الأربعاء، فبراير 20، 2008

صباحكم أجمل\ أرض العالي تعلا

زياد جيوسي

منذ أسبوع والأرصاد الجوية والصحافة والإعلام تتحدث عن الثلوج وموجة البرد والصقيع القادمة، وما أن بدأت موجة الرياح والمطر أو أمس الاثنين مساء، إلا والكل استعد أن الغزو الأبيض قادم لا محالة صباح الثلاثاء، غزو قد يستمر عدة أيام ويعطل كل شيء تماماً، هكذا كانت أجواء رام الله النفسية وحديثها الوحيد تقريباً، وفي الأمس وفي السادسة والنصف صباحاً كانت الهواتف تدق عليّ تسألني كيف الوضع في المدينة، فبحكم أني تقريباً في وسط المدينة فقد حولني المعارف والأصدقاء القاطنين في الضواحي والمناطق الخارجية عن المدينة إلى نقطة استعلام، ولم تكن هناك من ثلوج أبدا بل قليل من حبات البرد وأمطار وبرد شديد، بحيث كان الجو لا يسمح بالمغامرة للخروج والتجوال كالعادة، لذا بقيت جالساً أحتسي الشاي تارة والقهوة تارة أخرى والتهم بعض من قطع حلويات دمشقية وصلتني بالأمس من هناك، من صديقة عزيزة وغالية فأخرجت من تلافيف الذاكرة ذكرى أيام دمشق والشام، التي عشت بها بعض من زمن لا ينسى، وأشعلت شوق لتلك البلاد الجميلة بعد غياب اثنان وثلاثون عاماً عنها، بقيت حتى الثامنة أتأمل المطر لتأتي موجة بسيطة من الثلج لم تستقر أبدا، ولأكتشف أن المؤسسات قد عطلت أعمالها، وأن المواطنين استعدوا للثلج فلم يخرج أحد، وأن الشوارع استمرت فارغة وكأنه حظر تجوال، ولم تفتح معظم المحلات أبوابها، فحرمنا من الحركة وحرمنا من الثلوج أيضاً، وإن لم يحرمنا الله من نعمة المطر الذي لم يتوقف حتى ساعة نومي.
كان الضباب يغطي المدينة، وكلما فتحت النافذة قليلاً لتغيير الهواء كان البرد يقتحم الصومعة، فلم أجد إلا أن أجدد طقوس الوالدة في طفولتنا، حين كانت تقاوم البرد بإعداد وجبة شهية من العدس الجميل، فمارست هذا الطقس الجميل وأعددت وجبة عدس جميلة لم يشاركني بها إلا صديقي التوأم الدكتور هاني الحروب، محاطة بالفجل والبصل والفلفل بنوعيه الأخضر الحار والشطة والليمون، فقد اختفى باقي أصدقاء الصومعة في أوكانهم ولم يحضر أحد منهم.
ورغم البرد الشديد قضيت أوقاتا جميلة خلف زجاج النافذة اتأمل المطر الذي ينقر زجاج نافذتي، وأتأمل الضباب الذي غطى المدينة فحجب الرؤية، وإن أزعجني أن الحمام لم يخرج ويزورني ويتناول وجبته اليومية، ويمتعني بهديله الجميل، فقضيت النهار بين وقفة إلى النافذة وقراءة في ديوان شعر جميل وصلني، والرد على بعض الرسائل حين تتكرم الشبكة العنكبوتية بالعمل، واستعادة ذكريات وحلم بحل وعدت به ينهي أسري الذي يكاد يكمل أحد عشر عاماً في مدينتي الجميلة رام الله، بدون أن أتمكن من الحركة حتى لأقرب مدينة، أو السفر لعمان الطفولة والشباب ورؤية الأهل والأحبة والأصدقاء وبيتي وأسرتي.
هذه الأجواء أعادت للذاكرة ذكريات الطفولة والرغبة بمواصلة الحديث عنها، فقد انتقلنا من بيتونيا إلى سطح مرحبا من أحياء البيرة شقيقة رام الله التوأم، في بيت واسع وجميل ومستقل، لكنه كعادة والدي بعيد عن الجوار، وهذا كان يسبب لي معاناة في إحضار الأغراض لوالدتي من البقالة الأقرب، والتي تكون بعيدة عن بيتنا عادة، ولعل هذا ما غرس في داخلي القدرة على المشي لمسافات، بحيث أصبح السير على الأقدام هواية يومية أمارسها أينما كنت، ولكن أكثر شيء أزعجني في بيتنا الجديد رغم جماله وسعته، أن المنطقة تفتقد الغطاء الشجري، وأن الأراضي متروكة لا تنبت بها إلا العواسج والأشواك، مما أدى لوجود الأفاعي التي قتلت منها والدتي العديد حين كانت تتسلل إلى شرفة البيت أو حديقته الجرداء، والتي استغلتها الوالدة بالزراعة بحيث أحالتها إلى حديقة جميلة معطاء، ولكني افتقدت الجلوس بين الأشجار وأكل الفاكهة الطازجة عن الشجر مباشرة في بساتين بيتونيا، فأصبحت أكتفي بالجلوس على الشرفة المطلة على شارع القدس أقرأ الكتب والمجلات، أو العب مع شقيقي الأصغر جهاد صديق الطفولة والمشيب.
النقلة من بيتونيا للسكن الجديد كانت نقلة حضارية كبيرة، فهنا لدينا كهرباء وليس "لمبة الجاز"، وبادر الوالد بإحضار ثلاجة لحفظ الطعام وموقد يعمل على الغاز، وأصبح لدينا مذياع نستمع منه إلى صوت العرب والمسلسلات الإذاعية، ولم أعد أسمع ضجيج "بابور الجاز" في إعداد الطعام والشاي، وأصبح لي ولأخوتي غرفة خاصة بنا، ولم نعد ننام وندرس في المطبخ كما كنا في بيتونيا، وصرت استحم بحوض استحمام "بانيو"وماء يسخن بواسطة "كيزر" يعمل على الحطب، بدلاً من الاستحمام ب "اللجن أو الطشت" المعدني، وتسخين الماء على "بابور الجاز"، والأهم بالنسبة لي كان أن الماء يضخ بواسطة مضخة كهربائية من البئر إلى الخزان فوق أسطوح البيت، فارتحت من انتشال الماء بالدلو ورفعه إلى السطح، فاكتشفت كم للحضارة ممثلة بالكهرباء من فوائد رائعة وعظيمة.
عام دراسي كامل بقيت في مدرسة بيتونيا رغم الرحيل، متحملا السير الطويل وبرد الشتاء وحر الصيف في الذهاب والإياب من المدرسة، فأكملت فيها ثلاث سنوات دراسية من أجمل سنوات الدراسة في حياتي، حتى انتقلت لدراسة الصف السادس الابتدائي في مدرسة البيرة الجديدة، والتي لم تترك في روحي أي أثر طيب، حتى أن مستواي الدراسي تراجع فيها، ولا اعلم إن كان السبب هو تغير الأجواء بين المنطقتين، أم تغير نمط المدرسين وقسوتهم في التعامل، أم تغير أسلوب المدرسين الذين اعتدت عليهم عن المدرسين الجدد، وإن كنت قد أحببت مدرس اللغة الانكليزية المرحوم الأستاذ هاشم، ولكنها فترة قصيرة حتى كان طريح فراش المرض لينتقل إلى رحمة الله تعالى بعدها، وسرنا في جنازته متأثرين ومتألمين، حتى واريناه الثرى في مقبرة البيرة، وحين عدت للوطن وقفت بجانب المقبرة لأقرأ الفاتحة على روحه، فمن المستحيل أن أعثر على قبره بداخل المقبرة بعد هذه السنين وأنا لا أعرف إلا اسمه الأول، والمقبرة قد توسعت كثيراً عبر ثلاثين عاماً من الغياب القسري.
عامان قضيتهما بهذا البيت الجديد حتى حصول حرب حزيران والهزيمة المنكرة التي لحقت بالجيوش العربية ووقوعنا تحت الاحتلال، لكن هذه الفترة شهدت مني عشق خاص لرام الله، فقد كان يحلو لي التجوال فيها، بيوتها جميلة وأشجارها وارفة وكثيفة، أهلها طيبون فلا مجال للشعور بالغربة فيها، شوارعها نظيفة وهوائها منعش وجميل، وفي الصيف كنا نشهد فيها مهرجان رام الله ومهرجان البيرة، وكانت بتلك الفترة مصيف فلسطين والأردن، وقبلة الزوار العرب وخاصة من الخليج، فكانت "الدشاديش" البيضاء تملأ شوارعها صيفاً، وفي تلك الفترة أيضاً سمعت عن الانطلاقة الأولى للثورة الفلسطينية، في الأول من العام الف وتسعمائة وخمس وستين، وسمعنا باسم الشهيد الأول في الثورة المعاصرة الشهيد أحمد موسى والأسير الأول محمود بكر حجازي، وفي هذه المرحلة الطفولية سمعت عن انقلاب في الجزائر ضد أحمد بن بيلا وخلعه من الحكم، فتألمت لأن بن بيلا ارتبط بذهني كمجاهد وقائد لثورة الجزائر التي تركت أكبر الأثر في روح طفل، ولعل الحدث الأبرز مشاركتي بمظاهرة ضد الاحتلال على اثر غارة السموع البشعة التي تركت العديد من الشهداء المدنيين الفلسطينيين والعسكريين من الجيش الأردني، إضافة لهدم بيوت بالعشرات ومدرسة ومسجد وعشرات الجرحى، فتحرك الشارع غاضبا بمظاهرات استمرت أسبوعين، وفي اليوم الأول الذي خرجت به مع الطلبة تعرضت للضرب بهراوة من شرطي، والحقيقة لم أكن أدرك لماذا أُضرب وأنا أشارك بمظاهرة احتجاجية، ولم أنسى شكل الشرطي حتى أتيح لي أن أراه بعد فترة يريد أن يصعد بحافلة ركاب، فسارعت بضربه بحجر انتقاما من ضربه لي وسارعت بالفرار، وشعرت أني استعدت كرامتي الطولية المهدورة على هراواته، وان كان هذا سلوك طفولي شعرت كم كان ردة فعل طفولية حين كبرت، فالشرطي يتلقى الأمر وينفذ حرصاً على راتبه ووظيفته لا غير.
صباح آخر يا رام الله مع المطر والبرد وفنجان قهوة جميل وقطعة حلوى دمشقية طيبة، وروح طيفي ترف في فضاء صومعتي، وفيروز تشدو بكل الجمال:
"يا حبي الراجع أهلا، يا غالي وغالي أهلا، صارت سمانا أحلا والجبال إليّ عنا أعلى، شفتك والدنيا قبالي، وأيام تعن عا بالي، ويا ثلج ثلوج عا العالي، ويا ارض العالي تعلا، عا الدنيا كلها تعلا".
صباحكم أجمل.
رام الله المحتلة 20\2\2008
http://ziadjayyosi1955.maktoobblog.com/

ليست هناك تعليقات: