الخميس، يناير 03، 2008

صباحكم أجمل \ انطلاقة وزهرة المدائن


زياد جيوسي

أحد شوارع رام الله المتقاطع مع شارع السهل
"بعدستي الخاصة"

موسم البرد الشديد الذي يجتاح رام الله، يجعل البرد يسري في العظام، "مربعنية" جافة تزيد من البرد، الأمطار محبوسة، والعيون ترنوا إلى السماء تأمل وتنتظر، ومع هذا فما زال المسير في شوارع المدينة له نكهته، وما زالت رام الله جميلة ودافئة القلب رغم البرد.
عام جديد، أمنيات وأحلام جديدة، العالم كله يحتفل بهذه المناسبة بإطلاق الألعاب النارية وإضاءة الأنوار وإشعال الزينات، إلا نحن.. ابتكرنا طرق جديدة للاحتفال، فليلة رأس السنة لوحدها كان حمام الدم يجتاح غزة، فسقط سبعة ضحايا جدد وجرح العشرات، تحت وطأة قرار بوقف أية مظاهر لذكرى الانطلاقة، في الوقت الذي لم تتوقف فيه طائرات العدو ومدفعيته عن اصطياد المقاومين، وكأننا نصر أن نكمل ما بدأه العدو، فأصبح القتل سُنة يومية مقيتة، وأصبح الانقسام علامة مميزة، وأصبحت المناكفة بين حكومة مقالة في غزة وحكومة معينة رسمياً في الضفة، مناكفة تتكرس بلون الدم ونكهة الدم.
مسائل مهمة لا أحد يريد أن يدركها، أن ذكرى الانطلاقة هي احتفال يخص كل الشعب الفلسطيني، بغض النظر عن الراية التي يحملها الفصيل، فهي ليست مناسبة "فتحاوية" خاصة، والانطلاقة هي انطلاقة شعب وثورته في مقاومة الاحتلال، وهي ليست ميلاد فصيل بل ميلاد ثورة، والانطلاقة كرمز الكوفية الفلسطينية المرقطة بالأسود والأبيض، رمز للشعب الفلسطيني تجذر في الوجدان منذ ثورة العام 1936، وليست رمزاً لفصيل بعينه بل رمزاً للشعب بأكمله، والعلم الفلسطيني هو علم الشعب وليس علماً لفصيل، فكفى استهتاراً بتاريخ هذا الشعب، وكفى استهتاراً برموزه المقدسة، فأنا لم أكون فتحاوياً يوماً، ولي من المآخذ على الأداء الفتحاوي عبر الزمن الكثير الكثير، ولم أنتسب يوماً لا لفتح ولا لحماس، وتجربتي الفصائلية منذ بدايات العام 1968 حتى 1995 حين ابتعدت عن العمل الفصائلي، كانت في إطار بعيد ومختلف، ولكن ذكرى الانطلاقة كانت وما تزال وستبقى، أشعر بها تخصني كابن لهذا الشعب، وما زالت الكوفية كوفيتي ولم أغير لونها، والعلم هو علمي أقف بكل احترام له، فابعدوا ذكرى الانطلاقة عن الفصائلية وصراعها، ودعوا الشعب يعبر عن ذلك بحريته، وكفى إسالة للدم الفلسطيني.
منذ أعوام ورغم معاناتي من سلوكيات القائمين على السلطة من فتح، كتبت مقالاً أدبياً بذكرى الانطلاقة بعنوان: "حدثني جدي"، تحدثت فيه عن هذه المناسبة، ولم أوفر أداء حركة فتح الحاكمة من النقد، قلت في بعض من المقال: " في منتصف السبعينات خضت تجربة اعتقالية مريرة امتدت لخمس سنوات من ضمن سلسلة اعتقالات تعرضت لها، بسجن عربي " شقيق " بدون محاكمة ولا معرفة متى يمكن أن تفتح أبواب السجن، وكنا نحرص رغم كل قيود إدارة المعتقل أن نتجمع بباحة السجن في ذكرى الانطلاقة لنحتفل في ظل القيود بالانطلاقة ونغني سويا..فدائي فدائي فدائي يا ارضي وأرض الجدود، هذا النشيد الذي أصبح سلامنا الوطني، ونهتف بصوت واحد بغض النظر عن تعددية أبناء الفصائل.." فتح الثورة إحنا حماها دمي ودم أولادي فداها"، وبالتأكيد أن العديد ممن زالوا على قيد الحياة ممن تشاركنا وإياهم فترات الاعتقال وعادوا للوطن ما زالوا يذكرون تلك التجربة الرائعة بوحدتنا وانتمائنا جميعا لذكرى الانطلاقة.."، هذا المقال الذي نشر في الصحافة والشبكة العنكبوتية، بما فيها العدد الخاص لمجلة "فتح" المركزية، كان يؤكد على ما قلته سابقاً، ذكرى الانطلاقة هي مناسبة تخص الشعب بأكمله، ولا تخص فتح لوحدها، فحان الوقت للتوقف عن تدمير هذا التاريخ من الفصائل التي يدعي كل منها أنه يمثل الشعب، وكفى ضحايا على مذبح الذات الفصائلية.
صباح آخر وذكرى تستدعي ذكرى، ومسيرة الطفولة والعودة للقدس ما زال لها في الذاكرة الكثير، فقد عدت لأهل افتقدتهم، وأصبحت أعيش في مدينة مقدسة كانت تسكن الوجدان قبل أن التقيها، وتجذرت في الروح بعد أن عانقتها، فهي زهرة المدائن بلا منازع.
في تلك الفترة وكانت عطلة صيفية للطلبة، أتيح لي أن أعرف الكثير وأرى الكثير من القدس، فرافقتنا الوالدة مرة أنا وشقيقي جهاد للقدس القديمة، فتجولنا في أزقتها التي تحمل عبق التاريخ منذ عهد اليبوسين إلى الحاضر، زرنا الأقصى وسجدنا فيه، زرنا قبة الصخرة وتأملنا هذا الإبداع الفني، زرنا مسجد عمر وكنيسة القيامة، كنا فرحين فرحاً طفولياً ونحن في رحاب الأقصى والقدس القديمة، كانت الزيارة الأولى التي لم تنسى أبداً، وما زلت أحلم بزيارة ثانية يوماً، فما زالت الدوح محرمة على بلابلها مباحة لكل جنس.
انتهت عطلة الصيف والتحقت بالمدرسة، الصف الثاني الابتدائي في مدرسة جميلة ورائعة، مدرسة خليل السكاكيني، مدرسة مختلفة عن مدرستي السابقة في عمان، بالحجم والساحات والبناء، وكان الوصول للمدرسة يستدعي مسافة من السير على الأقدام، فنحن نسكن وادي الجوز، والمدرسة في حي الشيخ جراح، وكنت كل يوم وأنا أتجه للمدرسة أتأمل المباني الجميلة وملعب الشيخ جراح، الذي تقام به المباريات والاحتفالات الرسمية، ويقال أنه سمي بهذا الاسم نسبة لشيخ جليل سكنه وأقام فيه وكان من رجال القائد صلاح الدين الأيوبي، وكان ما يلفت نظري بالطريق منعطف وضعت ببدايته مخاريط إسمنتية، مهمتها إعاقة حركة السيارات، وبالقرب منها وضمن بقعة منخفضة عن الشارع كان هناك مدفع يحيطه جنود من الجيش العربي، جيش الأردن الذي يحمل اسم الجيش العربي وليس الجيش الأردني، وكان هذا المدفع يثير في داخلي الفضول الطفولي، ولكن كنت أكتفي بالنظر إليه في ذهابي وإيابي، وفي هذه المدرسة تفتحت عيوني على الثورة الجزائرية، فكنا نقف كل صباح لتحية العلم وننشد بصوت واحد يشق عنان السماء: "وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر.. فاشهدوا فاشهدوا فاشهدوا"، وكنا نتبرع بمصروفنا الضئيل لصالح الثورة الجزائرية، وكان كل صف بالمدرسة ما أن يجمع خمسين فلساً، ينال فرصة تعليق صورة لمليك البلاد على لوحة خاصة بالصف، ولذا كان التسابق على أشده بين الصفوف على من ينال أكبر عدد من الصور، دلالة على حجم التبرع لصالح الثوار في الجزائر، وكان مصروفي الضئيل الذي لم يتجاوز يوماً الخمسة فلسات في اليوم، أتبرع به يومياً لصالح الثوار في الجزائر بكل فرح وحب، فكانت البداية الطفولية لترسخ مفهوم الثورة في روحي ومقاومة المحتل، إضافة للعديد من الدروس التي تعلمتها بتلك الفترة سيأتي الحديث عنها لاحقاً.
أعود لصومعتي بعد جولة الصباح رغم البرد، التجئ لوجبة من التمر والحليب قبل فنجان القهوة لتبث الدفء في أوصالي، أحلم بطيفي البعيد القريب وأنا أتأمل الحمائم على نافذتي تلتقط طعامها، أحن لتلك الروح المحلقة بأفق أزرق وعيون كأنها واحة خضراء، فقد طال الغياب وازداد الشوق، أستمع وفنجان قهوتنا لشدو فيروز:
"لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي، لأجلك يا بهية المساكن يا زهرة المدائن، يا قدس يا مدينة الصلاة أصلي، عيوننا إليك ترحل كل يوم، تدور في أروقة المعابد، تعانق الكنائس القديمة وتمسح الحزن عن المساكن، يا ليلة الإسراء يا درب من مروا إلى السماء، عيوننا إليك ترحل كل يوم وإنني أصلي".
صباحكم أجمل.
رام الله المحتلة
http://ziadjayyosi1955.maktoobblog.com/

ليست هناك تعليقات: