الخميس، يناير 01، 2009

خيطٌ من دِثار الكائنات

سامي العامري
--------
حديث مع ربة الشفاء
----------------------
الحلقة الأخيرة
---------------

الربة أظهرت صمتاً جليلاً في المكان فهموا من خلاله أنها تعرف أن الكل في وضع صحي لا يسمح بالتداول الطويل وفسروه بأنها أعطتهم فرصة للإستراحة مع أن حضورها كان لا يزال مهيمناً... بعدها لاحظتُ نزول صاحبي العربي المترجم وهو يهذب من مظهره بحركات سريعة حتى صار قريباً من زميل له يشاركه الغرفة فتوقف مستطلعاً مستغرباً , خطوتُ نحوه , مازحتهُ بالقول : أما زلت تحس بالخيبة ممن استنفروا علاقاتهم ضدك لتهجر مشروع ترجماتك ؟!
قال : لا أبداً هؤلاء مذمومون لأنهم جراد والجراد معروفٌ على أي شيء يعتاش , ولكنهم يؤثِّرون فقط على المزاج بين الحين والآخر , إنهم لم يكتفوا بصفة ( شاعر) فالجو مناسب لهم كما يبدو فقالوا لأنفسهم إذن لنكن نُقاداً أيضاً , ولمَ لا ؟ أنظرْ , عندما تتفتح عواطف الإنسان في شبابه الأول وتخامر روحَه نداءات الحب والطبيعة ... الخ فالكثير من البشر في هذا العمر يستهويهم الشعر وعوالمهُ فيكتبون ربما رسائل حب او خاطرة او ما شابه ولكن عندما يسمعون من أناس أنصاف متعلمين قولاً مثل : أحسنت ! جميل ! إنه الشعر , إنه الشعر الحديث الخالي من الصنعة والتكلف ! وما سواه فهم يصدقون ويطيرون ! فهؤلاء اليافعون الذين كان طموحهم في البدء أن يصبحوا أطباء او مهندسين او حقوقيين او مهنيين وغير ذلك تجدهم يتخلون عن حلمهم النبيل الأول هذا ويلجأون الى كتابة الشعر ! ألا تلاحظ هذا العنصر ؟ إنه برأيي جانب أساسي من المشكلة . كنتُ دائماً أكرر : نحن بحاجة ماسة الى طاقات علمية وفكرية واجتماعية متنوعة أولاً ويجب تنميتها وتعزيزها لدى النَّشيء الجديد بكل السبل مع تأطيرها بالقيم الجمالية والذوقية وإلا فكلُّ مَن يولد بدءاً من اليوم هو بالضرورة شاعر غداً !
انا أتخيل أنه سينقطع عن الدراسة في منتصف الطريق او سيصبح مجال تخصُّصهِ الشعر والنقد فحسب !
قلتُ له محاولاً إبعادهُ عن هذه السوداوية المستقبلية : الزائف مَهما كثُرَ يفضحه القليل الأصيل , هل هذه حكمة ؟ لا أدري ولكني متشبثٌ بها كاليتيم !
إبتسمَ ثم انضمَّ الى مجموعة قريبة منه .
كان الجميع قد وجدوا أماكن لهم ففي الشرفة الطويلة كان يقف الأطباء ومنتسبو المستشفى وجمع من المرضى أما في الحديقة بالجهة المقابلة فقد وقف مرضى أيضاً وجمع من أصحاب المشاكل العقلية المستعصية وأمامهم على المقاعد يجلس المرضى كبارُ السن تقريباً تلوح عليهم علائم البِشْر والإبتهاج ...
وأضواء المساء وسط هذه الحشد المَداريّ الأرضي تراتيلُ لونية متناغمة كالذرّات بروعة لامتناهية .
وبعد فترة انبرى صاحبي المترجم ليلقي سلاماً بليغاً مقتضباً على الربة بدأه بـ يا ذات التكوين المتأنق في المعرفة والرَّشاد . ثم قال : أود لو أنَّ للهواء أبواباً فأوصدها ! لا خوفاً منهم وإنما شفقة عليهم فهذا العائش في أوهام أمجادٍ آتية ظانّاً أنه إنسان ما بعد حداثي وما عليه إلاّ أن يُملي فيصفِّق الآخرون ! ليس سوى حالة شائهةٍ ومُشخَّصةٍ رغم عدم معرفته بذلك لأنه يسير تحتَ جنح الغواية , الغواية لا بالمعنى الفني وإنما الحَرفي , وهذا بعض ما يُضجر ...
أجابت الربة بكلام منغم : إنفعالك الحريص يشي بألم عميق واعلَمْ أن التنافس على الجمال هو هِبة أرضية فريدة ما لم ينحرف عن مساراته , وما دام لديك إصرار على قطف باقةٍ مسحورة من الجمال الأصيل فدع زورقك يمرُّ من بين الأمواج فالمركب المتين الواثق وهو يتهادى في مسعاه نحو هدفهِ الحي لا يهمه ما إذا كانت الأمواج نقية ام ملوثة .

هنا أطلت من على سور البناية إحدى نساء هذه المدينة وقد تجمع بعض من سكانها وكان من بينهم النساء المطلات برؤوسهن وبافواههن الفاغرة حبوراً , فصاحت تلك المرأة : إزدهتْ مدينتنا واتسعتْ بإطلالتك البهية أيتها القامة المحفوفة بمسرات علوية ,
انا أعيش مع زوج ظل في الفترة الأخيرة كلما يدخل المنزل يختصم معي لسبب او دون سبب ويبقى يسمعني تعبيرات فظة نابية فصرتُ أقول له ناصحةً إنك متعَب عقلياً , أرجوك إذهبْ الى المستشفى القريب حيث العناية الممتازة والكثير من أسباب الراحة ولكنه يرفض ويردُّ عليَّ بهزءٍ : بل أنت المختلة عقلياً ... فماذا أفعل ؟
وقد إتصلتُ بالشرطة ودعوتهم لأعطيهم الدليل ولكنه وياللعجب ما أن تحدَّثَ رجالُ الشرطة معه حتى أجابهم بكل منطق ولباقة ! فما كان منهم إلا أن نظروا اليَّ نظرةَ لومٍ تقول بأني خدعتُهم فقفلوا عائدين ! ما كنت أستطيع النوم خوفاً .
قالت الربة : شكراً لكِ , لا بأس , جرِّبي مرة أخرى وأخرى , قولي له في كل مرة عندك الحق , معك الحق ... وهكذا الى أن يكتشف لوحده أنه على باطل ! أما اذا شعرتِ بالعجز فتعالي الى هنا وتحدثي مع الأطباء بهدوء وسوف لا يحصل شيءٌ .
هنا صاحت المرأة بسرور : شكرا لك , دامت لك الهيبة أيتها الربة المبجَّلة , الآن استعدتُ عقلي !!
ثم ومن نفس المدينة وعلى مقربة من شجرة صفصافة ينطلق صوت مُشَجَّرٌ ! وذو بحَّةٍ : أيتها المتجردة من كل هنات البشر , العميقة كالينابيع , انا بسخاء بشرتي السوداء وتَعَبِ أجفاني أسألك : لا ريب أنك تؤمنين بالعدل بل وتكرمينه لذا فكيف ولماذا لم يُقَدًّرْ لي أن أكون واحداً من أهل المشيئة العلوية المقدسة مثلاً ولماذا هم بالذات لم يولدوا أرضيين ومن أيًِّة ذرىً علوية تنبجس العدالة ؟
ردَّت الربة بحنوٍّ وتطمين : أيها الرجل الحصيف , أغلب الناس ينطلقون في فهمهم للعدل من حاجات يريدونها ولكنهم لا يستطيعون امتلاكها , أي أنه يأخذ شكلَ احتجاج او اعتراض , هذا المظهر العام غير أن العدل مَيلٌ لا نهائي يسترسل حتى يفضي اليك وهو أيضاً نسقٌ او وحدة خالصة بلا تشريف .
فشكرها وراح يتأمل !
والى قريب من هذا الرجل كان يجلس طفل على السياج الشبيه بسور متوسط الإرتفاع تحيطه الشجيرات الصغيرة والكبيرة , الطفل كان طيلة الوقت شديد الإندهاشة والمرح فصاح بالربة كم مدهشة وكبيرة أنت ! انا الآن في السابعة من عمري وفقدت بصري منذ عام وقد أجروا لي عمليتين قالوا بعدهما هذا عَمَىً مؤقت وأضافوا : قد تسترجع بصرك الطبيعي خلال عامين وكنت كلما أخرج للتنزه أصطحبُ كلبي معي فهو يهديني الى الكثير من الأشياء والأماكن , والجميل أنه يتوقف لينبح بصوت وَدودٍ عند إشارة المرور الحمراء لينبهني ثم ينبح ثانية عند ظهور الضوء الأخضر ! وهكذا بقينا سعداء معاً ولكني اليوم ما احتجتُ الى مساعدتهِ فما أن خرجتُ من البيت معه حتى صحتُ به توقفْ ! تعال سِرْ ورائي ! نعم رأيت ضوءك من بعيد ... وها هو كلبي يقعي في الحديقة الخارجية جانبي تحت السياج .
قالت الربة بصوت رقيق دافيء : شكراً أيها العزيز , وكم هو جميلٌ كذلك من هذا الحيوان الوديع أن يقود الإنسانَ ويساعده ! ففي هذا فضيلتان , الأولى أن يتواضع بنو البشر والثانية أن يلتفتوا الى إمكانية مصادقتهم للحيوان وحتى للحشرات فيما لو فهموا ما تحتاجه فقط , وحاجاتها قليلة .
وفجأة قهقهَ أحد المرضى الوافقين على الجانب الأيمن في الشرفة بظُرفٍ وصاح :
أيتها السامقة بالأضواء , كما ترين من ملامحي , انا صينيٌّ , كنت أقتني قبل عدة سنواتٍ في مزرعتي شمال بلدي الصين , كنتُ أقتني حصاناً صغيراً أشهب وكنت أصحبه معي الى المزرعة كل يوم فكان تارة يساعدني في تفاصيل بسيطة وتارة ينطلق ليرعى ويمرح ويوماً من الأيام إضطررتُ الى الخروج وحدي وتركهِ في البيت حيث الدفء إذ كان الطقس بارداً وحينما عدتُ وجدته واقفاً ورأسه الى الأسفل , داعبته بشوق عدة مرات ولكنه لم يتجاوب فعرفتُ أنه غضبَ مني لأني لم أصطحبه ولكنه خرج معي في اليوم التالي على أية حال بعد عدة محاولات لإرضائه .
فعلَّقت الربة بنبرة فيها شيء من الحزم : الحصان لم يتواددْ معك نعم ولكن ليس بسبب عدم اصطحابك له وإنما فعلَ ذلك لأنه عرف أنك لم تَفهمهُ جيداً بعدُ فهو عنده تحمُّلُ البردِ في صحبتك خيرٌ له من البقاء في الدفء مع الوحشة .
فانبهرَ الشاب الصيني وظلَّ يعتذر غير أنها قالت : الحيوانات كلها وديعة ولكنها تحمل في داخلها من الأسرار ما تحملهُ البراكين من ذلك .
طبعاً انا كنت أصغي بفضول وإعجاب شديد فتذكرتُ بشجاً ما قرأتُهُ ذات يوم ليس بعيداً أن سيف الدين الآمدي ت 50 هـ متكلم , مُصنِّف رموهُ في مصر بالإنحلال , أقام في حَماه ، ثم في دمشق. ومن غريب ما يُروى عنه أنه ماتت له قطة في حَماة فدفنها هناك فلما سكن دمشق بعثَ ونقل عظامها في كيس ودفنها في قاسيون !
( ليلة لا تُنسى ! ) صاحَ كبيرُ الأطباء في المستشفى فرددها أكثر الحاضرين بفرح بينما الربة تتهيأ للغياب ...
لم يعودوا يعرفون ما القلق الذي طالما استبد بهم فيما مضى وباتوا الآن صرعى قلقٍ آخر أجمل أنقى أبقى ورحتُ أنا جالساً أرقب معهم تباعُد الربة قليلاً قليلاً حتى انحنتْ اليها غيوم وهي تعبِّد لها بذوائبها وبضلوع من البرق درباً نَدياً نداوةَ قلبٍ عاشق مضمَّخ بأفاويح الأبد والسديم وكنت أفكر بينما زفيري كالبخار أخذ يتصاعد بغموض له مذاقُ الرؤيا فأحس أن جسدي راح يتصاعد معه أيضاً ...
فكرتُ : الكائن الإنساني المفكر القلق لا يمكن له إلا أن يحشر رأسه في بئر الإسئلة أمام عظمة الوجود ومطلقيته لذا فالمفكر كان دائماً أشبه بالدُّب الذي يُحشر رأسه في خابية , في ( بستوكة ) فلا يستطيع إخراجه منها ولكنّ عزاءه أنَّ في البستوكة عسلاً !!


بِحارُ انتظار
---------
بحارُ انتظارٍ أجولُ - كما شاؤوا - فيها
وفي القاع أحصي دموعَ السمَكْ !
كيف لي ؟
كيف لكْ !
وأُرضي غرورَ الدقائقْ
وثائقْ !
وثائقْ !
تَحَسَّستُها بيدٍ راجفهْ
والآنَ أُلقي بها في الطريقِ
لينهشَها مِخلَبُ العاصفهْ !

----------
1988
بايرن




---------------
القاضي الجرجاني في لاميتهِ :

وإنِّي إذا ما فاتني الأمرُ لمْ أبِتْ
أقلِّب كفِّي إثره متندما
ولكنه إنْ جاء عْفواً قبلتُهُ
وإن مال لم أتبعه : هلاّ وليتما

--------------


فوق عتبات الموكالختب اسمك
قققققفوق الخاتمة :ا
لبول إيلوار وهو يخاطب الحرية :
----------------

فوق العافية المستعادة
فوق الخطر الذي ولى
فوق الأمنية التي بلا ذكرى
أكتب اسمك
وبقدرة كلمة واحدة
أبدأ ثانية حياتي
فأنا ولدت كي أتعرف عليك ,
كي أسميك !

*************

----------------------------------------------

(*) تمَّ كتاب : حديث مع ربة الشفاء !
(**)أحداث هذا العمل الأدبي تجري في مستشفى ميرهايم وهو مركز طبي تأهيلي في مدينة كولونيا – المانيا .

ليست هناك تعليقات: