الخميس، أكتوبر 12، 2006

بلاد ذاهبة للماضي .. و أخرى ذاهبة للمستقبل

فيديو عن سنغافورة
**
بقلم: إبراهيم علي

أذكر ويذكر الكثيرون ممن عاصروا حقبة السبعينات من القرن الماضي، أنه بعد حل المجلس الوطني في عام 1975م كان هناك الكثير من التصريحات والوعود الجميلة حول أن بلادنا سائرة لا محالة نحو آفاق رحبة من التقدم والتنمية المستدامة والمستقبل المشرق، و أنها سوف تستفيد في مسيرتها هذه من كل التجارب التنموية و النهضوية في البلدان الأخرى، و لاسيما تجارب الأقطار المعروفة باسم "النمور الآسيوية"، وتحديدا سنغافورة على اعتبار أنها تتشابه في الحجم و الموارد والمكونات السكانية المتعددة مع البحرين.

مرت علينا منذ إطلاق تلك الوعود بتحويل بلادنا إلى سنغافورة أخرى ثلاثة عقود كاملة من الزمن، فهل تحقق منها شيء؟ بل هل حققت بلادنا ربع أو خمس أو عشر ما حققته سنغافورة أو غيرها من نمور آسيا الأقل شأنا من الأخيرة؟

المؤشرات تقول بكل وضوح أن الهوة التي تفصلنا عن اصغر نمر آسيوي من النمور التي قلنا إننا سنحاكيها في التنمية و الرخاء آخذة في الاتساع بدلا من أن تضيق. و يمكن هنا الاستشهاد بالأرقام و الإحصائيات الخاصة بسنغافورة و مقارنتها بمثيلاتها في البحرين، فهي ابلغ دليل على صحة ما نقول.

تقول الأرقام أن الدخل القومي الإجمالي السنوي في سنغافورة يتجاوز 123 بليون دولار، بينما هو في البحرين 11.5 بليون دولار. و معنى هذا أن دخلنا القومي الإجمالي يقل حتى عن دخل سنغافورة السنوي المتحقق من قطاع السياحة وحده و هو 11.65 بليون دولار. وفي الوقت الذي تقول فيه خطط السياحة المستقبلية في سنغافورة أن الدخل المذكور سوف يتضاعف خلال العقد القادم كنتيجة لبرامج و حوافز و مشاريع واضحة ومدعومة من كافة قطاعات المجتمع ، لا يزال الجدل دائرا دون حسم في بلادنا حول السياحة النظيفة و غير النظيفة، و الجهة التي لها الحق في وضع السياسات السياحية و تنفيذها و الإشراف عليها، وسط شد و جذب و ضياع و خلافات، أطرافها رجال الدين و أصحاب رؤوس الأموال ومسئولو القطاع السياحي.

إن هذا الجدل العقيم، و هذه الطريقة الضبابية في إبقاء الأمور دون حسم، وحدهما يشكلان خير مثال على أن بلادنا في حالة تشتت و تراجع و فقدان للبوصلة الاستراتيجية الدالة على الطريق الصحيح و خيار الانحياز نحو المستقبل. هذا الخيار الذي بات معطلا كنتيجة لكثرة تدخلات رجال الدين و مريديهم من رموز الإسلام السياسي في كل شأن، واستعداد صناع القرار للاستماع إلى ملاحظاتهم ومرئياتهم في شئون لا يملكون حولها أدنى معرفة أو خبرة. فهل سمعتم عن بلاد غير بلادنا، يتدخل فيها أمثال هؤلاء في كافة السياسات و الخطط الاقتصادية والاستثمارية و السياحية والتعليمية و الصحية؟

و ينطبق ما قلناه عن الهوة الكبيرة التي تفصلنا عن سنغافورة لجهة الدخل القومي، على قطاع التعليم. فعلى حين صارت سنغافورة تصنف اليوم ضمن الدول الأكثر تقدما في مجال التعليم، بدليل ما يحققه طلبتها سنويا من مراتب أولى في المسابقات العالمية في الرياضيات و الفيزياء واللغات العالمية الحية و غيرها من العلوم الحديثة من تلك التي تعتبر مفاتيح لولوج أسواق العمل العالمية، فان بلادنا لا تزال تناقش كيفية تطوير التعليم و وضع سياسات للموائمة ما بين مخرجاته و حاجة السوق، و غيرها من الأمور التي حسمت في سنغافورة و قريناتها منذ أمد بعيد. و ليت أن الأمور اقتصرت عندنا على هذا، بل تعدتها إلى سن قوانين و لوائح تعطل التفكير و الخيار الحر لدى طلبة العلم و تحبسهم في قوالب أكل الدهر عليها و شرب. و ما قانون الحشمة الأخير إلا نموذج صارخ لهذه القوانين العقيمة.

وإذا ما بحثنا في الأسباب التي أدت إلى تقدم النمور الآسيوية و تخلفنا، سنجد عوامل كثيرة، أبرزها و فصلها و أفاض في شرحها زميلنا الدكتور عبدالله المدني في كتابة الصادر حديثا عن مؤسسة الأيام للنشر تحت عنوان "المشهد الآسيوي". على أننا لضيق المساحة سنختصر تلك العوامل في عامل التخطيط السليم للمستقبل. ذلك التخطيط الذي وظفت فيه بدقة العلوم والاكتشافات و النظريات الحديثة، مع استلهام تجارب دول العالم الأول في التنمية و النهضة و الرخاء دون مكابرة أو مزايدة أو شعارات فضفاضة أو اعتداد مرضي بالذات أو العودة إلى الماضي والأمجاد الغابرة للبحث عن حلول للحاضر و المستقبل.

في مقابل هذا، نجد أن البحرين، بعد أكثر من ثلاثة عقود على استقلالها، و بعد مرور أربعة أعوام على مسيرتها الإصلاحية و تأسيس النظام الديمقراطي المدني، لا يزال مجتمعها أسيرا لمناقشات عقيمة، و قواها السياسية و المجتمعية منشغلة بوضع العراقيل القانونية و الإدارية الناقلة للبلاد إلى الخلف.. إلى زمن الأجداد و ما قبله، بدلا من التفكير في كيفية التقدم إلى الأمام و استثمار ما تراكم من تجارب و ما امتازت به البحرين على مر العصور من انفتاح وتسامح و تعددية ثقافية في دخول العصر الحديث و اللحاق بالقوى الإقليمية الصاعدة.

خذ مثلا ما يدور هذه الأيام من مناقشات في المجالس الأهلية العامرة وفي بعض الجمعيات السياسية و غير السياسية، حيث لا تسمع إلا مناظرات حول الحلال و الحرام، أو حول كيفية الفصل ما بين الجنسين، أو حول أفضلية البنوك الإسلامية على الربوية، أو حول الرياضة الشرعية وغير الشرعية، أو حول الضوابط الإسلامية في لباس المرأة و عملها ونشاطها الاجتماعي، و غير ذلك مما لم يعد يشغل المجتمعات الحية المتطلعة إلى مستقبل أفضل و دور أسمى في عالم اليوم. أما الأمر الأغرب و الأمر، فهو أن عددا لا يستهان به من المنخرطين في مثل هذه النقاشات السقيمة هم من حملة الدرجات العلمية العليا كالدكتوراه و الماجستير، أو ممن عاشوا سنوات في العالم المتقدم و عرفوا عن قرب كيف يدير الآخر بلاده، و كيف يصنع المعجزات و يتقدم إلى الأمام!

مختصر القول، ستشعر في نهاية المطاف بأنك إزاء جموع مصابة بداء مزمن غير قابل للعلاج. داء عنوانه الأبرز هو تقديس الماضي و ترويجه كخيار وحيد يجب أن تستثمر فيه كل الطاقات و الاثمان. وإذا كان بعض الفئات تستميت من أجل هذا تطبيقا لأيديولوجياتها، فان السلطة للأسف الشديد لها دور في ترسيخ هذا المنحى، بدلا من أن تتصدى له بما تحت يديها من أدوات. فهي قادرة - إن أرادت - على وضع حد للتلاعب الجاري بمستقبلنا ومستقبل أولادنا. و هي مالكة لأدوية العلاج من الترهل والعجز والجمود، و محاولات إرجاع المجتمع إلى الخلف. كيف لا و هي تستطيع بفضل شرعيتها و نفوذها و خبرتها السياسية أن تسن التشريعات الحديثة، و تأخذ بالبرامج و الآليات العصرية، و تستلهم تجارب الآخرين التنموية، و تخوض بجرأة و عزيمة معركة الحداثة و التنوير و العصرنة، و تعتمد على دعم القطاع الأوسع غير المسيس و المؤدلج و المتعصب من شعبنا، و تهمل أصوات أعداء المستقبل و خفافيش الماضي ومرضى الطائفية المقيتة.

bumarwan@batelco.com.bh

ليست هناك تعليقات: