زياد جيوسي
الغروب في ضاحية الطيرة \ رام الله
"بعدستي الخاصة"
أسائل نفسي؟ لما أصر أن أوقظ هذه المدينة الساكنة من حضن النوم في الصباح المبكر، ولماذا أصر أن أجول شوارعها رغم البرد وقسوته في الأمسيات، فأدق أبوابها وأقرع جدرانها وأدع الياسمين ينهض من غفوته، أراقص أشجار صنوبرها، وأصر أن أراقص رام الله الدبكة، وأن نستمع سوياً لأبيات من "عتابا وميجنا"، أما يكفي المدينة زيارات خفافيش الظلام لها وإقلاق راحتها ونزع أحلامها واختطاف أبنائها، حتى أصر دوماً وكما قال الصديق الكاتب ناصر الريماوي: "في غمرة الليل، قبيل النوم، تخرج أشباحك، وكل حروفك التي تسلق الماضي في مقلاة الحاضر مدججة بعدستك الخاصة، كلها تخرج لتعربد في طرقات مدينتنا وفوق وسادتنا، وحين نفيق من سكرة النوم العميقة، نسارع لنلتمس منك مرة أخرى، لماذا لا تطرد من مدينتنا أشباحك التي لا تنام، و...و.... من يدري: فلا يعز علينا أكثر من أن تعود رفوف الطيور... ونبقى نحن هنا. "، لكنها يا صديقي ناصر: رام الله الحلم والعشق والجمال، لن أكف عن عشقها وتأبط ذراعيها ومراقصتها كعروس في ليلة الزفاف.
ما زال الاحتلال يصر على التخريب والتدمير والقتل، فمن تزايد الحصار على أبنائنا وأهلنا في غزة، وتزايد عدد الشهداء والجرحى والأسرى، إلى اجتياح شرس استمر عدة أيام لنابلس جبل النار، بعد استتباب الهدوء فيها بعد معاناة، ليصر الاحتلال على إفهامنا أنه لا ولن يلتزم بأي اتفاق أو تفاهم، إنها عربدة القوة أيها المفاوض الفلسطيني، فهل يمكن أن نستفيد من دروس ندفع ثمنها من دمنا.
ثلاثة قضايا شدتني في الفترة الماضية ولعبت دورها في روحي لأكتب عنها، فالقضية الأولى: أنه منذ فترة بسيطة وجهت لنا الدعوة من الصديق الكاتب توفيق العيسى، للإشراف على انتخابات المسرح الشعبي في نادي مخيم الأمعري، لبيت الدعوة وصديقي الجميل الشاعر عبد السلام العطاري وذهبنا، فوجئت بهذه القاعة الجميلة للمسرح، فلم أتوقع قاعة فوق سطح نادي المخيم صالحة بهذا الشكل للعمل المسرحي، وكان الجو بارداً جداً، حضرنا كل خطوات التقديم والعرض وتقديم التقارير من الهيئة الإدارية السابقة، وحضرنا شريطاً يجمل بعض من نشاطات الفرقة التي تميزت بالأداء، وأشرفنا على انتخابات ديمقراطية ونزيهة، وباركنا في النهاية للفائزين، وغادرنا ونحن نرتجف من البرد الذي اخترق منا المفاصل، غادرنا وفي الحلق غصة وفي الذهن سؤال: أين الجهات الرسمية وغير الرسمية من دعم بسيط لهذه الفرقة، يمكنهم من تدفئة القاعة وتكييفها، وكيف يمكن لهذه البراعم أن تتدرب وتبدع في مثل هذا البرد القارص، والذي لا بد أن يليه حر منهك في الصيف.
وأما القضية الثانية فهو لقاء حضرته مع المحافظ بحضور "جماعة السينما الفلسطينية"، هذه الجماعة التي أخذت على عاتقها النهوض بالسينما الفلسطينية، والتي مضى على تأسيسها عدة سنوات، ومن أهدافها: " أن تكون عنوانا لجميع السينمائيين الفلسطينيين العاملين في جميع التخصصات السينمائية، أينما وجدوا. كما تأمل بأن تكون عاملا مساعدا للتعارف والتعاون فيما بينهم، ومنبرا للتعريف بالسينما الفلسطينية التي أنتجها فلسطينيون، والسينما التي أنتجها السينمائيون التقدميون عن القضية الفلسطينية من غير الفلسطينيين، وعاملا لتطوير الإنتاج والتوزيع السينمائي الفلسطيني، وكذلك تطوير الكفاءات والتخصصات المختلفة في المجال السينمائي، وأيضا إرساء الأسس السليمة للتعامل في ما بين السينمائيين أنفسهم، ومع الخارج"، وما أثارني أن هذه الجماعة ما زالت بدون مقر تمارس فيه عملها وتسعى لأهدافها، فهل المطلوب أن ترتمي في حضن التمويل الغربي حتى يكون لها مقر؟ أليس جميلاً دعمها وهي تضم شيوخ السينما الفلسطينية وشبابها، لتكون الخطوة الأولى لإنشاء الأرشيف الوطني للسينما الفلسطينية، وتجميع ما يمكن تجميعه بعد ضياع أرشيف مؤسسة السينما الفلسطينية في بيروت.
وأما القضية الثالثة فهي ملاحظة وصلتني من مشرفي منتدى جامعي يضم طلبة جامعيين وخريجين، عن تعرضهم للضغوط من جهة فصائلية وطنية، لتغيير اسم المنتدى أو الخضوع لإرادة ذلك الفصيل، وكأنه لا يكفينا ما جرى في الوطن بسبب مثل هذه السلوكيات، فيا أيها السادة الوطن لكل من آمن بالوطن، وفلسطين لنا جميعاً، وليست حكراً لفصيل أو وجهة نظر أحادية، فكفى بنا الاحتلال يمزق الوطن كل يوم، والياته ودروعه وطائراته تسقط الشهداء والجرحى وتخطف الأبناء أسرى، حتى تتصارعوا على صغائر الأمور، والجدار يلتهم الأرض على بعد أمتار منكم، فهو أولى بالمقاومة وتوحد جهدكم من أجل مقاومته.
السبت الماضي كنت سعيداً جداً، بحضور فريقي عمالقة الشمال لتصفية بطولة الكرة الطائرة، فريقي عزون وجيوس يتنافسان كما اعتادا على البطولة في قاعة ماجد أسعد في البيرة توأم رام الله السيامي، وكنت في غاية السعادة للقاء أبناء بلدتي الذين لا التقيهم إلا في مثل هكذا مناسبات، فما زالت الطرق مغلقة في وجهي، وما زلت أسير رام الله لا أتمكن من مغادرتها، وكان لقاء جميل زاده جمالاً اللعب الجميل والروح الرياضية بين فريقي البلدتين المتجاورتين، والذي انتهى بفوز جيوس المعتاد، وبين الجارتين جيوس وعزون سجال طويل في هذه اللعبة، وفي حالة الفوز هو فوز للبلدتين، والخسارة خسارة للبلدتين، فتحية محبة لأهلي وأحبتي في البلدتين، وتحية إجلال لهذا اللعب الجميل والعطاء الرائع لعمالقة الشمال، وأطرف ما في المباراة لقاءي وصديقي الشاعر عبد السلام العطاري هناك، ولأول مرة بعيداً عن صفة الكاتب والشاعر، بل بصفات رسمية لها علاقة بالشباب والرياضة، مما أثار بيننا الضحك وهو لا يكف عن التعليقات أثناء المباراة.
تحتفي رام الله بالمطر والغيث منذ يومين، وأمس وأول أمس كنا في إجازة، عيد الميلاد وعيد رأس السنة الهجرية، مما أتاح لي فرصة إنجاز بعض الأعمال المتراكمة، السير تحت قطرات المطر إلى درجة التطهر، تأمل رام الله والتقاط بعض الصور.
وها أنا اقف بعد جولة قصيرة في هذا الصباح إلى نافذتي، فتصر ذاكرتي على العودة للذكريات واستكمال مسيرة الطفولة في القدس، فتعود لتلك المدرسة التي أصبحت فيها، مدرسة خليل السكاكيني، وتحدثت في الحلقة السابقة عن أثر الثورة الجزائرية على روحي، وهناك مسألة أخرى تركت أثراً كبيراً، ففي كل أسبوع كان هناك يوم في الأسبوع على ما أذكر، تمر فيه قافلة قادمة من هداسا إلى القدس الغربية، شاحنات إسرائيلية تحت حراسة الجيش العربي ومرافقة الصليب الأحمر، لتعمل على إحضار التموين للإسرائيليين، والتي تبين في حرب حزيران أنها كانت تكدس السلاح والجنود هناك، وكانت هذه الشاحنات مغلقة من كل الجهات إلا من فتحة صغيرة في الزجاج الأمامي ليتمكن السائق من معرفة الطريق، وحين كان يصل لتلك المخاريط الإسمنتية كان يوجه بالإشارات يمنة ويسرى، حتى يتمكن من المرور، وفي لحظة مرورها كان رجال الشرطة العسكرية يمنعوننا كطلبة من التواجد في الساحة المجاورة للشارع، لكن لم نكن نعدم الوسيلة للتسلل وقذف الشاحنات الإسرائيلية بالحجارة، تعبيراً عن الغضب ورفض الاحتلال، فكانت أولى دروس المقاومة في حياتي تلقيتها على أيدي زملاء الصف ونحن في الثانية الابتدائية، وهذا ما يؤكد أن ثورة الحجارة هي ثورة مغروسة في الوجدان الفلسطيني، فالفلسطيني يلجأ للحجر طالما لا يمتلك وسيلة أخرى.
لم تطل الإقامة في القدس، وقبل امتحانات الفصل الأول وجدنا أنفسنا نعود لعمان مؤقتاً، ولا أعرف أين انتقل والدي بفترتها، وكل ما أذكره أننا عدنا بدون الوالد إلى عمان، وسكنا في بيت جدي في غرفة جانبية في مخيم الوحدات، وعدت أنا لمدرستي الأولى.. مدرسة عبد الرحمن بن عوف، وعدت لأصدقاء المخيم والحارة، أتباهى بالحديث أمامهم عن القدس والحرم وقبة الصخرة، مع بعض المبالغات الطفولية التي يضيفها الخيال الواسع، لطفل لم يكمل عامه السابع بفترتها.
صباح آخر والحمام يصر أن يزور نافذتي ويسمعني عزفه الجميل، وطيف يصر أن يكون معي ليدفئ الروح من البرد، آه يا طيفي البعيد القريب الحلو كم أفتقدك، فنجان قهوة وقطرات مطر وشدو فيروز:
"ردني إلى بلادي، مع نسائم غوادي، مع شعاعة تغاوت عند شاطئ ووادي، مرة وعدت تاخذني قد ذبلت من بعادي، وارمي بي على ضفاف من طفولتي غداتي، نهرها ككف من أحببت خير وصابي، لم تزل على وفاء ما في الوفاء غادي، حبي هناك حب الحب، شلح زنبق أنا، اكسرني على ثرى بلادي".
صباحكم أجمل.
رام الله المحتلة
http://ziadjayyosi1955.maktoobblog.com/
"بعدستي الخاصة"
أسائل نفسي؟ لما أصر أن أوقظ هذه المدينة الساكنة من حضن النوم في الصباح المبكر، ولماذا أصر أن أجول شوارعها رغم البرد وقسوته في الأمسيات، فأدق أبوابها وأقرع جدرانها وأدع الياسمين ينهض من غفوته، أراقص أشجار صنوبرها، وأصر أن أراقص رام الله الدبكة، وأن نستمع سوياً لأبيات من "عتابا وميجنا"، أما يكفي المدينة زيارات خفافيش الظلام لها وإقلاق راحتها ونزع أحلامها واختطاف أبنائها، حتى أصر دوماً وكما قال الصديق الكاتب ناصر الريماوي: "في غمرة الليل، قبيل النوم، تخرج أشباحك، وكل حروفك التي تسلق الماضي في مقلاة الحاضر مدججة بعدستك الخاصة، كلها تخرج لتعربد في طرقات مدينتنا وفوق وسادتنا، وحين نفيق من سكرة النوم العميقة، نسارع لنلتمس منك مرة أخرى، لماذا لا تطرد من مدينتنا أشباحك التي لا تنام، و...و.... من يدري: فلا يعز علينا أكثر من أن تعود رفوف الطيور... ونبقى نحن هنا. "، لكنها يا صديقي ناصر: رام الله الحلم والعشق والجمال، لن أكف عن عشقها وتأبط ذراعيها ومراقصتها كعروس في ليلة الزفاف.
ما زال الاحتلال يصر على التخريب والتدمير والقتل، فمن تزايد الحصار على أبنائنا وأهلنا في غزة، وتزايد عدد الشهداء والجرحى والأسرى، إلى اجتياح شرس استمر عدة أيام لنابلس جبل النار، بعد استتباب الهدوء فيها بعد معاناة، ليصر الاحتلال على إفهامنا أنه لا ولن يلتزم بأي اتفاق أو تفاهم، إنها عربدة القوة أيها المفاوض الفلسطيني، فهل يمكن أن نستفيد من دروس ندفع ثمنها من دمنا.
ثلاثة قضايا شدتني في الفترة الماضية ولعبت دورها في روحي لأكتب عنها، فالقضية الأولى: أنه منذ فترة بسيطة وجهت لنا الدعوة من الصديق الكاتب توفيق العيسى، للإشراف على انتخابات المسرح الشعبي في نادي مخيم الأمعري، لبيت الدعوة وصديقي الجميل الشاعر عبد السلام العطاري وذهبنا، فوجئت بهذه القاعة الجميلة للمسرح، فلم أتوقع قاعة فوق سطح نادي المخيم صالحة بهذا الشكل للعمل المسرحي، وكان الجو بارداً جداً، حضرنا كل خطوات التقديم والعرض وتقديم التقارير من الهيئة الإدارية السابقة، وحضرنا شريطاً يجمل بعض من نشاطات الفرقة التي تميزت بالأداء، وأشرفنا على انتخابات ديمقراطية ونزيهة، وباركنا في النهاية للفائزين، وغادرنا ونحن نرتجف من البرد الذي اخترق منا المفاصل، غادرنا وفي الحلق غصة وفي الذهن سؤال: أين الجهات الرسمية وغير الرسمية من دعم بسيط لهذه الفرقة، يمكنهم من تدفئة القاعة وتكييفها، وكيف يمكن لهذه البراعم أن تتدرب وتبدع في مثل هذا البرد القارص، والذي لا بد أن يليه حر منهك في الصيف.
وأما القضية الثانية فهو لقاء حضرته مع المحافظ بحضور "جماعة السينما الفلسطينية"، هذه الجماعة التي أخذت على عاتقها النهوض بالسينما الفلسطينية، والتي مضى على تأسيسها عدة سنوات، ومن أهدافها: " أن تكون عنوانا لجميع السينمائيين الفلسطينيين العاملين في جميع التخصصات السينمائية، أينما وجدوا. كما تأمل بأن تكون عاملا مساعدا للتعارف والتعاون فيما بينهم، ومنبرا للتعريف بالسينما الفلسطينية التي أنتجها فلسطينيون، والسينما التي أنتجها السينمائيون التقدميون عن القضية الفلسطينية من غير الفلسطينيين، وعاملا لتطوير الإنتاج والتوزيع السينمائي الفلسطيني، وكذلك تطوير الكفاءات والتخصصات المختلفة في المجال السينمائي، وأيضا إرساء الأسس السليمة للتعامل في ما بين السينمائيين أنفسهم، ومع الخارج"، وما أثارني أن هذه الجماعة ما زالت بدون مقر تمارس فيه عملها وتسعى لأهدافها، فهل المطلوب أن ترتمي في حضن التمويل الغربي حتى يكون لها مقر؟ أليس جميلاً دعمها وهي تضم شيوخ السينما الفلسطينية وشبابها، لتكون الخطوة الأولى لإنشاء الأرشيف الوطني للسينما الفلسطينية، وتجميع ما يمكن تجميعه بعد ضياع أرشيف مؤسسة السينما الفلسطينية في بيروت.
وأما القضية الثالثة فهي ملاحظة وصلتني من مشرفي منتدى جامعي يضم طلبة جامعيين وخريجين، عن تعرضهم للضغوط من جهة فصائلية وطنية، لتغيير اسم المنتدى أو الخضوع لإرادة ذلك الفصيل، وكأنه لا يكفينا ما جرى في الوطن بسبب مثل هذه السلوكيات، فيا أيها السادة الوطن لكل من آمن بالوطن، وفلسطين لنا جميعاً، وليست حكراً لفصيل أو وجهة نظر أحادية، فكفى بنا الاحتلال يمزق الوطن كل يوم، والياته ودروعه وطائراته تسقط الشهداء والجرحى وتخطف الأبناء أسرى، حتى تتصارعوا على صغائر الأمور، والجدار يلتهم الأرض على بعد أمتار منكم، فهو أولى بالمقاومة وتوحد جهدكم من أجل مقاومته.
السبت الماضي كنت سعيداً جداً، بحضور فريقي عمالقة الشمال لتصفية بطولة الكرة الطائرة، فريقي عزون وجيوس يتنافسان كما اعتادا على البطولة في قاعة ماجد أسعد في البيرة توأم رام الله السيامي، وكنت في غاية السعادة للقاء أبناء بلدتي الذين لا التقيهم إلا في مثل هكذا مناسبات، فما زالت الطرق مغلقة في وجهي، وما زلت أسير رام الله لا أتمكن من مغادرتها، وكان لقاء جميل زاده جمالاً اللعب الجميل والروح الرياضية بين فريقي البلدتين المتجاورتين، والذي انتهى بفوز جيوس المعتاد، وبين الجارتين جيوس وعزون سجال طويل في هذه اللعبة، وفي حالة الفوز هو فوز للبلدتين، والخسارة خسارة للبلدتين، فتحية محبة لأهلي وأحبتي في البلدتين، وتحية إجلال لهذا اللعب الجميل والعطاء الرائع لعمالقة الشمال، وأطرف ما في المباراة لقاءي وصديقي الشاعر عبد السلام العطاري هناك، ولأول مرة بعيداً عن صفة الكاتب والشاعر، بل بصفات رسمية لها علاقة بالشباب والرياضة، مما أثار بيننا الضحك وهو لا يكف عن التعليقات أثناء المباراة.
تحتفي رام الله بالمطر والغيث منذ يومين، وأمس وأول أمس كنا في إجازة، عيد الميلاد وعيد رأس السنة الهجرية، مما أتاح لي فرصة إنجاز بعض الأعمال المتراكمة، السير تحت قطرات المطر إلى درجة التطهر، تأمل رام الله والتقاط بعض الصور.
وها أنا اقف بعد جولة قصيرة في هذا الصباح إلى نافذتي، فتصر ذاكرتي على العودة للذكريات واستكمال مسيرة الطفولة في القدس، فتعود لتلك المدرسة التي أصبحت فيها، مدرسة خليل السكاكيني، وتحدثت في الحلقة السابقة عن أثر الثورة الجزائرية على روحي، وهناك مسألة أخرى تركت أثراً كبيراً، ففي كل أسبوع كان هناك يوم في الأسبوع على ما أذكر، تمر فيه قافلة قادمة من هداسا إلى القدس الغربية، شاحنات إسرائيلية تحت حراسة الجيش العربي ومرافقة الصليب الأحمر، لتعمل على إحضار التموين للإسرائيليين، والتي تبين في حرب حزيران أنها كانت تكدس السلاح والجنود هناك، وكانت هذه الشاحنات مغلقة من كل الجهات إلا من فتحة صغيرة في الزجاج الأمامي ليتمكن السائق من معرفة الطريق، وحين كان يصل لتلك المخاريط الإسمنتية كان يوجه بالإشارات يمنة ويسرى، حتى يتمكن من المرور، وفي لحظة مرورها كان رجال الشرطة العسكرية يمنعوننا كطلبة من التواجد في الساحة المجاورة للشارع، لكن لم نكن نعدم الوسيلة للتسلل وقذف الشاحنات الإسرائيلية بالحجارة، تعبيراً عن الغضب ورفض الاحتلال، فكانت أولى دروس المقاومة في حياتي تلقيتها على أيدي زملاء الصف ونحن في الثانية الابتدائية، وهذا ما يؤكد أن ثورة الحجارة هي ثورة مغروسة في الوجدان الفلسطيني، فالفلسطيني يلجأ للحجر طالما لا يمتلك وسيلة أخرى.
لم تطل الإقامة في القدس، وقبل امتحانات الفصل الأول وجدنا أنفسنا نعود لعمان مؤقتاً، ولا أعرف أين انتقل والدي بفترتها، وكل ما أذكره أننا عدنا بدون الوالد إلى عمان، وسكنا في بيت جدي في غرفة جانبية في مخيم الوحدات، وعدت أنا لمدرستي الأولى.. مدرسة عبد الرحمن بن عوف، وعدت لأصدقاء المخيم والحارة، أتباهى بالحديث أمامهم عن القدس والحرم وقبة الصخرة، مع بعض المبالغات الطفولية التي يضيفها الخيال الواسع، لطفل لم يكمل عامه السابع بفترتها.
صباح آخر والحمام يصر أن يزور نافذتي ويسمعني عزفه الجميل، وطيف يصر أن يكون معي ليدفئ الروح من البرد، آه يا طيفي البعيد القريب الحلو كم أفتقدك، فنجان قهوة وقطرات مطر وشدو فيروز:
"ردني إلى بلادي، مع نسائم غوادي، مع شعاعة تغاوت عند شاطئ ووادي، مرة وعدت تاخذني قد ذبلت من بعادي، وارمي بي على ضفاف من طفولتي غداتي، نهرها ككف من أحببت خير وصابي، لم تزل على وفاء ما في الوفاء غادي، حبي هناك حب الحب، شلح زنبق أنا، اكسرني على ثرى بلادي".
صباحكم أجمل.
رام الله المحتلة
http://ziadjayyosi1955.maktoobblog.com/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق