زياد جيوسي
رام الله ترتدي ثوب زفافها الأبيض
بعدستي الشخصية
رام الله ترتدي فستان زفافها الأبيض، الثلوج بدأت تتساقط منذ الليل، وما زالت تتساقط ندفاً جميلة، أطل من نافذتي في هذا الصباح المبكر قبل صحو الطيور، فأرى الشوارع والبنايات ترتدي حلة بيضاء ناصعة البياض، جميلة رام الله في الشتاء كما هي جميلة في كل الفصول، ففي الشتاء ورغم بردها الشديد يكون لها نكهة خاصة وجميلة، تمازج بين الثلج والمطر، الجبل وهواء الساحل الذي تطل عليه من بعيد، وفي الخريف لها جمال أوراق الذهب المتطايرة، فأراها ابنة الخريف، وفي الربيع تزدهي بحلتها الخضراء وأزهارها المتنوعة الشكل والجمال والعبق، وفي الصيف تكون ذات نسمات ناعمة ترد الروح، فهكذا كانت مصيف فلسطين، جميلة في كل أوقاتها.
أمطار وثلوج، نعمة من المولى بعد انتظار طال، فنحن في "الكوانين" ولم تكن الأمطار حسب المعتاد، ونحن بحاجة لمطر السماء ورحمة المولى، فمعظم الينابيع قد جفت مع الزمن، وأحواض المياه وضع الاحتلال يده عليها، وغالبية الآبار الارتوازية تحت يد الاحتلال، يستولي على مياهنا ويبيعنا إياها بكميات قليلة، بينما المستوطنات القابعة كالسرطان على أرضنا تتمتع بمياهنا، ونحن نعاني من شح المياه في الصيف.
طوال الأمس كانت تهطل الأمطار ويتخللها حبات البرد أو كما كنا نسميها حب العزيز، وكانت الرياح قوية بما يمنع الحركة، فكانت المدينة رام الله شبه فارغة مقارنة بالأحوال العادية، ولعل نشرات الأخبار التي تحدثت عن الثلوج والاستعدادات لمواجهتها لعبت هي الأخرى دورها بخلو الشوارع من المارة باكراً، فالمعروف أن رام الله يتضاعف عدد سكانها نهاراً من خلال حركة القرى المجاورة، المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمدينة.
منذ أيام شهدت المدينة كم من المسيرات الشعبية الكبيرة، فوفاة "حكيم الثورة وضميرها"، كان لها وقعها الكبير على نفوس الناس، فالحكيم مناضل تاريخي ومتميز بمسيرته، قد يختلف الكثيرون مع نهجه وفكره، لكن لا أحد يختلف أنه كان مناضل صلباً ونقياً، فتأثرت بوفاته كثيراً، وشاركت بالجنازة الرمزية التي أقيمت له بالتوافق مع جنازته الرسمية في عمّان، وقلت في نفسي: ها هو أحد أنقى المناضلين والقادة قد رحل، فمن يا ترى بقي من هذا الرعيل الأول للثورة الفلسطينية المعاصرة، فالحكيم حظي على احترام الجميع عبر تاريخه، وأذكر أني التقيت به بمناسبات عدة ضمن مجموع من الناس، فترك في نفسي أثراً طيباً، ورغم أني لم أقتنع بفكره العقائدي، إلا أنه بقي في ذاكرتي كأحد العمالقة الكبار الذين لا يمكن نسيانهم بسهولة، والذين يجبرون المرء على احترامهم.
الفن رغم كل الظروف التي تمر على روح المرء يبقى هو من يبث الأمل في الروح، ومن هنا كان"العشاء الأخير في رام الله"، عنوان لعمل مسرحي متميز حضرته على قصر الثقافة الخميس الماضي، وكان من الجمال أني لم أتمالك نفسي حين رجعت أن أنكب على حاسوبي وأكتب عنه نصاً طويلاً، فقد افتقدنا المسرحيات المتميزة منذ فترة، وأول الأمس كنت مدعواً من قبل مسرح القصبة لحضور اجتماع تقييمي لمهرجان القصبة السينمائي الدولي، وإن لم أفاجئ بعدد الحضور الذي لم يزد عن ستة أشخاص بما فيهم من حضر متأخراً، فقد اعتدت على ذلك بأكثر من مناسبة، وفي نفس الوقت لا اسمع في الأحاديث الجانبية من أبناء عالم السينما إلا الشكوى والتذمر، فيا ترى لما لا نجدهم حين يستدعي الأمر وجودهم؟
في الأيام الماضية ورغم البرد وبسبب بعض من الآم نفسية سادت روحي، كنت الجأ للمشي لمسافات طويلة، فليس مثل السير على الأقدام وتنشق الهواء المنعش من علاج للروح، الوحدة صعبة جداً، والأسر في رام الله رغم عشقي الكبير لها بدون حركة متعب جداً، وخاصة حين يكون هناك حدث يتمنى المرء أن يكون فيه، لكن لا يمتلك من أمره شيئاً، فيكبت ألمه وقهره، وحينها الجأ للسير كي استرد روحي المتعبة، وهذا المسير أعادني من جديد لذكريات الطفولة واستكمالها، ففي بيتونيا لصيقة رام الله كانت بداية عشق رام الله، وقد تحدثت سابقاً عن المنطقة التي سكناها وجمالها وأهلها الطيبين، وكانت إجازة الصيف فرصة للتعرف على الحي الصغير والمنطقة المحيطة فيه، الممتلئة بالبساتين والجمال، وما أن انتهى الصيف حتى كنت في مدرسة بيتونيا التي كانت إعدادية بتلك الفترة، وكان ما يسعدني أنني أصبحت وشقيقي الصديق جهاد في مدرسة واحدة، فكان هو في الأول الابتدائي وأنا في الثالث، نذهب سوياً للمدرسة التي كانت بعيدة نسبياً ونعود سوياً، نرتدي اللباس "الكاكي" كجنود في ساحة وغى، نحلق شعورنا على درجة الصفر، وما زلت أذكر كيف بكى شقيقي حين قصوا له شعره أول مرة، لكنه اعتاد على ذلك كما اعتدنا قبله، والحقيقة أنه لم تترك مدرسة على روحي من أثر مثلما تركت مدرسة بيتونيا، ولم يترك مدرسون بصماتهم على شخصيتي كما هم مدرسوها، فكانت خير مدرسة لم أنساها ابداً، وخير مدرسون خالدون في النفس والروح، وخير مكتبة مدرسية كان لها الفضل الكبـير على توجهاتي الأدبية، فمنها كانت البداية وعلى يدي أستاذي الكبير المرحوم أبو حازم، خالد الأسمر مدرس العربية، الذي كان يوجه اهتماماً خاصاً لطلابه بالتركيز على المطالعة الخارجية، وعلى كتابة مواضيع الإنشاء وقراءة الشعر، فقد كان مدرسونا يمتازون بالعطاء والاهتمام بالطالب، فالمدرس بتلك الفترة كان يمثل قيمة اجتماعية وتربوية كبيرة، كان يعيش بوضع مادي مريح نسبياً، وله مكانته الخاصة والمحترمة في المجتمع ويندر أن يرد له أحد طلباً ، لذا كان للمدرس تأثيره في المجتمع المحيط، فهو المدرس والموجه والمصلح الاجتماعي، هيبة واحترام، وليس كما نرى في هذه الأيام من انحدار بوضعه المادي والاجتماعي، حتى أن سمة العمل بعد الدوام لتأمين بعض من احتياجات الحياة، أصبحت سمة منتشرة، مما أدى لتأثر العطاء والقدرة، وتغير المناهج وأساليبها، فأين جيل العطاء الذي عايشناه من اليوم؟، ومن ممن درسوا بفترتي التي أتحدث عنها يمكنه أن ينسى تأثير المدرس وهيبته، من يمكنه أن ينسى الأساتذة الكبار مثل المرحوم خالد الأسمر والمرحوم الشيخ عطا، والأساتذة الآخرين نخلة زيت وإبراهيم الطوبجي وإبراهيم الطرشة وعزمي الخواجا والمرحوم الأستاذ سماره وغيرهم الكثير.
الثلج يتساقط ندفاً جميلة وأنا أقف لنافذتي، التقط بعض الصور لهذا الجمال، أحتسي كوباً من الشاي الأخضر بالنعناع، هذه العادة الجميلة التي علمني إياها أصدقائي المغاربة منذ فترة الدراسة الجامعية، لا صحف وصلتني اليوم ولا مجال لالتقاط بث الفضائيات، تقطع للكهرباء كالعادة بين وقت وآخر، فيضيع بعض ما أكتب إن لم أكن قد حفظته، الحمائم والعصافير لم تخرج من أوكانها وأعشاشها، فلم تمنحني جمال عزفها في هذا الصباح، ترف روح طيفي الجميل في فضاء صومعتي، فيروز تشدو بصوتها المميز:
"ثلج ثلج عم بشتي الدنيا ثلج، والنجمات حيرانين، وزهور الطرقات بردانين، والغيمات تعبانين، عا التلة خيمات مضويين، ومغارة سهرانه فيها طفل صغير ،بعيونه الحليانة حب كتير كتير، ثلج ثلج شتي خير وحب وثلج على كل قلب وكل مرج ألفه وخير وحب مثل الثلج".
صباحكم أجمل.
http://ziadjayyosi1955.maktoobblog.com/
بعدستي الشخصية
رام الله ترتدي فستان زفافها الأبيض، الثلوج بدأت تتساقط منذ الليل، وما زالت تتساقط ندفاً جميلة، أطل من نافذتي في هذا الصباح المبكر قبل صحو الطيور، فأرى الشوارع والبنايات ترتدي حلة بيضاء ناصعة البياض، جميلة رام الله في الشتاء كما هي جميلة في كل الفصول، ففي الشتاء ورغم بردها الشديد يكون لها نكهة خاصة وجميلة، تمازج بين الثلج والمطر، الجبل وهواء الساحل الذي تطل عليه من بعيد، وفي الخريف لها جمال أوراق الذهب المتطايرة، فأراها ابنة الخريف، وفي الربيع تزدهي بحلتها الخضراء وأزهارها المتنوعة الشكل والجمال والعبق، وفي الصيف تكون ذات نسمات ناعمة ترد الروح، فهكذا كانت مصيف فلسطين، جميلة في كل أوقاتها.
أمطار وثلوج، نعمة من المولى بعد انتظار طال، فنحن في "الكوانين" ولم تكن الأمطار حسب المعتاد، ونحن بحاجة لمطر السماء ورحمة المولى، فمعظم الينابيع قد جفت مع الزمن، وأحواض المياه وضع الاحتلال يده عليها، وغالبية الآبار الارتوازية تحت يد الاحتلال، يستولي على مياهنا ويبيعنا إياها بكميات قليلة، بينما المستوطنات القابعة كالسرطان على أرضنا تتمتع بمياهنا، ونحن نعاني من شح المياه في الصيف.
طوال الأمس كانت تهطل الأمطار ويتخللها حبات البرد أو كما كنا نسميها حب العزيز، وكانت الرياح قوية بما يمنع الحركة، فكانت المدينة رام الله شبه فارغة مقارنة بالأحوال العادية، ولعل نشرات الأخبار التي تحدثت عن الثلوج والاستعدادات لمواجهتها لعبت هي الأخرى دورها بخلو الشوارع من المارة باكراً، فالمعروف أن رام الله يتضاعف عدد سكانها نهاراً من خلال حركة القرى المجاورة، المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمدينة.
منذ أيام شهدت المدينة كم من المسيرات الشعبية الكبيرة، فوفاة "حكيم الثورة وضميرها"، كان لها وقعها الكبير على نفوس الناس، فالحكيم مناضل تاريخي ومتميز بمسيرته، قد يختلف الكثيرون مع نهجه وفكره، لكن لا أحد يختلف أنه كان مناضل صلباً ونقياً، فتأثرت بوفاته كثيراً، وشاركت بالجنازة الرمزية التي أقيمت له بالتوافق مع جنازته الرسمية في عمّان، وقلت في نفسي: ها هو أحد أنقى المناضلين والقادة قد رحل، فمن يا ترى بقي من هذا الرعيل الأول للثورة الفلسطينية المعاصرة، فالحكيم حظي على احترام الجميع عبر تاريخه، وأذكر أني التقيت به بمناسبات عدة ضمن مجموع من الناس، فترك في نفسي أثراً طيباً، ورغم أني لم أقتنع بفكره العقائدي، إلا أنه بقي في ذاكرتي كأحد العمالقة الكبار الذين لا يمكن نسيانهم بسهولة، والذين يجبرون المرء على احترامهم.
الفن رغم كل الظروف التي تمر على روح المرء يبقى هو من يبث الأمل في الروح، ومن هنا كان"العشاء الأخير في رام الله"، عنوان لعمل مسرحي متميز حضرته على قصر الثقافة الخميس الماضي، وكان من الجمال أني لم أتمالك نفسي حين رجعت أن أنكب على حاسوبي وأكتب عنه نصاً طويلاً، فقد افتقدنا المسرحيات المتميزة منذ فترة، وأول الأمس كنت مدعواً من قبل مسرح القصبة لحضور اجتماع تقييمي لمهرجان القصبة السينمائي الدولي، وإن لم أفاجئ بعدد الحضور الذي لم يزد عن ستة أشخاص بما فيهم من حضر متأخراً، فقد اعتدت على ذلك بأكثر من مناسبة، وفي نفس الوقت لا اسمع في الأحاديث الجانبية من أبناء عالم السينما إلا الشكوى والتذمر، فيا ترى لما لا نجدهم حين يستدعي الأمر وجودهم؟
في الأيام الماضية ورغم البرد وبسبب بعض من الآم نفسية سادت روحي، كنت الجأ للمشي لمسافات طويلة، فليس مثل السير على الأقدام وتنشق الهواء المنعش من علاج للروح، الوحدة صعبة جداً، والأسر في رام الله رغم عشقي الكبير لها بدون حركة متعب جداً، وخاصة حين يكون هناك حدث يتمنى المرء أن يكون فيه، لكن لا يمتلك من أمره شيئاً، فيكبت ألمه وقهره، وحينها الجأ للسير كي استرد روحي المتعبة، وهذا المسير أعادني من جديد لذكريات الطفولة واستكمالها، ففي بيتونيا لصيقة رام الله كانت بداية عشق رام الله، وقد تحدثت سابقاً عن المنطقة التي سكناها وجمالها وأهلها الطيبين، وكانت إجازة الصيف فرصة للتعرف على الحي الصغير والمنطقة المحيطة فيه، الممتلئة بالبساتين والجمال، وما أن انتهى الصيف حتى كنت في مدرسة بيتونيا التي كانت إعدادية بتلك الفترة، وكان ما يسعدني أنني أصبحت وشقيقي الصديق جهاد في مدرسة واحدة، فكان هو في الأول الابتدائي وأنا في الثالث، نذهب سوياً للمدرسة التي كانت بعيدة نسبياً ونعود سوياً، نرتدي اللباس "الكاكي" كجنود في ساحة وغى، نحلق شعورنا على درجة الصفر، وما زلت أذكر كيف بكى شقيقي حين قصوا له شعره أول مرة، لكنه اعتاد على ذلك كما اعتدنا قبله، والحقيقة أنه لم تترك مدرسة على روحي من أثر مثلما تركت مدرسة بيتونيا، ولم يترك مدرسون بصماتهم على شخصيتي كما هم مدرسوها، فكانت خير مدرسة لم أنساها ابداً، وخير مدرسون خالدون في النفس والروح، وخير مكتبة مدرسية كان لها الفضل الكبـير على توجهاتي الأدبية، فمنها كانت البداية وعلى يدي أستاذي الكبير المرحوم أبو حازم، خالد الأسمر مدرس العربية، الذي كان يوجه اهتماماً خاصاً لطلابه بالتركيز على المطالعة الخارجية، وعلى كتابة مواضيع الإنشاء وقراءة الشعر، فقد كان مدرسونا يمتازون بالعطاء والاهتمام بالطالب، فالمدرس بتلك الفترة كان يمثل قيمة اجتماعية وتربوية كبيرة، كان يعيش بوضع مادي مريح نسبياً، وله مكانته الخاصة والمحترمة في المجتمع ويندر أن يرد له أحد طلباً ، لذا كان للمدرس تأثيره في المجتمع المحيط، فهو المدرس والموجه والمصلح الاجتماعي، هيبة واحترام، وليس كما نرى في هذه الأيام من انحدار بوضعه المادي والاجتماعي، حتى أن سمة العمل بعد الدوام لتأمين بعض من احتياجات الحياة، أصبحت سمة منتشرة، مما أدى لتأثر العطاء والقدرة، وتغير المناهج وأساليبها، فأين جيل العطاء الذي عايشناه من اليوم؟، ومن ممن درسوا بفترتي التي أتحدث عنها يمكنه أن ينسى تأثير المدرس وهيبته، من يمكنه أن ينسى الأساتذة الكبار مثل المرحوم خالد الأسمر والمرحوم الشيخ عطا، والأساتذة الآخرين نخلة زيت وإبراهيم الطوبجي وإبراهيم الطرشة وعزمي الخواجا والمرحوم الأستاذ سماره وغيرهم الكثير.
الثلج يتساقط ندفاً جميلة وأنا أقف لنافذتي، التقط بعض الصور لهذا الجمال، أحتسي كوباً من الشاي الأخضر بالنعناع، هذه العادة الجميلة التي علمني إياها أصدقائي المغاربة منذ فترة الدراسة الجامعية، لا صحف وصلتني اليوم ولا مجال لالتقاط بث الفضائيات، تقطع للكهرباء كالعادة بين وقت وآخر، فيضيع بعض ما أكتب إن لم أكن قد حفظته، الحمائم والعصافير لم تخرج من أوكانها وأعشاشها، فلم تمنحني جمال عزفها في هذا الصباح، ترف روح طيفي الجميل في فضاء صومعتي، فيروز تشدو بصوتها المميز:
"ثلج ثلج عم بشتي الدنيا ثلج، والنجمات حيرانين، وزهور الطرقات بردانين، والغيمات تعبانين، عا التلة خيمات مضويين، ومغارة سهرانه فيها طفل صغير ،بعيونه الحليانة حب كتير كتير، ثلج ثلج شتي خير وحب وثلج على كل قلب وكل مرج ألفه وخير وحب مثل الثلج".
صباحكم أجمل.
http://ziadjayyosi1955.maktoobblog.com/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق