الاثنين، يناير 07، 2008

أنين الفرح

بسام الطعان
قصة قصيرة

برفقة فرحه المخفي، وقف بمحاذاة الحفرة بلا مبالاة ، كانت روحه آنئذ تشرق بالأغاني المرحة ، أشعل لفافة، سحب نفساً أعمق من فرحه، نفث الدخان من منخريه الأسودين، ثم تأمل بغبطة النعش الذي يرسل استغاثات ممزوجة بعبارات الاستنكار والاستهجان، وخُيّـل إليه للحظات أنه حالما يعود إلى البيت، سيلتقي بامرأة عذبة، لها عينان كبيرتان يلتمع في غوريهما سحر غريب ، وتحوّل كل عضو في جسده إلى بحار يمخر بالتياع عباب جسدها، لكن غبطته لم تدم سوى لحظات وانطفأ فرحه عندما سمع صوتا شرساً:
"تريد أن تتزوج عليّ يا ملعون؟ والله سوف أجعلك تنسى اليوم الذي ولدت فيه".
حاولت أن ترفع ذراعيها إلى الأعلى محاولة التخلص من النعش المرمي بجانب الحفرة،غير أنها كانت قطعة خشب مهترئة ، فلم تقدر عندئذ غير أن تشتمه وهي تكاد تتفجر وتتحول إلى كتل من النار.
أما هو فقد ارتسمت على وجهه ملامح فزع، وكاد دمه يركض بين القبور، لكنه ما لبث أن هدأ بعد أن تقدم منه أحدهم ليواسيه.
اختفى النعش تحت التراب, فتنهد بارتياح، أحس بالسعادة تنمو في داخله كمرج أخضر، راح يحدق في السهل المنبسط أمامه ، بينما نفسه تطلق زغاريد مديدة، هناك ، فوق حقول الحلم الأخضر، تراءت له امرأة بيضاء، تفتح له ذراعيها وتناديه بشوق عارم، فجأة رفع يده من بين الجموع ولوّح لها ، حاول أن يعدو باتجاهها ، غير أنه وقبل أن يخطو الخطوة الأولى، غمرته الخيبة، إذ ارتطم بشخص كان واقفاً أمامه فكاد يسقطه أرضا.
حدَّق إليه الرجل بشيء من السخط وقال بعصبية:
ـ أنت مجنون؟!
ما إن انتهى الشيخ من قراءة الفاتحة حتى لعلع الفرح في داخله مرة أخرى ، وكأنه خـرج لتوه من هاوية البؤس والعذاب ، وبينما كان يتقبل التعازي وهو يشعر بالضجر، لاحظ أن الشيخ يستعد لمغادرة المقبرة، حينئذ ترك المعزين على عجل ومضى باتجاهه: "لا وقت لديّ لمثل هذه الخزعبلات".
ـ انتظر يا شيخ.. إلى أين ستذهب؟.. مهمتك لم تنته بعد.
في تلك اللحظة ازداد اللغط وكثرت الأسئلة, اقترب منه بعضهم، تحلقوا حوله صامتين كالخشب وقد هيأوا آذانهم ليسمعوا ما سيقوله.
شيعه الشيخ بنظرات ربما تكون ساخرة وربما عاتبة:
ـ ماذا تريد؟
ـ أريد أن تطلق زوجتي مني.
حوقل الشيخ ورمقه بنظرات استنكار:
ـ هل جننت يا رجل؟.. زوجتك صارت تحت التراب وتريد الطلاق!
ـ نعم أريد الطلاق وأنا مصمم على ذلك.
سقطت عليه النظرات وارتفعت الأصوات بين حانق، ومحتج، وساخر، وشاتم، ونادم على مشاركته في التشييع وتقديمه العزاء، ومنهم من فتح عينيه محملقا بتعجب ودهشة، ومنهم من قال إنه مجنون، ومنه من قال إنه نذل وجبان، أما هو فقال وهو يشير إلى القبر:
ـ إن هذه المخلوقة لم تكن لي زوجة، بل أنا كنت الزوجة، كانت زفرة اللسان، زنخة الألفاظ, سيفا صارما مسلطا على رقبتي مدة خمسة عشر عاما ، وطيلة هذه المدة كنت أمامها عاجزا عن فعل أي شيء حتى جاء هذا اليوم البهيج.
شفط الهواء من منخريه بتوتر وأضاف:
ـ العمى يضربها لم تكن تمل من الصياح , حلقها الزفر لم يكن ينشف من الصراخ.
كان الشيخ وقتئذ ينظر إليه بأسف ويقول في داخله أشياء كثيرة.
ـ ابنة العفريت سودّت وجهي.. لم تضحك مرة واحدة في حياتها ، حتى يوم زواجنا كانت عابسة وكأنها قادمة من مقبرة ، آه لو تعرفون كم من الأحذية ارتطمت برأسي ، أما الشتائم فقد نلت منها المئات ، بل الملايين، كنت أتناول طعامي مع الحسرة والتوبيخ، كانت جلاداً لا يعرف الرحمة ، كانت توقظني من نومي بعصا الممسحة وتطلب مني بصيحات هستيرية أن انهض وانظف البيت، أو أعد لها فنجان قهوة، كانت تصالب ساقها وتقول: "نظف جيداً يا سعدان" ولم أجد أي مسوغ لأفعالها الشنيعة.
ـ هل تصدقون أنها عضتني أكثر من عشر مرات ؟ كانت تعضني وتمشي دون أي إحساس، العض صعب يا جماعة، أصعب مما تتصورون، وفي بعض الأحيان كانت تعضني وأنا نائم كأنها كلبة مهروسـة الضمير، حتى أنها في مرة من المرات وكان الليل في منتصفه ، قضمت شحمة أذني وهي تكيل لي الشتائم، قد يقول قائل منكم إن كلامي مجرد هلوسة ، لا يا جماعة أنا لا أهلوس ، لديّ دلائل على ذلك وهي بارزة على جسدي ، هل تريدون أن أخلع ثيابي لتروها ؟ وحاول أن يخلع ثوبه لكن أحدهم منعه من ذلك.
نفخ نفسا كثيف الدخان, ثم أردف:
ـ عندما كانت تريدني لذاك السبب ، كانت تقلب كياني فوقاني تحتاني ، عندما كنت أقول لها لم أعد أستطيع، كانت تجعر في وجهي وتقول بقرف:
ـ انقلع من قدامي، وجهك يقطع الرزق.
ـ بربكم انظروا إليّ، هل وجهي يقطع الرزق؟
ابتسم من ابتسم وضحك من ضحك وعلق من علق ، أما هو فتابع حديثه بصوت ترتعش فيه رغبة في البكاء:
ـ لهذا أريد الطلاق يا شيخ ، لأنني لا أريد أن ألتقي بها مرة أخرى ، فقد سمعت من يقول إن الزوج والزوجة يلتقيان في الآخرة ، فهل أنا على خطأ يا ناس؟
عندما دخل إلى بيته , فجأة شحب وجهه وملأه الوجوم ، كانت الزوجة تنتصب أمامه وهي تخلو من أي ملامح بشرية، كل شيء فيها كان يثور، يغلي، وعندما رأته همت بالصراخ غير أنها في تلك اللحظة لم تكن تملك فما, فلم يبال بها، وإنما دخل إلى المطبخ ، أعد فنجان قهوة ، جلس على الأرض في فناء الدار ليستمتع بيومه الأول بعيدا عنها، وطلب من ذاكرته أن تبحث له عن عروس جميلة ، وحين أرسل نظراته إلى داخل إحدى الغرف ، رآها بكل جبروتها وقد تحولت إلى حيوان له آلاف الأنياب والمخالب، حيوان يثور كبركان ويقذف حمماً نارية ، فأيقن أنها قد تحوله إلى رماد ثم تذريه في نهر مليء بتماسيح شرسة ، وقبل أن يحترق بنارها لملم بعضه وانطلق هاربا إلى الخارج ، لكنه ارتطم بالباب وسـقط على الأرض، وتوزع أنينه في أرجاء البيت، وكانت هي تضحك وتسخر منه.

bassamtaan@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: