الأربعاء، يناير 23، 2008

صباحكم أجمل/ يا خوفي من عتم الليل


زياد جيوسي
من بيوت رام الله القديمة
"بعدستي الشخصية"

مطر.. مطر.. مطر.. عيناك غابة نخيل ساعة السحر، هذا البيت من الشعر للكبير الراحل بدر شاكر السياب أول ما يخطر ببالي بعد حمد المولى على تساقط الغيث، فبعد أيام من المطر جاء الرئيس بوش إلى رام الله، جاء وهو غير مرحب به من الفعاليات الشعبية والوطنية، وبسبب الأمطار قدم بموكب سيارات بدل المروحية، ولكنه قبل أن يغادر رام الله، كان المطر قد توقف والغيوم قد انقشعت، فغادرنا بمروحيته التي أزعجت السكان والطيور، حتى أن الحمائم على نافذتي فزعت وهربت لتختبئ، فصوت المروحيات كان بالغ الإزعاج، والحمام رمز السلام، شعر أن الضيف الغير مرحب به شعبياً، ستجر زيارته ويلات على شعبنا بدل السلام، وهكذا كان.. فقد توقف المطر حتى أمس صباحاً، وطغى البرد وموجات من الصقيع، فدمر محصول الخضار وارتفعت الأسعار، وتفهم الرئيس بوش حق "إسرائيل المظلومة" والمعرضة للعدوان الفلسطيني بالدفاع عن النفس، هذه المسكينة التي يحتل شعبنا الفلسطيني أراضيها، ويقيم دولته على أراضيها التي أغتصبها منها، ولا يكف عن قتل سكانها بالمروحيات والمدفعية، ولا تكف قواته عن اجتياح مدنها ومخيماتها وأسر أبنائها واغتيالهم، وأيضا يضرب شعبنا الفلسطيني بكل الاتفاقيات الدولية بعرض الحائط، فيقطع الكهرباء والماء والوقود عن إسرائيل المسكينة، ويترك سكانها بدون أبسط وسائل الحياة، فتفهم الرئيس بوش حقها بالدفاع عن النفس جيداً، وكانت شاشات الفضائيات عبر العالم كله شاهداً على مفاهيم الدفاع عن النفس، حسب المفهوم الأمريكي والإسرائيلي.
غزة وشعبنا هناك غرق بدم الشهداء وأنات الجرحى، غرق بالظلام والجوع وانعدام مياه الشرب وفيضان مياه المجاري، إضافة للبرد القارص الذي يخترق العظام، وكم كانت روحي تشعر بالألم يمزقها، وأنا أستمع لأصدقائي في غزة الذين لا ناقة لهم ولا جمل، وهم يعانون كل هذه المعاناة والألم، وإن خفف عنيّ قليلاً هذه الهبة الشعبية التي انتشرت في الوطن العربي الكبير، متخطية الحكام وأولي الأمر، وتوافقت مع مسيرات ومظاهرات غضب سادت الأرض المحتلة كلها، فالشعب واحد والألم واحد، بغض النظر عن كل الصراعات التي أوصلتنا إلى هذه النقطة.
مطر يتساقط يبشر بخير قادم ومستقبل لعله يكون أجمل، وها هي رام الله تغسل روحها بقطرات المطر وتتطهر من كل أثار خفافيش الظلام، فترتدي حلة جميلة من الغيوم التي تغسل شوارعها ومساكنها، وتساهم بغسل روحي من الآم سادتها خلال الأيام الماضية، فكم شعرت بألم الروح في الأيام الماضية وكم هي قسوة السجن في مدينتي منذ سنوات طويلة، حين علمت من أخي الأصغر أن والدتي التي لم أراها منذ سنوات طوال، قد أصيبت منذ ثلاثة أيام بكسر في عظم الفخذ ونقلت للمشفى، وفي الأمس أجريت لها عملية جراحية، وأنا هنا أسير رام الله وهي أسيرة عمان، ولا أقدر أن أكون بجانبها، ولا أمتلك إلا الهاتف أكلمها دقائق معدودة لا تغني ولا تسمن عن جوع شوق للقاء أمي وقهوة أمي، مضافاً لذلك وفاة شاب بعمر الورود بحادث سيارة، ابن لعائلة كل أفرادها أصدقائي، فغادرنا "وجد زعرور" في لحظة خاطفة، تاركاً في النفوس ألما وفي الروح لوعة، ومساء الأمس في بيت العزاء سالت دموعي التي حاولت أن أواريها، حين قدمت العزاء لوالدته الشاعرة الرقيقة والطيبة، فأمسكت بيدي وهي لا تقوى على الوقوف وتقول لي: "شايف يا خوي يا زياد شو صار"، فأحبس الدمعة في العين محاولاً أن لا تسيل أمامها وأنا أشد من أزرها، وفي لحظة قفزت صورته أمامي حين كنت أشارك بحفل تخريجه من المدرسة قبل شهور معدودة، وأنا التقط له ولأسرته الصور مسجلاً الفرحة في العيون، لأرى الأمس دموع الحزن والألم في عيون أهله ومحبيه جميعاً، فلكم العزاء يا أصدقائي باسم وسوزان وونيس وداليا، والموسيقار عيسى والشاعر عماد، فوجد فقيدنا جميعاً، غادرنا وترك الوجد في النفوس والأرواح، فله الرحمة ولنا جميعاً العزاء.
رام الله تضم حبي وألمي وجراحي بين جناحيها، هي وطيفي فقط من يخفف الحزن الذي يسكن النفس، فغادرت بيت العزاء وجلت قليلا تحت المطر برفقة صديقي الشاعر العطاري بسيارته، لأتركه بعدها وأحتسي كوباً من الشاي بالنعناع في كافتيريا أرتاح فيها مع أصدقاء، ومن ثم أغادر ورام الله المكان رغم البرد الشديد سيراً على الأقدام، رافضاً كل عروض إيصالي بسيارة لصومعتي، فقد كنت بحاجة لأن أعانق برد رام الله ومساء رام الله، فسرت على أقدامي باتجاه الصومعة وأنا أشعر برام الله تحضنني وتبث الدفء في روحي، رأيت رام الله تسير بجواري بشعرها الأسود الفاحم المنسدل على كتفيها، ووجهها الأسمر المشوب بالحمرة وابتسامتها الوضاءة، كما تتجسد مدينة كأجمل النساء، شعرت بطيفي يضمني ويمنحني الدفء والحنان، ما أجملك يا طيفي وفيك "أنا رأيت النور الذي يخرج من معبد".
في مقالي الأربعاء الماضي تحدثت عن شارع النـزهة في رام الله، مناشداً بلدية رام الله أن تدعه لنا للنـزهة وتبعد عنه شر البنايات المرتفعة التي ستخنق منا القلب، وفي نفس اليوم كنت أتلقى من الصديق الوسيم المهندس محمود عبد الله، نائب رئيسة البلدية رسالة يقول فيها: " في البداية شكرا لك على النصيحة وعلى كتاباتك الشيقة، بخصوص المشروع المقترح ليس تجاريا ولكن مكاتب لجميع القطع في المنطقة، في الواقع أن الناس يستطيعون بناء محلات تجارية وشقق سكنية، ويتم تأجير الشقق مكاتب إذا ما أبقينا الحال كما هو حاليا، وتكون لكل شقة موقف لسيارة واحدة، ولا تستطيع البلدية اتخاذ إجراءات خاصة لمواقف السيارات، ويكون البناء غير قابل للتغيير، وعندما نقترح مكاتب يمنع البناء التجاري ويسمح بمكاتب أو سكن في جميع الطوابق بغض النظر عن عدد الطوابق، ويجب توفير موقف سيارة لكل 70 متر مربع وليس لكل شقة، هذا توضيح للوضع وليس دعوة مني لقبول الرأي، فالمعلومة الصحيحة مهمة.. مع الاحترام".. والحقيقة أني ممتن للمهندس محمود ومجلس البلدية سعة صدرهم وتقبلهم للنقد وتجاوبهم مع الملاحظات، إلا أني أكرر ما قلته في ردي على الرسالة وهو: "أخي محمود.. تحية وشكر للتوضيح، وآمل أن لا تكون ملاحظاتي تسبب لأحد في المجلس إزعاجا، فلا مصلحة لي سوى انتمائي لهذه المدينة الجميلة التي أحب، ولا أمتلك لا بيتاً فيها ولا مصلحة تجارية، وبغض النظر عن اسم التصنيف تجاري أو مكاتب، فلست ضليعاً في هذه المصطلحات، إلا أني كمواطن منتمٍ للمدينة، ومن وجهة نظر جمالية محضة، لا أقبل بفكرة البنايات المرتفعة، وأشعر بها تخنق منا الروح والقلب، وأعتقد أنه يمكن للبلدية منع ترخيص أي شقة سكنية تستخدم كمكتب، وأعتقد أن البلدية تقوم أو المفترض أن تقوم بالتدقيق على المكان المطلوب له الترخيص.. دمت بمحبة".
هي رام الله المعشوقة والحب وذكريات الطفولة، منذ وطأت أقدامنا إياها وسكنا في حدود بلدية بيتونيا ولرام الله أقرب، في تلك المنطقة الجميلة التي تحدثت عنها في مقالي السابق، والتي سأكمل الحديث عنها في مقالات لاحقة إن كان في العمر بقية، هي رام الله التي لا يفارق حبها كتاباتي منذ سنوات، وهذه الصباحات التي دخلت عامها الثالث تشهد على ذلك، فلا تلموني في حبها، ولا على أي نقد لا غاية له إلا مصلحة المدينة التي أحب، فأنا كنت وما زلت أخشى على رام الله والوطن كله من عتم الليل.
أقف لنافذتي أرقب قطرات المطر، أحتسي كوباً من الشاي الأخضر المغاربي بالنعناع، أضم روح طيفي البعيد القريب، أستمع لشدو فيروز تشدو:
"أنا خوفي من عتم الليل، والليل حرامي، يا حبيبي تع قبل الليل يا عيني لا تنامي، يا حبيبي لا تغيب كتير، بتتأخر ليليه أنا ما بدي هدايا حرير واسواره عيديه، بدي من عشيه نقعد بالسهرية، صوتك يضحك ملو البيت ويضوي أيامي، وعدوني عيونك بالنوم ورجعوا سهروني، وراح اليوم وميت يوم ما عادوا سألوني".
صباحكم أجمل.

رام الله المحتلة 23\1\2008

ليست هناك تعليقات: