نبيل عودة
قصة
مع تسلل أولى خيوط الفجر .. انطق صياح الديك ، كعادته منذ صار شاعر القوم ، معلنا بدء يوم جديد .
كان للديك ، مثل كل مثقف وشاعر كبير ، فلسفته الحياتية الخاصة .وهي تتشكل من منظومة من التصورات والأفكارالأدبية والدينية ، يحاول بها ان يخضع جماهيره البياضة الى نشوة الفجر الجديد ليبدأ الجميع نهارهم بنشاط وهمة . وكان يصاب بالغضب الشديد حين تتماطل بعض الدجاجات فوق بيضاتهن ، ويرى بذلك خضوعا لألاعيب الجن واغراءاته ، فيزداد صراخه حدة مهددا بلغة شعرية موزونة واضحة ، انه لن يقرب الدجاجات المتكاسلة عقابا على تماطلهن ..ولن يسمح لديوك الجيران بالأقتراب من مملكته الدجاجية ، أولا صونا للعرض ، وثانيا منعا للإختلاط غير المشروع .وثالثا حفاظا عى حقوقه غير القابلة للنقض والنقل.
كانت تشغل الديك مسألة فلسفية كبرى : وماذا بعد .. هل من تطور الى مرحلة جديدة أرقى من ملك متوج على خم دجاج ؟
وكثيرا ما يغرق في البحث بمعلوماته المعرفية . ولكنها معلومات لا تتعدى بعض النزوات مع دجاجات الجيران .. حقأ أمدته بشعور من التعالي على ما عداه من جنس الطيور . ولكنه شاهد مرة أوزة في حديقة الجيران ، حاول الوصول اليها فهاجمتة بمنقار حاد ولم يكرر المحاولة . كان دائما يفكر ، ماذا لو صار ديك أوز ؟ يملك من القوة والقدرة ان يملأ فراغ خم دجاجات الجارة الفارغ من الديوك ، بعد ان نفق ديكها الشرس ، الذي كان له معه جولات من المناوشات الدموية ، وقد هجاه بقصيدة عصماء ما زال يسمعها للديوك الصغيرة حتى لا تتوهم انها أصبحت كواسرا متوجة على عشيرة من قليلات العقل ؟ وان تظل مهما ارتفعت قيمتها ، ذليلة امام عرشه .
كان الديك ، بمفهوم ما فيلسوفا ... ولو استطاع صاحب الخم ان يحول صياحه الى كلمات ، لتسجل في كتاب جينيس كأول فيلسوف بين الأصناف غير البشرية ، ولنقلت "الجزيرة" أحاديثه وقصائده وحكايات عن تجاربه الفكرية ، وخاصة جملته الشهيرة بعد ان اعلن مقاطعة ساحة الجيران حيت تعيش الأوزة الشرسة مع صغارها ، اذ قال : " ماذا تظن هذه الأوزة نفسها ، انها مجرد قليلة عقل مثل كل اناث الطيور ، وان شراستها تتحول حين يحضر ديك أوز الى استسلام مشين . انها تمارس البغاء بنت الكلب مع كل ديك أوز غريب تلتقي به ، عكس دجاجاته ، القنوعات الملتزمات بديكهن ."
كان الديك يغضب عندما يحضر تجار من السوق يتمايزون دجاجاته ، ويجسون بطونها وأفخاذها ، وقد حاول تنظيم مقاومة دجاجية ، بأن تبدأ الدجاجات بعفر التراب فور اطلال وجه غريب صونا للعرض من هذا التعدي الفاحش . ولكن الأمر لم يكن يساعد كثيرا .. فيدخل " أولاد الأيه ..؟" بين الدجاجات ويبدأون بالقاء القبض على أفضلهن جمالا وسمنة ، وهن اللواتي يفضلهن بعد قيلولة الظهر .. وقد فوجئ مرة ، وأصيب بكآبة حين نظر اليه تاجر شره المنظر ، وسال :
- بكم تبيعني هذا الديك ؟
- انه ليس للبيع .
- أتمنى ان أراه محشوا فوق مائدتي...
وحاول ان يقتنصه ، فانتفض الى سقف الخم وتوجه مثل الصاروخ نحو قمة رأس هذ الشره مشغلا منقاره الحاد في جلدة رأس التاجر الشره ، الذي سرعان ما صرخ وخرج راكضا من خمه .. ناسيا وجبته الفاخرة بديك محشو على مائدته ، وسره ان صاحب الخم ضحك سعادة ، وخرج سريعا وراء التاجر ليعالج له جلدة رأسه المنقورة ، وهو يقول ضاحكا :
- هل ما زلت تصر على تناوله محشوا على مائدتك ؟
- سأشتريه عندما تقرر بيعه حتى لو كان لحمه غير صالح لأكل البشر ... سأقطعه وأطعم لحمه للكلاب ..
وانطلقت الضحكات وكأنهم يتحدثون عن ديك لا قيمة لرأيه ، مما جعله يفكر بطريقة ما للتخلص من هذا الخم والبحث عن فضاء أوسع من الحرية وعدم التعرض الدائم لخطف دجاجاته وتعريض أمنه الشخصي لخطر الذبح والحشي والالتهام ، وكأنه مجرد وجبة دسمة لا أكثر ، وهو الفيلسوف الشاعر الذي ينق جلدة رأس كل من يطمع به ويستهتر بمكانته .
في زاوية بعيدة جلست بضع دجاجات ينظرن اليه مبتسمات ، وكأن مصير ديكهن لا يهمهن .. او اكتشفن انه في طريقه مثلهن ، للموائد والالتهام .
ازداد غضبه :
- ما الذي يثير ضحككن يا عاهرات ؟
قالت الأولى:
- لأول مرة اكتشفنا ان خطر الموت من نصيبك أيضا ، فلا تتعالى علينا بعد اليوم .
قالت الثانية :
- ايضا انت صالح للحشو والطبيخ مثلنا تماما ، بل يفضلونك عنا .
قالت الثالثة :
- الخوف من الموت لم يعد من نصيبنا فقط .. فلا تتباهى علينا يا ابن العرص .. كفانا شعارات وتباه .
قالت الرابعة :
- كنا نظن الديك ملكا ، فاذا هو مجرد ظاهرة صوتية بين الدجاجات .
احتقن وجهه غضبا ، وتوقع ان تكون وسائل اعلام معادية قد حرضت دجاجاته ، وليس مجرد تاجر عبر عن شراهته بالتهامه محشيا. وقد يكون وصل للدجاجات معلومات سرية لا يفصحن عنها ، وسيعرف كيف يجعلهن يقررن امام سريرة بكل ما يعرفن من أسرار ، والا حرمهن من المتعة التي يتنافسن عليها أمامه ، قبل أن ينفقن محشوات على موائد المشترين. وبعد تأمل فلسفي ، واستعراض الدجاجات الضاحكات الوقحات بعينية ، قال:
- هل تعلمن يا فاجرات انه يوجد ما هو أسوأ من الموت؟
- أسوأ من الموت ، ما هو يا ديكنا المتباهي ؟
- هل قضيتن مرة اسبوعا كاملا دون أن الاطفكن وتتمسحن بجناحاتي و... ؟
نظرت الدجاجات بعيني بعضهن البعض ، وظهرت ابتسامة خبيثة على وجوههن ، وقلن بصوت واحد :
- سنرى .. من ينهزم أولا .
وتمايلن وتقصعن وهززن اردافهم بشكل أثار شهوته ، وانضممن لسائر الدجاجات وهن يتسائلن :
- هل يصمد هذا المدعي امام سحرنا ؟
نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي فلسطيني - الناصرة
nabiloudeh@gmail.com
* القصة رمزية وأي تشابه بين أحداثها وحكاية ديك آخر هو صدفة لا غير !!
الاثنين، يناير 12، 2009
يوم في حياة ديك
Labels:
نبيل عودة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق