الأربعاء، يناير 16، 2008

صباحكم أجمل \ أعود لوطن الموج


زياد جيوسي

رام الله في مشهد شتوي
"بعدستي الخاصة"


صباح حزن ودم وألم
صباح آخر في رام الله، إضراب شامل والمحلات والمؤسسات الرسمية مغلقة، الأعلام منكسة، صباح مجلل بالحزن والألم، صباح بارد جداً بحرارة الجو، لكنه صباح مشتعل بألم القلوب ونارها، فالدم الذي يسيل في غزة يصب في رام الله، والدم الذي يسيل في رام الله وكافة المحافظات الشمالية حسب التسمية الرسمية، يصب في غزة، فالدم واحد، الجرح واحد، الوطن واحد، شاء الساسة أم لم يشاءوا، فالقذيفة التي تسقط في غزة، تدمي القلوب في كل الوطن، والمؤسف والذي يُنـزف الدم أكثر، أن نستمع لتصريحات من بعض الساسة الكرام، يشنون الهجمات على بعضهم، بدلاً من التكاتف في مواجهة الاحتلال، وينسون أن انقسامهم وصراعهم هو الذي أدى إلى استفراد العدو بنا، فيقتل عدد كبير في مجزرة غزة، ويُكمل في قباطية جنين، يحدد أين يضرب ويقتل، ونحن نتلهى بتوجيه الاتهامات لبعضنا، أو إطلاق النار على بعضنا وتعبئة المعتقلات، كفاكم عبثاً بدم الشهداء، كفاكم عبثاً بالوطن، آن الأوان للخجل، وآن الأوان أن تجلل أجساد الشهداء بالعلم الفلسطيني الواحد، لا بأعلام الفصائل وراياتها التي لم تزدنا إلا فرقة وتمزيقا.
الحياة تنبت من قلب الجراح
عبر ما يقارب مائة عام مضت، اعتاد الشعب الفلسطيني أن يقاوم بكل وسائل المقاومة المتاحة من جهة، وأن يدفن قوافل الشهداء قافلة إثر قافلة، وفي نفس الوقت يزرع الزيتون واللوز الأخضر، ويبدع بالميجنا والعتابا والدبكة، يبدع بالفن كما يبدع بالصمود، وأذكر أننا في ظل الاجتياح البشع عام 2002، كنا نستغل أوقات فك حظر التجول القليلة الوقت، لنقف ونمارس بعض الفنون ورسم العلم الفلسطيني على وجوه الأطفال، على بعد خطوات من الدبابات، في إشارة تحد واضحة، فالشعوب الحية وحدها التي تتمكن من أن تعيش الفرح وتبدعه من قلب الألم والدمار، ففي يوم السبت الماضي استفدت من العطلة الأسبوعية بجولة في المدينة، أمتع روحي ببعض من أشعة الشمس رغم البرد، ملتقطاً بعض الصور لرام الله، حين عرجت في طريقي على مركز خليل السكاكيني، التقطت بعض الصور لهذا المركز الجميل والمتميز بنمط بناءه، والتقيت بمدير المركز على فنجان قهوة، تحدثنا عن هموم العمل الثقافي والفني في الوطن، وفاجئني بمفاجئة طيبة، أن المركز سيقوم بالتعاون مع المنتدى الثقافي النمساوي، بافتتاح معرض للفنانة النمساوية العالمية "سوشانا"، هذه الفنانة التي قضت معظم حياتها في التجوال والرسم بأنحاء العالم، وتأثرت بثقافات متعددة ومنوعة، وربطتها علاقات قوية بفنانين على مستوى عالمي، مثل بيكاسوا الذي رسمها بلوحة عام 1954، وحافظت على روح فنية تميزت بها، وتنقلت في معارض كثيرة، ورسمت الكثير، ومن أجمل اللوحات التي رسمتها لوحة لغزة وأسمتها غزة، بمقاس 115\80 سم وذلك عام 1992، وهذه الفنانة التي ولدت عام 1927 والتي ستزورنا لوحاتها بدون حضورها، فهي لن تتمكن بحكم السن والصحة من المشاركة والقدوم من فينا، والحقيقة أجد لزاماً أن أشكر مدير مركز خليل السكاكيني على هذه المبادرة، فالسكاكيني تميز بذلك منذ بداياته، آملاً أن يتاح لنا مرات أخرى الاطلاع على أعمال عالمية مثل أعمال "سوشانا".
لا تخنقوا القلب منا
أيضاً يوم السبت الماضي ورغم برد أمسيات رام الله، شاركت في قاعة القصر الثقافي بلقاء مع بلدية رام الله، وإن كنت أكرر الشكر على هذه السُنة الطيبة والجميلة، التي استنتها بلدية رام الله بدعوة المواطنين والاستماع منهم، فيما يجد من مشاريع تمس المواطن مباشرة، فليسمح لي المجلس أن أسجل وبصوت عال رفضي كمواطن لفكرة تحويل شارع النـزهة والمعروف بشارع المكتبة إلى تجاري، وتحويل قطع الأراضي إلى تجارية، والترخيص لبناية ترتفع أربعة عشر طابقاً فوق الأرض، والاستناد إلى سابقة وجود بناية مخالفة منذ عهد الاحتلال ليس مبرراً، والإشارة إلى أن العديد من الشقق حولت لمكاتب ليس مبرراً أيضاً، فالأولى إزالة المخالفات بدلاً من جعلها ثوابت وأسس نستند إليها، والرجوع عن الخطأ أولى من الاستمرار فيه وتشريعه قانوناً، وهذه المنطقة الهادئة الجميلة ستتحول إن تم مشروع البرج إلى منطقة من الأبراج المرتفعة، هذه الأبراج التي ستمنع الهواء وتكتم الأنفاس، فمجرد تحويل المنطقة من ترخيص سكن إلى ترخيص تجاري، سيرفع أسعار الأراضي، ويدفع أصحاب الأموال لزرع الأرض أبراجا إسمنتية، في الوقت الذي يطالب الجميع فيه بخروج القلب التجاري إلى الأطراف، وتحويل وسط المدينة إلى منطقة مشاة وتسوق وجمال حدائق، فدعوا شارع النـزهة للنـزهة، ولنحول الضواحي إلى أحياء تحوي هذه الخدمات التجارية، بدلا من التكديس في القلب، حتى يكاد القلب أن يختنق.
عودة
أعود من جولتي في شوارع المدينة، فقد سرت في شارع يافا حتى وصلت إلى أطرف بيتونيا، وهناك وقفت انظر لهذه الأراضي التي زرعت بالعمران، فبعد عودتنا لعمان من القدس وأنا في الصف الثاني الابتدائي، وما أن انتهت السنة الدراسية حتى كنا نشد الرحال إلى رام الله، كان ذلك في صيف عام 1963، فقد نُقل الوالد إلى رام الله، واكترى لنا بيتاً في أطراف بيتونيا، هو لرام الله أقرب منه لبلدة بيتونيا الجميلة، في حي كل بيوته لم تزد عن سبعة بيوت، والمنطقة محاطة بالأشجار والبساتين التي انقرضت الآن، وكان كل بيت ملحق به مساحة من أشجار الخوخ والبرقوق واللوز، وكنت أحب أن أقضي وقتي تحت الأشجار على الأعشاب والورود البرية، أقرأ باستمرار وأتمتع بالجمال الطبيعي، وأزور نبع ماء داخل كهف جف مع الزمن، أشرب منه وأتنعم بغسل يداي ووجهي بمائه البارد، وأصعد إلى سطح مبنى مكون من رصف الحجارة والطين، كنا نسميه القصر، وهو بالأصل مكان يلجأ إليه أصحاب الأرض في مواسم القطاف، فالمواصلات كانت صعبة والمسافات طويلة، وكم كنت أشعر بالمتعة وأنا أجلس على سقفه، أنظر لمنطقة بطن الهوى الجميلة المكتظة بالأشجار البرية، والتي كانت تدور حولها الكثير من الأساطير، وأنه لا يسكنها سوى الضباع والجن، وتنبت فيه نبتة تفاح المجنة التي تسبب جنوناً مؤقتاً لمن يأكلها، وهي نبتة ذات رائحة طيبة وشكل أشبه بتفاحة، وبذورها هي التي تسبب هذه الحالة، والتي أصيب بها أكثر من صبي بسبب فضولهم وأكلهم لها، المنطقة كانت جميلة جداً وهادئة جداً، فكنت أتمتع بالسير على الشارع حتى أصل إلى أول طلوع "سلفانا" وأعود حتى مفرق عين عريك، وكنا نقطف الثمر ونأكل بدون تحرج، فأصحاب الأراضي كانوا لا يمانعون، فالخير كثير والأشجار محملة بما لذ وطاب، وكانوا يطلبون منا الدخول مباشرة للبساتين، وعدم التسلل من فوق السلاسل الحجرية حتى لا نهدمها، ولكن الطفل يبقى طفلاً، فكنا نجد المتعة بالتسلل من فوق السلاسل وقطف الثمر، بينما البوابات مفتوحة لنا بكل ترحاب.
أعود لصومعتي متأبطاً صحيفتي أنظر للمدينة التي ترفع أعلام الحداد وتغلق أبوابها احتجاجاً، أعود وفي الذاكرة الكثير عن بيتونيا ورام الله، بعض من ذاكرة فردية وذاكرة وطن، أقف لنافذتي وأشرب القهوة، أنتظر صديقي إيهاب فني الحاسوب لحل مشاكل حاسوبي، هذا الشاب الطيب الذي لا يقدر على الالتزام بموعد أبداً، إلا حين أدعوه لتناول الغداء المتأخر معنا، فمنذ أيام والحاسوب قد أصيب بحالة من البرد أدت لتوقفه، ونحن أصبحت حياتنا ترتبط بالحاسوب والشبكة العنكبوتية كثيراً، بحيث أن كل مشاريعي واتصالي مع العالم توقف خلال هذه الأيام، فشعرت بالعزلة عن العالم مما أعادني للتعامل مع التلفاز لمتابعة تطورات الأحداث، أقف للنافذة متأملاً المدينة المغلقة وطيور الحمام تحط وتطير على نافذتي، أستذكر طيفاً يعيش بروحي رغم سفره للبعيد، كم أشتاقك يا طيفي الشقي الحلو أنت، أستمع لشدو فيروز:
"من يوم اللي تكون يا وطني الموج كنا سوا، ليوم إلي بيعتق يا وطني الغيم راح نبقى سوا، تاجك من الأمس ما بنكتفي شعبك بيحبك لتبرم الشمس، توقف الأيام على رماد اللي راحوا على غابر الزمان ، على الحجار السود إلي بقيوا من الحيطان، على منديلك أمي على أبواب البيوت، عم بكتب يا وطني، الوطن ما بيموت".
صباحكم أجمل.
رام الله المحتلة 16\1\2008
http://ziadjayyosi1955.maktoobblog.com

ليست هناك تعليقات: