن بديل آخر، فحسم الفعل التراجيدي لصالح المنطق الذاتي. بينما بطل صالح الحربي - على الرغم من أنه يؤمن بنفس النتيجة التي وصل إليها جلجامش - لم يحرّك ساكناً، بل إنه بقي مستسلماً يراقب من تحت التراب بسكونية تامة مايجري حوله وفوقه. لا أدري هل يريد الكاتب أن يؤكد - عبر تجسيده المميز للسكونية المطلقة التي غيّبت ردّ الفعل - أن العالم اليوم مصاب بعقم شديد، ولم يعد بإمكانه أن يفعل شيئأ للحياة، أو لم يعد يعنيه أي شيء يدور حوله سواء أحدث أم لم يحدث؟ أو لعله وصل إلى النتيجة العبثية التي وصل إليها (مسخ كافكا) وجسّدها بكل جرأة. لعل ما تقدمه مجموعة صالح الحربي - عبر هذا الحقل الموات - شاهدٌ على عصرنا الذي ولد ميتاً، وكل من يتحرك فيه يشبه (أليعازر) خليل حاوي الذي مات فبكته زوجته بكاء شديداً، لكنه بعد مدة قصيرة عاد إلى الحياة، ففرحت زوجته بعودته، وكادت تطير من الفرح وحين أرادت أن تعبّر له عن فرحها بعودته إلى الحياة بعد تجربة الموت القاسية أحسّت بردِّ فعل سلبي من قبله، فلم يكن يحس بها ولا بما حوله. عيونه متحجرة، وإحساسه ميت، فتمنت لو أنه لم يعد إلى الحياة. فما الفرق بين ميت جسداً وبين ميت روحاً؟ لقد راود هذا الإحساس خليل حاوي في زمـن الانتكاسات الستيني. فهل أراد الحربي أن يقول: إن وقتنا اليوم يشبه ذلك الزمن الممتلئ بالانكسارات وخيبات الأمل والموت؟
ويبدو الفارق الثاني أن أزمة جلجامش كانت أزمة ذاتية تبدأ من الذات وتنتهي فيها، بينما أزمة الحربي كانت في الآخر. لذلك حين وجد جلجامش خلاصه الفردي حسم موقفه لصالح هذا الفرد، بينما أزمة الحربي لم تنـتهِ لأنها كما يبدو خارجة عن إرادته وهي أزمة شاملة يصنعها الآخر الذي يعاني من خراب وهجانة. إن أزمة التراجيدي في جلجامش مركزها الأنا، بينما أزمة الحربي يصنعها الموضوع.
والفارق الثالث أن جلجامش كان يبحث عن الخلود في الحياة أولاً ثم بعد الموت بينما بطل الحربي يبحث عن الحياة في الموت لأنه يجد أن خلاصه فيه أو كما يقول:(يبدو أنني/سأحملُ رأسي/ وأقدمهُ إلى السيّاف / وأمشي/ إلى قبرٍ محفور/ وأرمي/ جثتي بداخلِه/ يا تُرى من سيصلي على جنازتي ؟ يا تُرى من سيُهيلُ علي التراب 32).
إن المناخ التراجيدي الذي جسّده صالح الحربي يبدو فيه الإنسان/الفرد منهكاً مستسلماً لايوجد لديه ما يستطيع فعله.
وقد ساهم الشكل الجمالي لأغلب النصوص بتجسيد هذا المناخ. وسوف نتوقف في هذا المقال عند المحور الأول الحامل لهذه المجموعة: من الفعل التراجيدي إلى الأسطرة.
لقد جمع الكاتب بين أمرين يبدوان للوهلة الأولى - من حيث المنطق - أنهما متناقضان جداً.
- فقد جسدت المجموعة جوانب من تفاصيل الحياة اليومية، ومما هو جزئي وخاص وذاتي، وهذا النوع من التعاطي يفرض على كاتبه شكلاً جمالياً تكونه المفردة اليومية، والتناول البسيط للحالة الذي يتناسب وطبيعة الحدث الجزئي واليومي. إن ما فعله الشاعر - وهذا هو الأمر المفارق - تجسيده لهذا اليومي والجزئي والبسيط عبر منطق الأسطورة، أعني أنه وضعَ البسيط، المحدود جغرافياً، المحسوس، المرئي، الممزوج ضمن مناخ معقد، غير محدود، غامض. ولو أن الصورة الفنية لديه اتكأت على الشعار والمقولة الكبرى لما اختلف عنده الأمر في شيء ولكان أسهل عنده اختيار ما يناسب الشعار، ولم يأتِ بجديد. إن الحاملين الأساسيين للفعل التراجيدي لديه متباينان وعلى طرفي نقيض. لقد ارتقى الحربي بحدثه البسيط إلى الضفة الأخرى (المناخ الملحمي) المحمول أصلاً على مجموعة من الأساطير.
- ولابد من الإشارة إلى أن للتعاطي مع الأسطورة عدة أشكال، أولها استحضار نص الأسطورة عبر التناص المباشر، وثانيها استحضار روح الأسطورة من خلال استحضار الحدث الرئيسي الحامل لها والإيحاء من خلاله بمناخها وطقوسها، وثالثها - حيث لا يعتمد الكاتب لا على هذا ولا على ذاك - إفادته من الطقوس التي يفرضها الخطاب الأسطوري، فيقدم الحالة أو الموقف أو الحدث عبر ذلك المناخ. دون أن يتقاطع مع أي أسطورة محددة أو يوحي بها.
- إن ما فعله صالح الحربي يتلخص في أمرين: الأول أنه استخدم منطق الأسطورة في تجسيد الحدث، وثانيهما أنه لم يعتمد على أحداث كبرى عظيمة كتلك التي رافقت الأساطير في ملاحم الإلياذة والأوديسة والإنياذة وأوديب والأميرة ذات الهمة وعنترة، فيسهل عليه تقديمها عبر المناخ الأسطوري، بل لجأ إلى ما هو يومي وجزئي وبسيط عبر مناخ يبدو كما ذكرت من حيث المنطق متناقضاً.
- إن البناء الأسطوري يتميز باللامنطق في بناء الأحداث واللامكان واللازمان واللاتاريخ واللاجغرافيا. والشاعر أسطر الحدث الجزئي الواقعي، فرفعه إلى حدث كلي فنمذجه ثم عمّمه حيث قدم من خلاله عصراً ميتاً لا حياة فيه.
- ومن علامات الأسطرة كما وردت في المجموعة اتساع الرقعة الجغرافية بين أطراف الصورة، والإدهاش المبني على المفارقة، والمبالغة فـي تقديم الحدث، والرمزية، والانزياح، والحسية في بناء الصورة. ونستشهد على ما ذكرنا بالنص التالي: (في المساءات/ الممتلئة بردٌ قارسٌ/ وثلجٌ أبيضُ/كبياضِ الياسمين/أرى نسوة حفاةً / يتجهن/نحو القبورِ/ينبشن قبري/بأظافرهن المتسخةِ/تبكي إحداهن/أرى قبريَ/قد غطاهُ الثلجُ الأبيضُ/في المساءات/ الممتلئة حزنٌ ضبابيٌ/أرى نسوةً/يتجهن نحو القبورِ/ويحفرن قبري/ يحملن جثتي/ويصعدن الجبلَ/ويسترحن على أعلى قمّةٍ/جثتي مسجّاةٌ/يرفعن الجثةَ/يخدشن مرايا السماءِ/بأظافرهن/أطفالهن يهشمون/مرايا السماء/يتساقط الزجاجُ/ثلجاً أبيضَ/كبياض الياسمين/الدماءُ تسيلُ/النسوةُ، الأطفالُ، الجبلُ، الجثةُ / أصبحَ لونُهم أحمرَ قانياً/ هل السماءُ تنزفُ/أم الأمطارُ/لونُها أحمرُ؟/في المساءات/الممتلئة دفئاً/أرى أطفالاً قادمين/ من أقصى المدينة/يحملون الجثثَ/ويغرسونها في الحدائق العامة/وأرى نسوةً يتشحنَ بالسوادِ/يسقين الجثثَ/ بماء الوردِ/ ويعطرنها/ بالمسكِ والعنبرِ15).
- حوامل هذا النص تعمتد على المفارقة بين الواقعي والميتافيزيقي، والحركة البطيئة والصمت التام، والجمع بين أشياء لا تُجمع في الواقع (أطفالهن يهشمون مرايا السماء يتساقط الزجاح ثلجاً أبيض كبياض الياسمين ). وهناك علاقة لا منطقية بين أحداث تبدو متناقضة لا يمكن أن يجمع بينها سوى المنطق الأسطوري. والصورة التي تليها تؤكد هذا المنطق (أرى أطفالاً قادمين من أقصى المدينةِ يحملون الجثثَ ويغرسونها في الحدائقِ العامة).
إن مجموعة صالح الحربي تتضمن نصوصاً يستحق كل واحد منها دراسة خاصة لذلك سوف نفرد لها المقال التالي حيث سنتناول فيه موضوعات: التناص، والصورة المقطعية، والقيم الجمالية، والمعجم الشعري ودورها في بناء التراجيدي.
* أكاديمي سوري
الأحد، يناير 04، 2009
أرى نسوة يسقين الجثث" لصالح الحربي.. من الفعل التراجيدي إلى الأسطرة
Labels:
صالح الحربي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق