الثلاثاء، مايو 01، 2007

الرواية التي لم أكتبها .. عن الدجل القومي والدجالين


نبيل عودة

يومان من التردد .. يومان صعبان ، صارعت فيهما ذاتي المنشقة على نفسها انشقاقا عربيا أصيلا ، بين شيعة وسنة ،ومسلمين ومسيحيين ، وشعب ونظام ، ومجتمع مدني وحكام ، ومحرومين وحرامية ، وعرب وأقليات ، وعقلاء ومجانين ، ومناضلين وبسطاء ، ومنفى ووطن ، ومفكرين وأقزام ، وهاربين وصامدين .
وماذا بعد ؟!
عدت قبل يومين من جولة في الولايات المتحدة الأمريكية استغرقت شهرا كاملا ، كانت مناسبة أيضا لاعادة التفكير وترتيب الأوراق ، والأهم .. تعميق معرفتي بكل ما يتعلق بالواقع الأمريكي ، لعلي أكتشف اسرار هذا الجحود والأستهتار بشرقنا العربي ، وانساننا العربي ، رغم الحب العربي الرسمي والسجود المذل والطاعة العمياء ، والحماس العربي الشعبي غير الرسمي للهجرة الى بلاد لم تنصفهم سياسيا ، ولكنها قد تنقذهم اجتماعيا من أنظمة عتيقة منغلقة فاسدة وكاتمة للأنفاس والعقل .
كانت مناسبة أيضا لقراءة ما لم أستطع قراءته خلال ضغط العمل والكتابة الصحفية والهموم الأجتماعية والسياسية التي سرقتني لوقت ،كنت آمل ان لا يطول .. من الكتابة الأدبية الأبداعية . كانت في خيالي رواية أو شبه رواية ستكتمل تفاصيلها عندما أمسك القلم واقتحم المجهول .. ولكني وجدت أن الروايات التي نحياها أكثر متعة ، وأشد اثارة ودهشة وابداعا من كل الفذلكات اللغوية الخيالية . بل وأشد اغراقا في الخيال .. حيث أصبح " رسول محرمة الورق " من الشاباك الى النظام السوري ، متهما بالخيانة من مرسليه .. فأي تهريج هذا ، وأي قرون انتم ، كما صرخ غاضبا شاعرنا العراقي الكبير مظفر النواب .. فهل نبيع للدجالين عقلنا وننصرف من التاريخ ، ونعود لممارسة البكاء على الأطلال ؟!
ان ممارسة الحرية مسؤولية . ومن يحول الحرية الى دعارة سياسية ليدفع الثمن لوحده.ان نوافذ الحرية مغلقة كلها في عالمنا العربي . والمثقفون العرب لم يختاروا المنفى الا هربا من الموت ... وعندما يمارس مثقف ما الدجل لدى أنظمة فاسدة ومفسودة ، وتفتقد لكل مقومات السلطة بمؤسساتها المستقلة ، فهو يخدم مرسليه بمحرمة الورق ضد العقل العربي الدمقراطي والمتنور .. ضد التغيير الذي لم يعد يحتمل التأجيل .. وبات التأخير انتحارا وطنيا !!
كم يبدو تضامن بعض العرب فاسدا ، حين يحولون شخصا مقربا لأنظمة الفساد العربية الى وزن يتجاوز في قيمته الآلاف من المثقفين والمناضلين البواسل المنفيين قسرا من وطنهم او في سجون أنظمتهم ، والمطاردين بسبب حبهم لأوطانهم وغيرتهم على مستقبلها ، وأصرارهم على بناء أنظمة دمقراطية تحقق انجازات اقتصادية واجتماعية وعلمية ، تجعلها أوطانا تستحق ابناءها ، وتجعلهم ابناء لأوطان تستحقهم .
لم يهرب مناضلنا العظيم من سياط القهر وغباء التخلف ... وتاريخ نضالنا لم يبدأ به لينتهي به . هذا الدجل القومي اهانة للعقل .. نمارس نضالنا في ظروف صعبة وقاسية ولكنها غير مستحيلة بقوة صمودنا ومنطقنا السياسي .
قرأت أثناء جولتي كتاب " عرب صالحون " للباحث اليهودي في معهد ترومان – الجامعة العبرية في القدس ، الدكتور هيلل كوهين .. الكتاب لفت انتباه عدد قليل فقط من المثقفين العرب للأسف الشديد .. وكنت اتوقع ان تثير الحقائق المذهلة التي يكشفها الكتاب ، عن الأعداد الهائلة من المتعاونين العرب الذين جندتهم الحركة الصهيونية قبل قيام الدولة ، ثم أجهزة الشرطة والمخابرات بعد اقامة الدولة ،للعمل ضد مصالح شعبهم ، وضد تطورة وحصوله على حقوقه الانسانية الأولية ، ضجة اعلامية ونقاش فكري وسياسي واسع ، وربما يجد القانونيون العرب مجالا لمقاضاة اجهزة المخابرات على اساليبها الهمجية في تدمير حياة المواطنين العرب ومنعهم بقوة الارهاب والتجويع من ممارسة حرية الفكر والرأي التي تضمنتها وثيقة استقلال اسرائيل نفسها .. خاصة وأن بعض هذه الأعمال لا تختلف بجوهرها عن الممارسات النازية في اوروبا عشية وأثناء الحرب العالمية الثانية . واتمنى أن يرى هذا الكتاب النور باللغة العربية لأهميته الهائلة في كشف فسادنا وفساد العديد من أولي الأمر بيننا .
الكتاب وثيقة اعتمد كاتبها على الوثائق السرية للغاية للشاباك ومكتب رئيس الحكومة ووحدة الأقليات للشرطة ..
بعد قراءة هذا الكتاب يصحو العقل من الترهات والتهريج السياسي الذي يبلغ حد الدعارة .
الكتاب عبارة عن تاريخ بديل للتاريخ النضالي الصعب والعنيد الذي خاضه جيل الشيوعيين الوطنيين الطليعي ، وكم يبرز هذا الدور ساطعا في طهارته وذكائه وصلابة رجاله واصراهم على قهر الفساد والمفسدين وبناء مجتمع عربي راق في اسرائيل ، يجد طريقه عبر كل الصعاب والضغوطات والأرهاب . وقد نجح قادة الحزب في ذلك الزمن المخيف بكسر الطوق ، وعزل العملاء ، ورفع قامة شعبنا ، وتعزيز انتمائه الوطني والانساني ، والحفاظ على تراثة ، واحداث انطلاقة ثقافية ، نقلت شعبنا نقلة نوعية من شراذم تتعرض لحرب همجية على هويتها ومصيرها وبقائها في وطنها وأرضها .. الى شعب حي يقظ سياسيا ، انتفض كالمارد ضد الحصار الانساني والحضاري ، مجددا انتماءه الوطني ، انتماءه لثقافته ولغته وهويته . والكتاب يكشف بشكل غير مباشر عظمة هذا الدور وأهميته في افشال المخططات السلطوية التدميرية لما تبقى من المجتمع العربي في اسرائيل بعد النكبة .
لا سادتي .. لم نعرف النضال والأنتماء والهوية من رسول المحارم . لم نضلل من أنظمة الفساد ونبيع انفسنا ببعض الفضة . حقا الصورة اليوم مقلقة .. الحزب الشيوعي بلا قيادة وفقد طليعيته ويتهاوى بسرعة الصوت .. وسيطرة الفكر الأصولي الديني يزيد من التبعثر الأجتماعي والسياسي .
والمناضل الوطني جدا غير قلق من واقعنا .. ومقطوع عنه أصلا و يقود " جماهيره " عبر الأنترنت والفضائيات من عواصم الفساد العربية . ربما ما عمل الشاباك على انجازه منذ اقامة الدولة .. أصبح ممكنا الآن وبوسائل " حضارية " !!
قرأت تبريرات الهروب التي يصيغ نصوصها البعض كما تصاع نصوص الاعلانات التجارية ، وزادتني اقتناعا بأن الوطنية الحقة ، هي وطنية انسانية أولا . هذا الكذب والدجل السياسي تحت شعارات وطنية صارخة ، ليس جديدا علي أو على النشطاء السياسيين خلال العقود الستة الماضية ، حياتنا وواقعنا لم يكونا نعيما في وطننا . ولكننا لم نتورط مثل بعض المناضلين المفكرين الأدباء الفلاسفة . هذه البضاعة الوطنية قديمة وفاسدة . تجربتنا المريرة في وطننا علمتنا أن لا ننزلق وراء مقولاتها . اسألوا المثقفين العرب المهججين من أوطانهم اذا كانوا من الغباء ليشتروا مثل هذه القصص الوطنية ؟! لماذا أذن تصرون على شعبنا المجرب أن يشتريها ..؟ هل يجب ان يتورط شعبنا كله بالاعيب فاسدة ليرضى الهارب ؟
التبريرات عذر أقبح من ذنب . السياسي يعرف كيف ينهج وما هو فن الممكن .. ما هو المرغوب وما هو المعقول في الزمن المحدد . المفكر لا يتوهم ان الدمقراطية بلا حدود .. والبريء لا يهرب . والمقاتل الحق لا يتخلى عن رجاله في المعركة . ماذا كانت حالتنا اليوم لو هرب قادة شعبنا الطلائعيين الى الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية ليعيشوا في نعيم الأنظمة الشيوعية ؟ هل كان من الصعب أن يرتكبوا حماقة .. وما أكثر الحماقات الممكنة . ولكنهم فكروا بمصير شعبهم أولا .. وهذا ما نفتقدته في هذه الرواية التي لم أكتبها !!
نبيل عودة – كاتب واعلامي فلسطيني – الناصرة
mostkbel@netvision.net.il

ليست هناك تعليقات: