الاثنين، فبراير 25، 2008

المفاهيـــم الدينيـــة ومستقبـــل التسامــح الإنســـاني‮..‬


د‮. ‬عبدالحميد الأنصاري
أقامت جمعية المنتدى محاضرة بعنوان‮ »‬المفاهيم الدينية ومستقبل التسامح الانساني‮« ‬ألقاها الدكتور عبدالحميد الأنصاري‮ ‬أستاذ الدراسات الاسلامية بكلية الحقوق بجامعة قطر تناول فيها مجموعة من المفاهيم الفكرية وسبل تقويتها‮.‬

وفيما‮ ‬يلي‮ ‬نص الندوة‮:‬‮

*‬يعاني‮ ‬العالم من الارهاب الذي‮ ‬اصبح ظاهرة عولمية تستنزف الموارد والطاقات وتفرض الاستحكامات الامنية التي‮ ‬تقيد الحريات،‮ ‬غير آلاف البشر الابرياء الذين‮ ‬يسقطون ضحايا الاعمال الارهابية التي‮ ‬تجتاح العالم‮.

‬ان الارهاب وليد فكر متشدد ونفسية متوترة كارهة للحياة والاحياء لا تستطيع ان تنسجم مع التحولات المجتمعية المتسارعة بفعل تيار العولمة ولذلك فان الارهاب‮ - ‬في‮ ‬التحليل النهائي‮ - ‬ليس موجها ضد الاخر وان استهدفه،‮ ‬انه موجه ضد الذات،‮ ‬انه انتقام الذات الجريحة من نفسها ومن حاضرها البائس‮.

‬لا‮ ‬يمكن تبرير الارهاب بالصراعات السياسية ولا بالمظالم الغربية والامريكية ولا بالقهر السياسي‮ ‬العربي،‮ ‬ولا نستطيع تعليله بغياب الديمقراطية او بوجود البطالة وان اتخذ كل ذلك ذريعة لكسب التعاطف الشعبي،‮ ‬فالارهاب له تاريخ ممتد الى سبعينيات القرن الماضي‮ ‬في‮ ‬مصر باغتيال‮ »‬السادات‮« ‬كما ان للجزائر تاريخا عريقا مع الارهاب،‮ ‬وقد ضرب الارهاب السعودية بدءا من العام ‮٥٩٩١.

‬يولد الانسان محبا للحياة،‮ ‬فالحياة نعمة عظيمة من الخالق،‮ ‬لكن عوامل مجتمعية داخلية وخارجية عديدة تجعله شخصية كارهة لمجتمعها وعصرها منها‮: »‬الطفولة البائسة‮« ‬التي‮ ‬عاشها،‮ ‬وعدم كفاية التحصين الثقافي‮ ‬والديني،‮ ‬والمفاهيم الدينية الخاطئة،‮ ‬والفتاوى التحريضية‮.‬لقد اخفقت مناهج التعليم والمؤسسات الدينية في‮ ‬تحصين شبابنا ضد التطرف،‮ ‬وهذا هو الاخفاق الاكبر لمناهج الثقافة والتربية‮.‬‮]

‬كيف السبيل الى تقوية‮ »‬المناعة‮« ‬الفكرية و»التحصين‮« ‬المجتمعي؟‮

- ‬اولا‮: ‬علينا الاعتراف بمسؤولياتنا والكف عن لوم الاخرين،‮ ‬وقد اعجبني‮ ‬ما قاله سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في‮ ‬كلمته الختامية في‮ ‬حفل توزيع جائزة الشيخ زايد للكتاب‮ »‬ان هذا الواقع المؤلم‮ - ‬للقراءة والكتاب‮ - ‬ليس للشرق ولا للغرب علاقة بقدر ما نتحمل نحن مسؤوليته،‮ ‬بعيدا عن نظرية المؤامرة وشماعة الاخر‮«.‬

ثانيا‮: ‬علينا تبني‮ ‬الخطاب النقدي‮ ‬التحليلي‮ ‬الذي‮ ‬يقول ما لنا وما علينا،‮ ‬وما للاخر وما عليه،‮ ‬مصداقا لقوله تعالى‮: »‬ان الله لا‮ ‬يغير ما بقوم حتى‮ ‬يغيروا ما بأنفسهم‮«.‬

ثالثا‮: ‬علينا تجفيف‮ »‬الينابيع‮« ‬التي‮ ‬تسقي‮ ‬شجرة‮ »‬التعصب‮« ‬باعادة النظر في‮ ‬المفاهيم الدينية السائدة وما تبثه المنابر الثقافية والاعلامية وما‮ ‬يصرح به الدعاة عبر تبني‮ ‬استراتيجية للتنمية الثقافية المشتركة،‮ ‬كما فعلت‮ »‬المانيا‮« ‬بعد هزيمة‮ »‬هتلر‮« ‬اذ عكفت على دراسة الاسباب التي‮ ‬افرزت النازية فاكتشفت ان منابع الثقافة الالمانية باسرها‮ »‬مسمومة‮« ‬وكان لا بد ان تسفر في‮ ‬النهاية عن ظهور هتلر والفكر النازي،‮ ‬ولذلك ضربوا بمثل هذا التراث عرض الحائط،‮ ‬وكذلك فعلت اليابان بالتراث الامبراطوري‮.‬

ان اولادنا الذين اسرعوا الى الموت،‮ ‬فعلوا ذلك لاننا لم نحببهم في‮ ‬الحياة،‮ ‬ملأنا نفوسهم كراهية ونقمة على الحضارة،‮ ‬وصورنا العالم مؤامرة على المسلمين‮.

‬ان الارهاب لا‮ ‬ينتعش الا في‮ ‬مناخ ثقافة معادية كارهة لمعطيات الحضارة،‮ ‬تحرم النافع من الثقافات والفنون الراقية والموسيقى والمسرح‮.‬الارهاب فكر لكنه عدواني،‮ ‬وهو مرض لكنه‮ ‬يصيب النفس،‮ ‬ويميت القلب،‮ ‬وبيئة حاضنة لكن تسودها الكآبة والبؤس والاحباط،‮ ‬وصحيح ان هذا الفكر العدواني‮ ‬المنحرف،‮ ‬اساسه التنشئة الاولى وخبرات الطفولة القاسية ثم التعليم الاحادي‮ ‬التلقيني‮ ‬الذي‮ ‬لا‮ ‬ينمي‮ ‬العقلية الناقدة الا ان الخطاب الديني‮ ‬التحريضي‮ ‬وفتاوى التكفير والاشرطة والكتيبات المتعصبة واخيرا المنبر الالكتروني‮ ‬المتطرف والذي‮ ‬اصبح بوابة التنظيمات الارهابية،‮ ‬لها الاثر الاعظم في‮ ‬ترويج الفكر الارهابي‮.‬‮

‬ثقافة الخليج المتصالحة‮:

‬‮] ‬لم تكن مجتمعاتنا بهذا العنف،‮ ‬لقد عاش الاباء والاجداد في‮ ‬مصالحة مع الذات ومع الاخر،‮ ‬وتعاملوا مع جميع شعوب الارض من دون عقد ووساوس مرضية،‮ ‬فما الذي‮ ‬حصل لمجتمعاتنا؟

ولماذا اصبح بعض شبابنا عدوانيا ناقما على الحياة والاحياء؟‮- ‬ان ما حصل في‮ ‬الساحة العربية وبخاصة الخليجية خلال العقود الثلاثة الاخيرة من فكر متطرف معادٍ‮ ‬للحياة،‮ ‬اصاب بعض ابنائنا ودفعهم الى الهلاك،‮ ‬انما تم زرعه ورعايته من قبل‮ »٣« ‬تيارات سياسية ودينية نجحت في‮ ‬غزو الثقافة المجتمعية المتسامحة،‮ ‬وهي‮:‬‮

١- ‬التيار التكفيري‮ ‬الديني‮ ‬والذي‮ ‬يمثل فكرا اقصائيا قمعيا‮ ‬يشكك في‮ ‬معتقدات الاخرين،‮ ‬ويتهمهم بالبدعة والانحراف والضلالة بحجة ان العقيدة الصحيحة واحدة،‮ ‬اصحابها في‮ ‬الجنة وغيرهم في‮ ‬النار،‮ ‬ويرى هذا التيار ان استخدام العنف وسيلة مشروعة في‮ ‬فرض الرأي‮ ‬السياسي‮ ‬والمفاهيم الدينية الخلافية‮.‬‮

٢- ‬تيار الاسلام السياسي،‮ ‬وهو فكر‮ ‬يقوم على ابدية الصراع مع الغرب،‮ ‬باعتباره العدو الدائم المتربص والمتآمر على المسلمين،‮ ‬ولذلك فهو فكر اتهامي‮ ‬مسكون بهواجس التآمر العالمي‮ ‬وهو لا‮ ‬يكتفي‮ ‬باتهام العالم فحسب بل وايضا،‮ ‬يتهم‮ - ‬وهذا هو الاخطر‮- ‬كل الانظمة العربية الحاكمة بانها طائعة للغرب وتنفذ مخططات الغرب وما مجتمعاتنا الا العوبة بايديهم،‮ ‬ثم انهم‮ ‬يسحبون اتهامهم حتى على المثقفين والمفكرين من دعاة الاصلاح الديني‮ ‬والتعليمي‮ ‬والسياسي،‮ ‬فكلهم عملاء للغرب‮.‬

ويقدم هذا التيار نفسه للجماهير،‮ ‬باعتباره الحامي‮ ‬الوحيد لحمى الاسلام،‮ ‬المدافع عن الهوية الاسلامية،‮ ‬والاصالة والمقدسات،‮ ‬وهو تيار متلون استطاع بدهاء ان‮ ‬يخترق البيئة الخليجية ويكسب بعض ابنائها الى صفه،‮ ‬فكونوا مزيجا فكريا ايدلوجيا او توليفة متعصبة شديدة الخطورة‮.

‬‮٣- ‬التيار القومي‮ - ‬في‮ ‬جانب كبير منه‮ - ‬ويقوم فكر هذا التيار على اعتقاد جازم بان الغرب هو العدو الذي‮ ‬عوق نهضة العرب برسمه للحدود القطرية ودعمه لاسرائيل،‮ ‬واخطر ما في‮ ‬هذا الفكر انه‮ ‬يحتكر‮ »‬الوطنية‮« ‬ويخون الاخر المختلف معه،‮ ‬فاذا كان التياران السابقان‮ »‬التكفيري‮ ‬والاسلام السياسي‮« ‬يحتكران‮ »‬الجنة‮« ‬فان التيار القومي‮ ‬يحتكر‮ »‬الوطن‮«.

‬ثقافة الكراهية هي‮ ‬المحصلة‮:

‬ادى التلاقح والتفاعل بين التيارات الثلاثة على امتداد العقود الاخيرة الى افراز ثقافة متعصبة متطرفة هي‮ »‬ثقافة الكراهية‮« ‬ضد الاخر المحلي‮ ‬المخالف وضد الاخر الغربي‮ ‬وضد دعاة العقلانية والتحديث والمطالبين بتبني‮ ‬ثقافة المراجعة والنقد‮.‬‮»

‬ثقافة الكراهية‮

« ‬هي‮ ‬توليفة من عنصرين‮ »‬التكفير والتخوين‮« ‬فاذا كان الديني‮ ‬يكفر،‮ ‬فان القومي‮ ‬يخون في‮ ‬ادعاء شمولي‮ ‬يحتكر الدين والوطنية‮.

‬وما كان لهذه‮ »‬التوليفة المتعصبة‮« ‬ان تكون‮ »‬توليفة متفجرة‮« ‬الا بفعل التحريض المستمر من قبل منابر التحريض وبخاصة الفضائيات والمواقع الالكترونية المنتشرة،‮ ‬وكانت المحصلة النهائية تهيئة بيئية مجتمعة متعاطفة مع ثقافة الكراهية،‮ ‬ولا ادل من نجاح دعاة ثقافة الكراهية في‮ ‬اختراق البيئة المجتمعية من ‮٣٥‬٪‮ ‬من الجماهير قالوا في‮ ‬استفتاء‮ »‬ايلاف‮« ‬الالكترونية‮: ‬هل قطع الرؤوس في‮ ‬العراق من اعمال المقاومة؟ قالو‮: ‬نعم‮.‬‮]‬

وفي‮ ‬استفتاء صحيفة الاتحاد الاماراتية،‮: ‬هل توافق على فتوى قتل المدنيين المتعاونين مع الاحتلال في‮ ‬العراق؟‮ ‬‮- ‬فتوى الشيخ القرضاوي‮ ‬في‮ ‬نقابة المحامين بمصر وعبر الجزيرة‮ - ‬قال ‮٥٥‬٪‮ ‬نعم‮.

‬وفي‮ ‬ظل هذه البيئة المتعاطفة مع فكر الكراهية امكن تصور‮ »‬الزرقاوي‮« ‬شهيدا‮!!‬واصبح‮ »‬بن لادن‮« ‬مجاهدا اسلاميا‮!! ‬وصار‮ »‬صدام‮« ‬بطلا قوميا‮!!‬

ان التحريض الذي‮ ‬ساعد على انتشاره التقدم التقني‮ ‬في‮ ‬مجال الاعلام هو‮ »‬الوقود‮« ‬الذي‮ ‬ضمن استمرار ثقافة الكراهية‮.‬

العمل الارهابي‮ ‬نبْت بيئتنا ومجتمعنا،‮ ‬له بناء فكري‮ ‬معروف ومفاهيم دينية واضحة وان كانت مغلوطة،‮ ‬والارهابيون ابناء بررة لخطاب ثقافي‮ ‬مشحون بكراهية عميقة للحضارة الغربية وقيمها ونظمها ومفاهيمها،‮ ‬والارهابيون هم نتاج هذا الخطاب وليسوا حمقى او مرضى او جهلة او مغرر بهم من قبل الموساد،‮ ‬الارهابيون نتاج خطاب استعلائي‮ ‬تعصبي‮ ‬يحتكر الصواب المطلق والدين،‮ ‬وساهم على انتاجه منابر تربوية وتعليمية ودينية واعلامية عبر سنين طويلة،‮ ‬كان الهدف الرئيسي‮ ‬لهذا الخطاب المشحون،‮ ‬الحط من حضارة الغرب والترويج‮ ‬لعدوانيتها وماديتها واباحتها بهدف تنفير شبابنا منها وتحصينهم ثقافيا ودينيا ضدها،‮ ‬في‮ ‬مقابل تصوير ماضي‮ ‬المسلمين مجيدا زاهرا قويا عبر التركيز على اللحظات المضيئة في‮ ‬تاريخنا وتجاهل الف سنة من الظلام والحروب والدماء والفتن والجهالة والتخلف ظنا ان ازدراء الاخرين في‮ ‬مقابل استعلاء الذات فيه الحصانة لشبابنا،‮ ‬وثبت ان كل ذلك وهم كبير ندفع ثمنه الان‮.‬‮]‬

كيف اختطف الإرهاب بعض شبابنا؟

‮- ‬لطالما تساءلت مندهشا‮: ‬كيف امكن للارهاب ان‮ ‬يختطف شابا في‮ ‬عمر الزهور فيحزم نفسه بحزام ناسف،‮ ‬ويدخل مطعما مليئا بالعمال،‮ ‬فيفجر نفسه فيهم؟ لماذا‮ ‬يعتقد هؤلاء ان هذا العمل هو الطريق الى الجنة؟

ما هي‮ ‬العقيدة التي‮ ‬تدفع شابا‮ ‬يافعا الى الخلاص من الحياة؟‮

- ‬لاشك ان هناك خبرات طفولية قاسية وراء معظم هؤلاء الذين فضلوا الموت على الحياة،‮ ‬كما ان الفتاوى التحريضية من جانب والفضائيات الجهادية من جانب اخر والمواقع الالكترونية المتطرفة من جانب ثالث لها دورها البارز في‮ ‬توجيه هؤلاء الى ثقافة الموت،‮ ‬كما‮ ‬يجب علينا التنبه الى خطورة دور الاعلام التحريضي‮ ‬على الشباب،‮ ‬ضعيفي‮ ‬المناعة،‮ ‬وناقصي‮ ‬التحصين،‮ ‬فانه بمثابة‮ »‬الوقود‮« ‬الذي‮ ‬يضمن اشتعال الفكر المتطرف واستمراره،‮ ‬بالاضافة الى ترويجه لمفاهيم دينية مغلوطة عن‮ »‬الجهاد‮« ‬و»الولاء والبراء‮« ‬و»الامر بالمعروف والنهي‮ ‬عن المنكر‮« ‬و»الحاكمية‮« ‬و»الجاهلية‮«.. ‬الخ‮.‬

المفاهيم الدينية‮:

‬هناك جملة من المفاهيم الدينية التي‮ ‬أُسيء فهمها ولحقها التشويه بسبب التوظيف السياسي‮ ‬والايديولوجي‮ ‬في‮ ‬الصراعات السياسية بين الجماعات الجهادية والانظمة العربية الحاكمة‮.‬‮] ‬

اولا‮: ‬المفاهيم التراثية‮:‬

مثل‮: ‬الجهاد،‮ ‬الولاء والبراء،‮ ‬التكفير،‮ ‬الامر بالمعروف والنهي‮ ‬عن المنكر‮.‬‮

١- ‬الجهاد‮: ‬يحسن قبل الحديث عن الجهاد،‮ ‬الحديث عن موقف الاسلام من حق الاختلاف،‮ ‬اذ‮ ‬يرى الاسلام ان حق الاختلاف،‮ ‬حق اساسي‮ ‬للانسان سواء في‮ ‬المعتقد الديني‮ ‬او الثقافي،‮ ‬لان ارادة الله قضت بالتعددية الدينية والقومية،‮ ‬فلا‮ ‬يمكن فرض عقيدة واحدة او دين واحد على البشرية جمعاء،‮ ‬فذلك ضد ارادة الله،‮ ‬ومن هنا كان الجهاد وسيلة لحماية هذه التعددية‮.

‬يقول الله‮ »‬ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة،‮ ‬ولا‮ ‬يزالون مختلفين،‮ ‬إلا من رحم ربك،‮ ‬ولذلك خلقهم‮«.

‬حقيقة الجهاد‮:‬

الجهاد لغة بذل اقصى ما بالوسع والطاقة،‮ ‬لكن المدلول الفقهي‮ ‬للجهاد‮ ‬يخصصه بالعمل الحربي‮ ‬وذلك مخالف للمدلول القرآني‮ ‬والنبوي،‮ ‬اذ انه مدلول عام‮ ‬يشمل جميع انواع الجهد في‮ ‬سبيل نصرة الدين او اعلاء قيم الحق و العدل او مجاهدة النفس او التنمية او الاصلاح المجتمعي،‮ ‬ولقد سمّى الرسول جهاد النفس،‮ ‬بالجهاد الاكبر‮.

‬شرع الجهاد لهدفين‮:‬

أ‮- ‬رفع الظلم ودفع العدوان كما في‮ ‬قوله تعالى‮ »‬أُذن للذين‮ ‬يقاتلون بأنهم ظلموا،‮ ‬وأن الله على نصرهم لقدير‮«.‬

ب‮- ‬تحرير الشعوب المضطهدة والمستعبدة من قبل الانظمة الاستبدادية مثل شعوب فارس والشام ومصر والساحل الافريقي،‮ ‬مصداقا للاية‮ »‬وما لكم لا تقاتلون في‮ ‬سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين‮ ‬يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً‮ ‬واجعل لنا من لدنك نصيراً‮«.‬

تشويه مفهوم الجهاد قديماً‮:

‬تم تشويه مفهوم الجهاد حين قسم الفقهاء في‮ ‬القرن الثاني‮ ‬الهجري‮ ‬الجهاد،‮ ‬الى جهاد الدفاع وجهاد الطلب،‮ ‬وقالوا بمشروعية جهاد‮ »‬الطلب‮« ‬بناء على ان‮ »‬آية السيف‮« ‬نسخت ايات السلام،‮ ‬وقسموا العالم الى دار حرب ودار سلام‮.

‬تشويه مفهوم الجهاد حديثاً‮:

‬لقد امتد مفهوم الجهاد الى عصرنا على ايدي‮ »‬الخوارج الجدد‮« ‬الذين قاموا بسلسلة من العمليات الارهابية على امتداد ‮٣ ‬عقود بدءا بالجزائر ومصر ومرورا بالسعودية والكويت وقطر‮.‬والأردن والمغرب والشيشان وباكستان وماليزيا واندونيسيا ونيويورك ومدريد ولندن،‮ ‬وهذه الجماعات الجهادية تجمعها ‮٥ ‬عناصر هي‮:

‬أ‮- ‬ايدلوجية التكفير

ب‮- ‬استهداف المدنيين

ج‮- ‬بث اكبر قدر من الفزع والرعب‮

‬د‮- ‬الحرص على البروز الاعلامي‮ ‬في‮ ‬الفضائيات

هـ‮ - ‬مراجعها الاساسية عن الجهاد مصدرها كتب الاستاذين سيد قطب،‮ ‬المودودي‮.‬

تحليل أفكار قطب والمودودي‮ ‬عن الجهاد‮:

‬يرى الاستاذان،‮ ‬ان المسلمين اوصياء على البشرية،‮ ‬وهم‮ ‬يحملون تكليفا إليها بتحريرها من طواغيت الارض،‮ ‬وما الاسلام إلا فكر انقلابي‮ ‬هدفه قلب نظم الحكم لاقامة حكومة اسلامية تحكم الجنس البشري‮ ‬على امتداد المعمورة،‮ ‬والجهاد هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الهدف،‮ ‬ولذلك فهو فرض عين على كل مسلم‮.

‬ويلاحظ ان افكار الاستاذين عن الجهاد،‮ ‬تنطلق في‮ ‬فراغ،‮ ‬فكأنهما لا‮ ‬يعيشان في‮ ‬دولتين مرتبطتين باتفاقيات سلام وتعاون مع دول العالم،‮ ‬وهما عضوان في‮ ‬منظمة الامم المتحدة،‮ ‬مع ان المقرر شرعا وفقها،‮ ‬ان حق اعلان الجهاد،‮ ‬هو حق من حقوق السيادة للدولة ووظيفة من وظائفها التي‮ ‬لا‮ ‬يجوز لفرد او جماعة ان تعلنه او تنادي‮ ‬به في‮ ‬تجاهل للدولة‮.‬

‮٢- ‬الولاء والبراء‮:‬

هذا المفهوم من المفاهيم التي‮ ‬اسيء فهمها من قبل الجماعات الجهادية،‮ ‬ويتحمل بعض خطباء المساجد وبعض الفضائيات والانترنت مسؤولية ذلك،‮ ‬فهؤلاء عندما‮ ‬يستشهدون بالآية‮ (‬لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء‮) ‬او الآية الاخرى‮ (‬لا‮ ‬يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء‮) ‬لا‮ ‬يفسرونهما التفسير المناسب،‮ ‬والمتفق مع المصلحة العامة،‮ ‬فيتسببون في‮ ‬بلبلة افكار الشباب،‮ ‬وبخاصة المتشدد منهم،‮ ‬الذي‮ ‬يسارع الى تحريم كل اوجه التعاون بين المسلمين وغيرهم،‮ ‬بحجة ان ذلك من الموالاة المحرمة،‮ ‬وهذا فهم سقيم في‮ ‬عصر تقارب فيه الشعوب واختلطت فيه المصالح واصبح الاعتماد المتبادل هو أساس العلاقات الدولية،‮ ‬فما هي‮ ‬الموالاة المحرمة؟

الاولياء جمع ولي‮ ‬وهو الناصر والمعين وموضوع السر والثقة،‮ ‬فالآيتان في‮ ‬النهي‮ ‬عن اتخاذ العدو وليا على حساب مصلحة المسلمين وكل الآيات الاخرى في‮ ‬نفس المعنى،‮ ‬ولا علاقة لها بما هو حاصل الآن من تعاون بين المسلمين مع‮ ‬غيرها من دول العال،‮ ‬فهذه العلاقات ضرورة لتنظميتها وتطوير اقتصادها وتحسين اوضاعها،‮ ‬ولو لم نتعاون مع الدول المتقدمة لعانت شعوبنا وتخلفت اوضاعنا‮.‬‮

٣- ‬التكفير‮:

‬التكفير آفة خطيرة‮ ‬يعاني‮ ‬منها المجتمع العربي‮ ‬وهي‮ ‬لا تقتصر على النخب الفكرية بل ان هناك بيئة مجتمعية تتقبل ظاهرة التكفير وهناك مناخ فكري‮ ‬يساعد عليها،‮ ‬وهناك اجواء تزرع ثقافة التكفير،‮ ‬ومنابر تحرض وتضلل وهناك جامعات تمنج الدكتوراه في‮ ‬التكفير مع مرتبة الشرف‮.‬

خطورة التكفير تكمن في‮ ‬انها المقدمة الاساسية لاستباحة دماء الآخرين واموالهم‮.‬

سلاح التكفير المسلط على رأس كل مفكر حر او مثقف ناقد هو السلاح الذي‮ ‬تستخدمه الجماعات الجهادية ضد كل من‮ ‬يخالفها في‮ ‬طروحاتها الظلامية المتشددة،‮ ‬ولا‮ ‬يكاد‮ ‬ينجو احد من سلاح التكفير لا مثقفا ولا فنانا ولا مفكرا‮.

‬من مقررات الاسلام انه لا‮ ‬يجوز تكفير المسلم اذا نطق بالشهادتين إلا اذا اخرج نفسه من الاسلام فعلا او اقر صراحة بذلك وجاهر بكفره وثبتت عليه الحجة والقاعدة العامة في‮ ‬الاسلام انه لا‮ ‬يفتى بكفر مسلم متى امكن حمل كلامه على محمل حسن،‮ ‬لكن رياح التكفير التي‮ ‬هبت على الخليج وعلى المنطقة العربية كانت قوية لدرجة انها اصابت وجرحت معتقدات كثيرة،‮ ‬وفي‮ ‬كل التحقيقات التي‮ ‬اجريت مع الذين قبض عليهم من المتطرفين،‮ ‬صرحوا بان المنبع التكفيري‮ ‬هو الاساس العقائدي‮ ‬للارهاب،‮ ‬وان عمليات التفجير هي‮ ‬الثمار المرة لايدلولجية التكفير‮.‬‮

٤- ‬الأمر بالمعروف والنهي‮ ‬عن المنكر‮:‬

لا شك ان قواعد ديننا،‮ ‬قاعدة الامر بالمعروف والنهي‮ ‬عن المنكر،‮ ‬ولا معروف اعرف من العدل ولا منكر انكر من الظلم كما قال الامام محمد عبده،‮ ‬والمسلم مطالب ان‮ ‬يكون ايجابيا في‮ ‬اصلاح مجتمعه وتطويره وتنميته وتقدمه عن طريق ممارسة فريضة الامر بالمعروف والنهي‮ ‬عن المنكر ولكن بالاسلوب السلمي‮ ‬وعبر القنوات الشرعية وفي‮ ‬ظل الهامش الديمقراطي‮ ‬الذي‮ ‬قد‮ ‬يضيق ويتسع حسب التطور السياسي‮ ‬والاجتماعي‮ ‬للمجتمع،‮ ‬فليس من حق الافراد اللجوء الى العنف وإلا انقلب امر المجتمع الى فوضى ودمار وفساد،‮ ‬والدولة هي‮ ‬المؤسسة الوحيدة التي‮ ‬تحتكر حق العنف،‮ ‬وتمارسها لحماية المجتمع ضد العدوان الخارجي‮ ‬والداخلي‮.‬‮]‬

ثانيا‮:

‬المفاهيم المعاصرة‮:

‬وهي‮ ‬تشمل‮ (‬الحاكمية‮) ‬و(الجاهلية‮) ‬والعمليات الاستشهادية‮ (‬الانتحارية‮)‬‮

١- ‬الحاكمية‮:

‬ان اول من صك هذا المفهوم،‮ ‬هو الاستاذ‮ ‬ابو الاعلى المودوي‮ - ‬امير الجماعة الاسلامية في‮ ‬باكستان‮ - ‬في‮ ‬محاضرة بمدينة لاهور،‮ ‬اكتوبر ‮٩٣٩١ ‬للرد على القائلين بان الاسلام نظام ديمقراطي‮ ‬وليؤكد ان النظرية السياسية الاسلامية تقوم على‮ (‬الحاكمية‮) ‬مستدلا بالآية‮ (‬ان الحكم إلا لله‮) ‬و(ومن لم‮ ‬يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون‮) ‬ورتب على ذلك‮:

‬أ‮- ‬ليس لفرد او اسرة نصيب من الحاكمية فان الحاكم الحقيقي‮ ‬هو الله والسلطة الحقيقية مختصة به‮.‬

ب‮- ‬ليس لاحد من الامر التشريعي‮ ‬شيئا‮.‬

ج‮- ‬ان الدولة الاسلامية لا‮ ‬يؤسس بنيانها إلا على ذلك القانون الذي‮ ‬جاء به النبي‮ (‬ص‮) ‬من عند ربه مهما تغيرت الظروف والاحوال‮.

‬نقد وتحليل‮:‬

لا نعرف احدا قال بالحاكمية إلا الخوارج القدامى الذين قالوا للامام علي‮ ‬كرم الله وجهه‮ (‬لا حكم إلا لله‮) ‬كشعار سياسي‮ ‬يبررون به خروجهم المسلح،‮ ‬ورد الامام عليهم بقوله‮ (‬انها كلمة حق اريد بها باطل‮).‬

والحقيقة ان رؤية الاستاذ المودودي‮ ‬للحاكمية رؤية ضبابية فهو تارة لا‮ ‬يرى للبشر اي‮ ‬دور في‮ ‬التشريع او الامر السياسي‮ ‬وتارة اخرى‮ ‬يقول ان الاسلام لا‮ ‬ينافي‮ ‬تشريع الانسان وانما‮ ‬يحضره في‮ ‬حدود من القانون الالهي‮ ‬الاعلى‮. ‬كما في‮ ‬محاضرته في‮ ٨/١/٨٥٩١ ‬لكن اكثر من نظر لهذا المفهوم‮ - ‬ايدلوجيا‮ - ‬هو الاستاذ سيد قطب في‮ ‬كتابه‮ (‬معالم في‮ ‬الطريق‮) ‬فقال‮ (‬ان العالم‮ ‬يعيش اليوم كله في‮ ‬جاهلية تقوم على اساس الاعتداء على سلطان الله في‮ ‬الارض وعلى اخص خصائص الالوهية،‮ ‬نوهي‮ ‬الحاكمية،‮ ‬انها تسند الحاكمية الى البشر‮)‬،‮ ‬والحق ان شعار لا حكم إلا لله منذ رفعه الخوارج الى‮ ‬يومنا هذا كان مبعث فتنه وفوضى ومدخل تفرقة بين المسلمين‮) ‬انه لا حاجة لنا الى هذا المفهوم فقد ساعد على استشراء العنف،‮ ‬والاسلام إذ الزمنا بشريعته إلا انه اعطانا حق صياغة مجتمعاتنا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بما‮ ‬يتناسب مع مصالحنا،‮ ‬وقد فتح باب الاجتهاد واسعا،‮ ‬وقال الرسول‮ (‬ص‮): (‬انتم اعلم بامور دنياكم‮) ‬والقرآن الكريم‮ ‬يجعل‮ (‬العرف‮) ‬حاكما للتشريع في‮ ‬كثير من احكام الاسرة‮.

‬‮٢- ‬الجاهلية‮:

‬هذا المفهوم صكه الاستاذ سيد قطب في‮ ‬كتابه‮ (‬معالم في‮ ‬الطريق‮) ‬حيث قال‮ (‬ووجود الامة المسلمة‮ ‬يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة‮) ‬ويضيف‮ (‬نحن اليوم في‮ ‬جاهلية كالجاهلية التي‮ ‬عاصرها الاسلام او اظلم،‮ ‬وكل ما حولنا جاهلية‮).‬

نقد وتحليل‮:

‬لقد اسرف الاستاذ سيد قطب على نفسه حين حكم على مجتمعاتنا بالجاهلية مع اننا مجتمعات تنطق بالشهادتين وتؤدي‮ ‬الفرائض والاركان فلا حجة لسيد قطب ومن رأى رأيه في‮ ‬تكفير مجتمعاتنا‮.‬

واضح ان منطلق الاستاذ سيد قطب في‮ ‬حكمه على المجتمعات الاسلامية بالجاهلية كما جاء في‮ ‬كتابه‮ (‬معالم في‮ ‬الطريق‮) ‬هو‮ (‬ثقافة الكراهية‮) ‬والنقمة والمرارة،‮ ‬ولا منطق عقليا او شرعيا او انسانيا،‮ ‬وراء كل الطرح الفكري‮ ‬البليغ‮ ‬والحماسي‮ ‬الذي‮ ‬تضمنه كتابه،‮ ‬ولكن خطورة هذا الطرح الفكري‮ ‬انها ضللت كثيرا من الشباب ودفعتهم الى مهاوي‮ ‬الهلاك،‮ ‬وهذا ما‮ ‬ينتجه تضخيم مفهوم الحاكمية‮.‬‮

٣- ‬العمليات الاستشهادية‮ (‬الانتحارية‮):‬

من اخطر الظواهر التي‮ ‬أبتليت بها المجتمعات الاسلامية‮ (‬العمليات الانتحارية‮) ‬او‮ (‬القنابل البشرية‮) ‬لقد وقع آلاف الشباب في‮ ‬براثن الارهاب واصبحوا قنابل بشرية ضد مجتمعاتهم بسبب الفتاوى الدينية المحرضة،‮ ‬وظاهرة ان‮ ‬يفجر الانسان نفسه في‮ ‬آخرين ابرياء،‮ ‬ظاهرة لم تعرفها البشرية من قبل،‮ ‬مثل هذه الظاهرة الوحشية لم تعرفها امة‮ ‬غير العرب والمسلمين‮.‬‮]‬

ما الذي‮ ‬جعل الإرهاب بهذه الوحشية؟‮

- ‬انها الفتاوى التحريضية من قبل منظمي‮ ‬الجماعات الجهادية و»ايضا‮« ‬فتاوى مشايخ الاسلام السياسي‮ ‬وعلى رأسهم الشيخ القرضاوي،‮ ‬الذي‮ ‬اعتبر العمليات الانتحارية ضد الاسرائيليين‮ - ‬لا فرق بين عسكري‮ ‬او مدني‮ - (‬اسمى انواع الجهاد‮) ‬بحجة انهم جميعا مغتصبون،‮ ‬وكذلك افتى في‮ ‬نقابة المحامين بمصر بان من تعاون مع المحتل في‮ ‬العراق‮ ‬يقتل‮ - ‬لا فرق بين مدني‮ ‬او عسكري‮.

‬نقد وتحليل‮:

‬ان هذه الفتاوى التي‮ ‬تبيح العمليات الانتحارية ضد المدنيين،‮ ‬فتحت ثغرة خطيرة في‮ ‬الاسلام لا سابقه لها،‮ ‬فالانتحار محرم في‮ ‬الاسلام،‮ ‬قولا واحدا،‮ ‬ولا اعلم فقيها اباح قتل النفس حتى في‮ ‬العدو قبل فتوى الشيخ القرضاوي،‮ ‬ولكن ما دافع الشيخ القرضاوي‮ ‬في‮ ‬هذه الفقوى؟‮

‬يريد الشيخ القرضاوي‮ ‬بفتواه هذه خدمة البرنامج السياسي‮ ‬لحماس باعتبار‮ - ‬حماس‮ - ‬جزءا من تنظيم الاخوان المسلمين،‮ ‬ولذلك رفض جميع ائمة السلفية هذه الفتوى ووقفوا صفا واحدا ضدها‮.‬

الخاتمة‮:‬‮] ‬التسامح‮: ‬وهل له مستقبل في‮ ‬مجتمعاتنا؟

‮- ‬التسامح،‮ ‬كلمة محببة الى نفوسنا،‮ ‬ونحن نعيد ونكرر ان الاسلام دين التسامح،‮ ‬ينبذ العنف والكراهية ويدعو الى التعاون والسلام والتعامل بالبر حتى مع المخالفين لنا في‮ ‬الدين،‮ ‬والبشرية في‮ ‬نظر الاسلام اسرة انسانية واحدة،‮ ‬وقد وصف الله المسلمين بانهم امة تدعو الى الخير والتسامح والمحبة‮. ‬وكلنا نعرف ان رسولنا عليه الصلاة والسلام ضرب اروع الامثلة في‮ ‬التسامح حتى مع اشد اعدائه عندما قال‮: ‬اذهبوا فأنتم الطلقاء،‮ ‬كما‮ ‬يحفظ التاريخ مواقف مجيدة لتسامح المسلمين مع اصحاب الاديان الاخرى ولكن السؤال المقلق والمحير لنا وللعالم المعاصر حولنا‮: ‬اذا كانت تلك القيم السامية والمواقف الانسانية هي‮ ‬من طبيعة ثقافة المسلمين وحضارتهم فلماذا لم تجد طريقها الى سلوكيات عملية تجسد تلك المبادئ والقيم سواء بين المسلمين انفسهم او في‮ ‬علاقاتهم بالآخرين؟‮!‬‮]

‬لماذا تستمر الأوضاع في‮ ‬المجتمعات العربية سيئة رغم تلك المبادئ والقيم؟‮!‬‮

- ‬وهو تساؤل طرحه منذ مدة المفكر البحريني‮ ‬د‮. ‬محمد جابر الانصاري‮ ‬في‮ ‬مقالة بعنوان‮: (‬أسوأ الاوضاع واسمى المبادئ‮) (١) ‬وقال فيها‮ (‬ان ما‮ ‬ينبغي‮ ‬تأكيده،‮ ‬ان التسامح ليس فطرة‮ ‬يولد بها الانسان بحيث نجد انسانا او شعبا متسامحا،‮ ‬وانسانا او شعبا‮ ‬غير متسامح بفطرتهما،‮ ‬ان التسامح ممارسة عملية من الدرجه الاولى وحصيلة لاسباب موضوعية قبل ان‮ ‬يصبح قيمة مجردة،‮ ‬وقد نجد فردا وشعبا متسامحا في‮ ‬لحظة من حياته واقل تسامحا في‮ ‬لحظة اخرى‮) ‬ويضيف الانصاري‮ (‬وعلى اهمية التبليغ‮ ‬والاقناع بل على اهمية التربية،‮ ‬فانه ما لم تكن البنية المجتمعية الشاملة،‮ ‬والبيئة الاجتماعية‮ - ‬الحضارية‮ - ‬العامة تسمح بالتسامح وتشجع عليه وتعتبره وظيفة من وظائفها الاساسية،‮ ‬وتقليدا متعارفا عليه من تقاليدها الراسخة في‮ ‬التعامل وادارة العلاقات بين الافراد والجماعات،‮ ‬فانه لا‮ ‬يمكن ان‮ ‬يتحول الى واقع والى تطبيق بالممارسة،‮ ‬وسيبقى مثلا اعلى معلقا في‮ ‬السماء،‮ ‬يحث عليه المفكرون والافراد المثاليون،‮ ‬ولكن دون جدوى‮).

‬ولقد دعى مجلس الوزراء السعودي‮ ‬الى محاربة فكر الكراهية على مستوى الاسرة والكلمة والموعظة والفتوى،‮ ‬ومن قبل ذلك تعهد زعماء العرب بمحاربة الارهاب مهن جذوره،‮ ‬واهم جذور الارهاب‮ (‬فكر الكراهية‮).‬

وفي‮ (‬قمة مكة‮) (٢) ‬التي‮ ‬تبنت وثيقتي‮ (‬بلاغ‮ ‬مكة‮) ‬و(خطة العمل العشرية لمواجهة تحديات القرن ‮١٢) ‬اكد زعماء العالم الاسلامي‮ ‬عزمهم على مواجهة الفكر المتطرف‮ - ‬المتستر بالدين والمذهب‮ - ‬رافضين كل المبررات والمسوغات المروجة له‮.‬

ولكن‮ ‬يبقى السؤال الاهم‮: ‬كيف تستطيع مجتمعاتنا تجاوز ثقافة الكراهية،‮ ‬وتكريس ثقافة التسامح عبر خطوات عملية ملموسة؟

ان نقطة البداية الموضوعية لمعالجة اي‮ ‬قضية،‮ ‬وهي‮ ‬الاعتراف بها‮ - ‬اولا‮ - ‬ثم اعلان قطعية معرفية مع كل موروث ثقافي‮ ‬يتنافى والمبادئ العليا مما هو اجتهاد بشري‮ ‬عمل به الاسلاف مهما كانت نظرتنا التبجيلية لهم ومهما علت مكانته القائلين به،‮ ‬وهذا‮ - ‬ثانيا‮ - ‬ثم‮ - ‬ثالثا‮ - ‬علينا دعم وتشجيع كل ثقافة تحتضن الانسان لانه انسان بغض النظر عن كونه مسلما او‮ ‬غير مسلم،‮ ‬سنيا او شيعيا او متصوفا او اشعريا‮.‬‮]‬

ورابعا‮: ‬علينا اعادة النظر في‮ ‬المفاصل الاساسية الحاكمة لثقافة المجتمع ومنها‮:‬‮

١- ‬المفصل التربوي‮: ‬واتصور ان التربية هي‮ ‬البداية الحقيقية في‮ ‬تعزيز قيم التسامح،‮ ‬في‮ ‬البيت،‮ ‬في‮ ‬الاسرة الصغيرة،‮ ‬في‮ ‬تسامح الابوين،‮ ‬في‮ ‬تسامج افراد الاسرة مع بعضهم ومع الخدم ومع الجيران‮.‬‮

٢- ‬المفصل التعليمي‮: ‬للبيئة التعليمية الشاملة للمنهج والنشاط والمعلم دور بارز في‮ ‬تكريس ثقافة التسامح،‮ ‬والمعلم له الدور الاعظم في‮ ‬المنظومة التعليمية باعتباره نموذجا هاديا للتسامح بين طلابه،‮ ‬كما‮ ‬يجب مراجعة المناهج الدراسية السائدة لضمان خلوها من بذور التعصب بكافة اشكاله،‮ ‬والتمييز بكافة صوره،‮ ‬والتعليم‮ - ‬عامة‮ - ‬رافد عظيم لثقافة وقيم التسامح‮.‬‮

٣- ‬المفصل الديني‮: ‬لا‮ ‬يمكن للخطاب الديني‮ ‬بكافة مظاهره‮ - ‬درسا دينيا او كتابا او فتوى او خطبه منبرية‮ - ‬ان‮ ‬يستمر في‮ ‬تغذية نوازع التعصب والكراهية ضد المخالفين لنا في‮ ‬مذهب،‮ ‬أ،‮ ‬دين او رأي‮ ‬سياسي‮ ‬او فقهي‮ ‬او اجتماعي،‮ ‬فان في‮ ‬ذلك اضرارا لمجتمعاتنا وهلاكا لابنائنا واساءة لاسلامنا وهدرا لمبادئنا الانسانية وتشويها لصورتنا امام العالم،‮ ‬كيف‮ ‬يمكن تصور خطابا دينيا من على منابر بيوت الله،‮ ‬يدعو للمجاهدين؟‮! ‬

من هم المجاهدون؟ أليسوا هم هؤلاء الارهابيون الذين‮ ‬يروعون الآمنين ويفسدون في‮ ‬الارض وقد ملأوا مجتمعاتنا كراهية؟‮! ‬هذا العبث‮ ‬يجب وقفه وعلى الخطاب الديني‮ ‬ان‮ ‬يتجدد وينفتح على ثقافة العصر ويتخلص من عقده وأوهامه ووساوسه المتمثلة في‮ ‬ان العالم لا شغل له إلا التآمر على المسلمين‮!!

‬ترى ما هي‮ ‬تلك القوة التي‮ ‬عند المسلمين حتى‮ ‬يرهبنا العالم فيتآمر علينا؟‮! ‬نحن الذين في‮ ‬اشد الحاجة اليهم في‮ ‬كل مقومات حياتنا بأكثر من احتياجهم لنا‮.‬على الخطيب الديني‮ ‬ان‮ ‬يكون عذورا للناس متسامحا ومعينا على‮ ‬غرس ثقاقة التسامح،‮ ‬على الخطيب الديني‮ ‬ان‮ ‬يتبني‮ ‬مسؤوليته تجاه الشباب فلا‮ ‬يحرضهم على الهلاك ولا‮ ‬يكرههم في‮ ‬الحياة وفي‮ ‬المجتمع،‮ ‬وبيوت الله،‮ ‬منابر للهداية لا‮ ‬يجوز توظيفها للاجندة السياسية كما‮ ‬يفعل زعماء ورموز الاسلام السياسي‮ ‬وبخاصة جماعة الاخوان المسلمين التي‮ ‬تغرر بالشباب وتدفعهم للمهالك باسم الجهاد والاستشهاد،‮ ‬كما لا‮ ‬يجوز للخطيب‮ - ‬ومهما كانت المبررات‮ - ‬توزيع الاتهامات على المخالفين له في‮ ‬الرأي‮ ‬السياسي‮ ‬او الديني‮ ‬بحجة انهم‮ (‬علمانيون‮) ‬او‮ (‬تغريبيون‮). ‬هل شق عن صدورهم؟‮! ‬على الخطيب ان‮ ‬يكون داعية للخير والتسامح،‮ ‬باعثا على الامل والمستقبل الافضل‮.‬‮

٤- ‬المفصل الاعلامي‮: ‬على الاعلام ان‮ ‬يكون متوازنا،‮ ‬يركز على القواسم الانسانية والايجابية المشتركة بين الاديان والمذاهب والشعوب،‮ ‬لا‮ ‬يكون هدفه السياسي‮ ‬الاثارة عبر تصعيد اخطاء الآخرين،‮ ‬عليه ترسيخ ثقافة التسامح الديني‮ ‬والسياسي‮ ‬بين طوائف المجتمع والتركيز على مفهوم المواطنة،‮ ‬على الخطاب الاعلامي‮ ‬إضاءة اوجه الشراكة النافعة بين الشعوب وتبني‮ ‬المنهج النقدي،‮ ‬والانفتاح على معارف العصر ونبذ التعصبات والطائفية وثقافة الكراهية‮.‬‮

٥- ‬المفصل التشريعي‮: ‬لا‮ ‬يمكن للتشريعات ان تكون معينة على ثقافة التسامح والمحبة اذا كانت مبنية على التمييز في‮ ‬الجنسية وهضم حقوق الاقليات،‮ ‬يجب مراجعة قوانين الجنسية العربية واحكام الاسرة من اجل انصاف المرأة وغيرها ممن‮ ‬يعانون انتقاصا في‮ ‬حقوقهم وحرياتهم الاساسية لا‮ ‬يمكن لثقافة التسامح ان تترسخ في‮ ‬النفوس والبنية المجمعية اذا كان قطاع من المجتمع‮ ‬يعاني‮ ‬تمييزا وظلما على ارض الواقع ولا‮ ‬يجد انصافا بانه من اقلية مخالفة للاغلبية،‮ ‬دينا او مذهبا او قومية‮.‬

هذه هي‮ ‬المفاصل الرئيسية التي‮ ‬يمكن تفعيلها بعد اعادة النظر فيها بما‮ ‬يضمن احياء النزعة الانسانية الشاملة في‮ ‬مضامينها الاساسية في‮ ‬التعليم وفي‮ ‬التنشئة وفي‮ ‬الاعلام والخطاب الديني‮ ‬والتشريعي،‮ ‬يجب علينا ان نحتضن الانسان لكونه انسانا كرمه الخالق مسلما او‮ ‬غير مسلم،‮ ‬ذكرا ام انثى،‮ ‬سنيا او شيعيا،‮ ‬سلفيا او متصوفا ويجب علينا تعزيز قيم المواطنة والانتماء،‮ ‬واعلاء حقوق الانسان واحترام التعددية،‮ ‬وعلينا اعادة الاعتبار لمفهوم الجهاد الاسلامي‮ ‬بعد ان شوهه دعاة الكراهية،‮ ‬وذلك بتبني‮ ‬مفهوم اسلامي‮ ‬رحب للجهاد،‮ ‬فالجهاد الاكبر في‮ ‬تصوري‮ ‬هو ان نحيا ونعمر وننتج ونتقدم وننشر الخير وندافع عن الحق ونساعد المظلومين في‮ ‬سبيل الله لا ان نموت في‮ ‬سبيل الله فحسب‮.‬

يجب علينا اعادة تثقيف الائمة والخطباء وتطوير المناهج الدينية وتخصيبها بافكار المجددين وتبني‮ ‬المنهج النقدي‮ ‬الذي‮ ‬يعصم شبابنا من الانزلاق الى التطرف والانحراف،‮ ‬ان‮ ‬غياب المنهج النقدي‮ ‬في‮ ‬مدارسنا ومساجدنا ومنازلنا هو المسبب الاول لضعف التحصين الداخلي‮ ‬للشباب،‮ ‬وضعف مناعة المجتمع العربي‮ ‬في‮ ‬مواجهة امراض الاستبداد والتطرف والتعصب،‮ ‬ومن هذا المنطلق علينا تدريس التاريخ الاسلامي‮ ‬لطلابنا بحسناته وسيآته،‮ ‬بايجابياته وسلبياته،‮ ‬مالنا وما علينا ولا‮ ‬يجوز تدريس التاريخ وفق منهج انتقائي‮ ‬ختزالي‮ ‬يركز على اللحظات المضيئة ويتغافل عامدا المساحة السوداء من المجازر والعنف والخلافات والاساءات بحق انفسنا وبحق الاخرين،‮ ‬هذا النوع من التدريس‮ ‬يخلق عقلية ماضوية ترى ان مستقبلها ماضيها المجيد،‮ ‬تخدع ذاتها وتنشغل عن مستقبلها،‮ ‬يجب علينا التمييز بين تاريخ المسلمين والاسلامي‮ ‬كدين وعدم الخلط بين ما هو دعوي‮ ‬وما هو سياسي‮ ‬وبين ما هو فقهي‮ ‬وما هو شرعي‮.

‬يجب تفكيك تحالف السلطة الدينية مع السلطة السياسية التي‮ ‬توظف الخطاب الديني‮ ‬لاهداف السياسة،‮ ‬وذلك بداية تفكيك ثقافة الاستبداد والكراهية‮.

‬على مر التاريخ الاسلامي‮ ‬كانت ثقافة الإقصاء والتهميش هي‮ ‬السائدة،‮ ‬وهي‮ ‬السياسية المستمرة من قبل كل طائفة مسيطرة وحاكمة ضد الطوائف الاخرى،‮ ‬وحينما تكونت الدولة الوطنية الحديثة ونصت دساتيرها على مبدأ‮ »‬المواطنة‮« ‬معيارا للحقوق والحريات،‮ ‬بثت نصا مجردا معطلا بعيدا عن حقائق الواقع المجتمعي‮ ‬والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين الافراد،‮ ‬وكانت النتيجة تعميق الازدواج في‮ ‬الشخصية الفردية والجماعية العربية وفي‮ ‬ضعف الولاء للوطن وفي‮ ‬زيادة تعصب المواطن لقبيلته وطائفته ومن المزيد من التوتر الطائفي،‮ ‬ومن هنا علينا اعادة الاعتبار لمفهوم المواطنة عبر المفاصل الرئيسية الخمسة وتفعيلها على ارض الواقع‮.‬

نعم‮: ‬التعددية نعمة لكنها تتحول الى نقمة في‮ ‬غيبة الانتماء الوطني‮ ‬وحضور الانتماء الادنى‮.‬

يجب علينا ضبط الفتاوى المكفرة والتصريحات المخونة ومحاكمة اصحابها وتجريم استخدام بيوت الله في‮ ‬غير اهدافها والحد من نفوذ السلطة الدينية التي‮ ‬تضخم دورها على حساب منظمات المجتمع المدني‮ ‬وحقوق الانسان‮.‬الاستبداد مرض خطير لكنه مزمن في‮ ‬الارض العربية،‮ ‬هو احد افرازات ثقافة الكراهية ولن تستطيع الحد منه او معالجته الا بتفكيك ثقافة الكراهية،‮ ‬وذلك لا‮ ‬يكون الا بإعلان القطيعة المعرفية مع الينابيع المسمومة والروافد التي‮ ‬تغذي‮ ‬تلك الثقافة‮.‬

يجب ان نتعلم كيف نختلف دون ان نتخاصم او‮ ‬يجرح بعضنا بعضا وان‮ ‬يتحلى كل طرف بشجاعة الاعتراف باخطائه تجاه الآخر،‮ ‬ومن ثم‮ ‬يسعى مخلصا لتصحيحها عبر النقد الذاتي‮ ‬وآلية المحاسبة والمراجعة المستمرة،‮ ‬ومن ثم ايضا تكون عنده الشجاعة للاعتذار،‮ ‬فذلك هو الذي‮ ‬يرسخ ثقافة المحبة بدلا من ثقافة الكراهية‮.‬
الايام

ليست هناك تعليقات: