زياد جيوسي
من بيوت رام الله القديمة والجميلة
عمره الآن تجاوز الثمانون عام
"بعدستي الشخصية"
يعود إلينا المطر من جديد، فتحتفل به الأرض وتحتفل به رام الله، فهو يترافق مع حملة التشجير التي بدأت، حملة تقوم بها البلدية بالتعاون مع القطاع الخاص والفعاليات الشعبية، وتعد هذه الحملة أنموذجا يجب العمل على تطبيقه في المجالس والبلديات الأخرى، فهو ليس جهداً حكومياً لينتظر الجميع الحكومة لتقوم به، بل مبادرات ذاتية وشعبية يمكن لكل من ينتمي لوطنه أن يقوم بها، إن توفرت الرغبة في المصلحة العامة، والانتماء للأرض والوطن.
رغم صباحات رام الله الشديدة البرودة هذه الأيام، إلا أن مساءها يحمل في طياته دفئاً ثقافياً وفنياً، ففي مساء الأربعاء الماضي كنا على لقاء مع أمسية والكاتب أكرم مسلم في أمسية لطيفة قرأ لنا فيها بعض مما كتبه عن انطباعاته عن مدينة هامبورغ في ألمانيا، ضمن مشروع "مداد" الذي بادر إليه معهد غوته، وكانت أمسية جميلة في المركز الثقافي الفرنسي الألماني في مدينة رام الله، ومساء الخميس كنا على موعد مع الرائعة المسرحية "أبو حليمة" على خشبة مسرح القصبة، والتي جعلت الجمهور يضحك على طريقة شر البلية ما يضحك، فقد أبدع الفنان إسماعيل الدباغ وهو يتقمص شخصية أبو حليمة الذي يمثل حالات الفلسطيني، ما بين النكبة والشتات والمخيم والقسوة والأنظمة والجيوش والثوار، ليعود و"يبحث عن فلسطين في فلسطين ولا يجدها"، ومساء السبت كنا على موعد مع نادي القراءة في مكتبة بلدية البيرة شقيقة رام الله التوأم، ومحاضرة جميلة عن: "ما بعد الحداثة" للصديق الدكتور زياد الترتير، وان اضطررت للاعتذار والمغادرة حين أنهى أبو طارق الحديث وقبل المناقشة التي فاتتني لارتباطي بدعوة أخرى، والحقيقة أن أسلوب الدكتور زياد مميز وجميل، فهو متحدث في المحاضرة لا قارئ عن ورق، مما يجعل التجاوب معه مميزاً، ورغم أني كنت تعب يومي الجمعة والسبت ولم أغادر فراشي إلا للمحاضرة، إلا أني شعرت بالراحة هناك وتمنيت لو حضرت المناقشة، وإن لم يفتني أن أتحاور معه لاحقاً في سيرنا المسائي بعد الفعاليات التي نلتقي بها عادة، ونقوم بالسير رغم البرد على الأقدام، حتى أوصله قرب بيته وأعود لأكمل السير ومداعبة الغيوم والنجمات في سماء رام الله ونسماتها الباردة الجميلة، والتي رغم كل جمالها لا بد من الاحتياط بالملابس الثقيلة والتي بالكاد تتمكن من تخفيف حدة البرد.
ارتباطي الآخر كان دعوة من حزب وطني يساري لحضور جانب من دورة لشبيبة الحزب عن المؤسسات، والحقيقة شعرت بالسرور وأنا أرى هذا العدد من الشباب والشابات وهم يتناقشون ويتحاورون، فقلت في نفسي: آمل أن يكون شبابنا وشاباتنا جميعاً بهذا الوعي الجميل، ولعل من أجمل ما صادفني هناك أني التقيت مع صديقي الإذاعي نديم عبده، هذا الشاب النشيط بالإذاعة والتغطيات للأحداث، الدمث الخلق والطيب المعشر، وحين دعينا لتناول العشاء همست بأذنه: يا صديقي ألسنا بحضرة حزب يساري؟ فقال: نعم.. فقلت له: وهل حزب يساري يعقد دورة مثل هذه ويكون العشاء "هامبرغر" والمشروب الغازي "كوكاكولا"؟.. أليس الأجدر الانتباه لذلك والطلب من مطعم الفندق أن يقدم العصير من صناعتنا الوطنية، ويقدم عشاءً مرتبطاً بنا كوجبة "مجدرة" مثلاً، وكيف يمكن لهذا الحزب أن يقوي الانتماء الوطني بحس شبيبته، وهو يقدم لهم ضمناً ثقافة "الهمبرغر والكوكاكولا".
وأما مساء الاثنين الأول من أمس فكنت بدعوة من أحد المراكز الأهلية في جلسة حوارية حول مفهوم العنف واللاعنف، ويظهر أن هناك من يحاول استنساخ تجربة "المهاتما غاندي" إلى هنا، رغم أن كافة الظروف الذاتية والموضوعية مختلفة تماماً، فلا مجال للمقارنة بين الاحتلال البريطاني للهند الذي كان يهدف للسيطرة على الموارد، وبين الاحتلال الاستيطاني الإحلالي في فلسطين، الذي يستهدف إحلال شتات الأرض بدلاً من السكان الأصليين الضاربين الجذور في هذه الأرض المقدسة، احتلال يطرد السكان من أرضهم ويدمر مساكنهم وأشجارهم، ويعتبر وطننا "وعد الرب" لهم، فهناك فارق كبير بين الحالتين وفارق كبير بين الكفاح المشروع من أجل الحرية وبين تعبير "العنف".
ومن هناك كنت مرة أخرى في أمسية ثقافية في المركز الثقافي الفرنسي الألماني، على لقاء مع الأسير المحرر محمود الصفدي، والذي قضى في سجون الاحتلال ثمانية عشر عاماً متواصلة، والذي الهم الكاتبة والصحفية الإسرائيلية "أميرة هاس"، من خلال تواصل استمر خمسة شهور وهو بالمعتقل، أن تكتب مسرحية "همس" والتي تعرض منذ بداية العام بشكل يومي في فرنسا، ولا تجد في المسرح مقعداً شاغراً، فحدثنا عن تجربة الاعتقال الطويل وكيف يمكن للمناضل في الأسر أن يتمكن من محاصرة الحصار، وأن يحيل السجن إلى مدرسة وتجربة مميزة، فمحمود حصل على الشهادة الجامعية الأولى في السجن.
والملاحظ أن المركز الثقافي الفرنسي الألماني بدأ يفرض حضوره منذ فترة على الساحة الثقافية والفنية في رام الله، في ظل تراجع الأداء في العديد من المراكز الثقافية حتى باتت لا تقدم إلا فعالية واحدة بين الفترة والأخرى، مقارنة بفترة سابقة كانت بعض هذه المراكز تسيطر على الساحة ثقافياً وفنياً، وكان لها برامج شهرية تغطي الشهر تقريباً في النشاطات.
رغم دفء الأمسيات في رام الله ثقافياً وفنياً، إلا أن ليلها ما زال يشهد غزوات خفافيش الظلام، فمنذ أيام ولا تكاد ليلة تخلو من دخول قوات الاحتلال للمدينة بعد منتصف الليل، تعيث خراباً وتشن حملات اعتقالات وتخريب، ففي العديد من الليالي الماضية، كنت أصحو على أصواتهم وتفجيراتهم، فيطير من عيوني النوم وأنا أرى هذه الخفافيش التي تأتي بعتمة الليل، تعيث بليل المدينة الهادئ وتحيله إلى ليل طويل وأرق متواصل، فمن المستحيل أن نتعايش مع احتلال يصر على إبراز وجهه البشع دوماً بالقتل والأسر والتخريب، لكنه الاحتلال ليس له وجه آخر.
أقف لنافذتي وأستعيد الذكرى وراء الذكرى، أستعيد شريط طفولتي وانتقال من بيتونيا إلى منطقة تدعى "سطح مرحبا" في أطراف البيرة، إلى بيت جديد وجميل، ولعل من أجمل ما فيه أنه مرتبط بالشبكة الكهربائية، فكل سنواتي السابقة كانت بلا كهرباء، أدرس على "لمبة الجاز"، وأتناول الطعام على "صينية القش الملون"، الموضوعة على مائدة قصيرة الأرجل كنا نسميها "الطبلية"، نجلس حولها على "الحصير" المصنوع من القش، وأنام على "جنبية" مصنوعة من مزق الألبسة التي بليت، وأتعاون مع إخوتي على نقل الماء من البئر بواسطة "الدلو" المصنوع من بقايا دواليب السيارات، فالماء كان من الأمطار و غيث السماء يتجمع في البئر، لننقله بجهد كبير إلى الخزان الإسمنتي فوق سطح البيت في بيتونيا، ونطحن العدس والفول على "الجاروشة" الحجرية التي كانت ملكاً لجيراننا، وان بقيت في مدرستي في بيتونيا عام آخر، كنا نعاني خلاله من الحر والبرد وطول المسافة للوصول للمدرسة أنا وشقيقي جهاد والعودة منها، إلا أن هذا العام كرس في روحي حب رام الله أكثر وأكثر، فكنت اتأخر عن البيت في العودة وأنا أجول شوارعها، أرتاح تحت أشجارها وعلى حواف أسوار البيوت والشوارع، فلم تبقى شجرة إلا وعرفتها وربطتني بها صداقة ومحبة، أقرأ بمجلات أستعيرها، أو كتب من مكتبة المدرسة تحت ظلالها، لذا حين عدت لرام الله بعد غياب ثلاثين عاماً، كنت أبحث عما تبقى من أشجارها التي عرفتها، وأتألم على كل شجرة تقطع أو تموت، فأشعر بأني أودع عزيز وغالي.
صباح آخر بعد ليلة قلقة، الأمطار هطلت طوال الأمس والليل بحب وجمال، رام الله تمارس عشق الاغتسال بالمطر وتتطهر من آثار القدم الهمجية، طيفي تجول روحه في فضائي، فنجان قهوة تشاركني فيه روح طيفي الحلو الشقي وحروف خمسة لم تفارق ليلي القلق، فيروز تشدو ككل صباح:
"هون نحنا هون، لوين بدنا نروح يا قلب يا مشبك عالدهر، عا سنين العمر، وضو القمر مشلوح، عا أهلنا الحلوين، عا بيوت غرقانين بالعطر بغمار الزهر، هون راح نبقى نسعد ونشقى، ونزرع الشجرة حدها الغنية، وللدني نحكي حكاية الهية".
صباحكم أجمل..
http://ziadjayyosi1955.maktoobblog.com/
عمره الآن تجاوز الثمانون عام
"بعدستي الشخصية"
يعود إلينا المطر من جديد، فتحتفل به الأرض وتحتفل به رام الله، فهو يترافق مع حملة التشجير التي بدأت، حملة تقوم بها البلدية بالتعاون مع القطاع الخاص والفعاليات الشعبية، وتعد هذه الحملة أنموذجا يجب العمل على تطبيقه في المجالس والبلديات الأخرى، فهو ليس جهداً حكومياً لينتظر الجميع الحكومة لتقوم به، بل مبادرات ذاتية وشعبية يمكن لكل من ينتمي لوطنه أن يقوم بها، إن توفرت الرغبة في المصلحة العامة، والانتماء للأرض والوطن.
رغم صباحات رام الله الشديدة البرودة هذه الأيام، إلا أن مساءها يحمل في طياته دفئاً ثقافياً وفنياً، ففي مساء الأربعاء الماضي كنا على لقاء مع أمسية والكاتب أكرم مسلم في أمسية لطيفة قرأ لنا فيها بعض مما كتبه عن انطباعاته عن مدينة هامبورغ في ألمانيا، ضمن مشروع "مداد" الذي بادر إليه معهد غوته، وكانت أمسية جميلة في المركز الثقافي الفرنسي الألماني في مدينة رام الله، ومساء الخميس كنا على موعد مع الرائعة المسرحية "أبو حليمة" على خشبة مسرح القصبة، والتي جعلت الجمهور يضحك على طريقة شر البلية ما يضحك، فقد أبدع الفنان إسماعيل الدباغ وهو يتقمص شخصية أبو حليمة الذي يمثل حالات الفلسطيني، ما بين النكبة والشتات والمخيم والقسوة والأنظمة والجيوش والثوار، ليعود و"يبحث عن فلسطين في فلسطين ولا يجدها"، ومساء السبت كنا على موعد مع نادي القراءة في مكتبة بلدية البيرة شقيقة رام الله التوأم، ومحاضرة جميلة عن: "ما بعد الحداثة" للصديق الدكتور زياد الترتير، وان اضطررت للاعتذار والمغادرة حين أنهى أبو طارق الحديث وقبل المناقشة التي فاتتني لارتباطي بدعوة أخرى، والحقيقة أن أسلوب الدكتور زياد مميز وجميل، فهو متحدث في المحاضرة لا قارئ عن ورق، مما يجعل التجاوب معه مميزاً، ورغم أني كنت تعب يومي الجمعة والسبت ولم أغادر فراشي إلا للمحاضرة، إلا أني شعرت بالراحة هناك وتمنيت لو حضرت المناقشة، وإن لم يفتني أن أتحاور معه لاحقاً في سيرنا المسائي بعد الفعاليات التي نلتقي بها عادة، ونقوم بالسير رغم البرد على الأقدام، حتى أوصله قرب بيته وأعود لأكمل السير ومداعبة الغيوم والنجمات في سماء رام الله ونسماتها الباردة الجميلة، والتي رغم كل جمالها لا بد من الاحتياط بالملابس الثقيلة والتي بالكاد تتمكن من تخفيف حدة البرد.
ارتباطي الآخر كان دعوة من حزب وطني يساري لحضور جانب من دورة لشبيبة الحزب عن المؤسسات، والحقيقة شعرت بالسرور وأنا أرى هذا العدد من الشباب والشابات وهم يتناقشون ويتحاورون، فقلت في نفسي: آمل أن يكون شبابنا وشاباتنا جميعاً بهذا الوعي الجميل، ولعل من أجمل ما صادفني هناك أني التقيت مع صديقي الإذاعي نديم عبده، هذا الشاب النشيط بالإذاعة والتغطيات للأحداث، الدمث الخلق والطيب المعشر، وحين دعينا لتناول العشاء همست بأذنه: يا صديقي ألسنا بحضرة حزب يساري؟ فقال: نعم.. فقلت له: وهل حزب يساري يعقد دورة مثل هذه ويكون العشاء "هامبرغر" والمشروب الغازي "كوكاكولا"؟.. أليس الأجدر الانتباه لذلك والطلب من مطعم الفندق أن يقدم العصير من صناعتنا الوطنية، ويقدم عشاءً مرتبطاً بنا كوجبة "مجدرة" مثلاً، وكيف يمكن لهذا الحزب أن يقوي الانتماء الوطني بحس شبيبته، وهو يقدم لهم ضمناً ثقافة "الهمبرغر والكوكاكولا".
وأما مساء الاثنين الأول من أمس فكنت بدعوة من أحد المراكز الأهلية في جلسة حوارية حول مفهوم العنف واللاعنف، ويظهر أن هناك من يحاول استنساخ تجربة "المهاتما غاندي" إلى هنا، رغم أن كافة الظروف الذاتية والموضوعية مختلفة تماماً، فلا مجال للمقارنة بين الاحتلال البريطاني للهند الذي كان يهدف للسيطرة على الموارد، وبين الاحتلال الاستيطاني الإحلالي في فلسطين، الذي يستهدف إحلال شتات الأرض بدلاً من السكان الأصليين الضاربين الجذور في هذه الأرض المقدسة، احتلال يطرد السكان من أرضهم ويدمر مساكنهم وأشجارهم، ويعتبر وطننا "وعد الرب" لهم، فهناك فارق كبير بين الحالتين وفارق كبير بين الكفاح المشروع من أجل الحرية وبين تعبير "العنف".
ومن هناك كنت مرة أخرى في أمسية ثقافية في المركز الثقافي الفرنسي الألماني، على لقاء مع الأسير المحرر محمود الصفدي، والذي قضى في سجون الاحتلال ثمانية عشر عاماً متواصلة، والذي الهم الكاتبة والصحفية الإسرائيلية "أميرة هاس"، من خلال تواصل استمر خمسة شهور وهو بالمعتقل، أن تكتب مسرحية "همس" والتي تعرض منذ بداية العام بشكل يومي في فرنسا، ولا تجد في المسرح مقعداً شاغراً، فحدثنا عن تجربة الاعتقال الطويل وكيف يمكن للمناضل في الأسر أن يتمكن من محاصرة الحصار، وأن يحيل السجن إلى مدرسة وتجربة مميزة، فمحمود حصل على الشهادة الجامعية الأولى في السجن.
والملاحظ أن المركز الثقافي الفرنسي الألماني بدأ يفرض حضوره منذ فترة على الساحة الثقافية والفنية في رام الله، في ظل تراجع الأداء في العديد من المراكز الثقافية حتى باتت لا تقدم إلا فعالية واحدة بين الفترة والأخرى، مقارنة بفترة سابقة كانت بعض هذه المراكز تسيطر على الساحة ثقافياً وفنياً، وكان لها برامج شهرية تغطي الشهر تقريباً في النشاطات.
رغم دفء الأمسيات في رام الله ثقافياً وفنياً، إلا أن ليلها ما زال يشهد غزوات خفافيش الظلام، فمنذ أيام ولا تكاد ليلة تخلو من دخول قوات الاحتلال للمدينة بعد منتصف الليل، تعيث خراباً وتشن حملات اعتقالات وتخريب، ففي العديد من الليالي الماضية، كنت أصحو على أصواتهم وتفجيراتهم، فيطير من عيوني النوم وأنا أرى هذه الخفافيش التي تأتي بعتمة الليل، تعيث بليل المدينة الهادئ وتحيله إلى ليل طويل وأرق متواصل، فمن المستحيل أن نتعايش مع احتلال يصر على إبراز وجهه البشع دوماً بالقتل والأسر والتخريب، لكنه الاحتلال ليس له وجه آخر.
أقف لنافذتي وأستعيد الذكرى وراء الذكرى، أستعيد شريط طفولتي وانتقال من بيتونيا إلى منطقة تدعى "سطح مرحبا" في أطراف البيرة، إلى بيت جديد وجميل، ولعل من أجمل ما فيه أنه مرتبط بالشبكة الكهربائية، فكل سنواتي السابقة كانت بلا كهرباء، أدرس على "لمبة الجاز"، وأتناول الطعام على "صينية القش الملون"، الموضوعة على مائدة قصيرة الأرجل كنا نسميها "الطبلية"، نجلس حولها على "الحصير" المصنوع من القش، وأنام على "جنبية" مصنوعة من مزق الألبسة التي بليت، وأتعاون مع إخوتي على نقل الماء من البئر بواسطة "الدلو" المصنوع من بقايا دواليب السيارات، فالماء كان من الأمطار و غيث السماء يتجمع في البئر، لننقله بجهد كبير إلى الخزان الإسمنتي فوق سطح البيت في بيتونيا، ونطحن العدس والفول على "الجاروشة" الحجرية التي كانت ملكاً لجيراننا، وان بقيت في مدرستي في بيتونيا عام آخر، كنا نعاني خلاله من الحر والبرد وطول المسافة للوصول للمدرسة أنا وشقيقي جهاد والعودة منها، إلا أن هذا العام كرس في روحي حب رام الله أكثر وأكثر، فكنت اتأخر عن البيت في العودة وأنا أجول شوارعها، أرتاح تحت أشجارها وعلى حواف أسوار البيوت والشوارع، فلم تبقى شجرة إلا وعرفتها وربطتني بها صداقة ومحبة، أقرأ بمجلات أستعيرها، أو كتب من مكتبة المدرسة تحت ظلالها، لذا حين عدت لرام الله بعد غياب ثلاثين عاماً، كنت أبحث عما تبقى من أشجارها التي عرفتها، وأتألم على كل شجرة تقطع أو تموت، فأشعر بأني أودع عزيز وغالي.
صباح آخر بعد ليلة قلقة، الأمطار هطلت طوال الأمس والليل بحب وجمال، رام الله تمارس عشق الاغتسال بالمطر وتتطهر من آثار القدم الهمجية، طيفي تجول روحه في فضائي، فنجان قهوة تشاركني فيه روح طيفي الحلو الشقي وحروف خمسة لم تفارق ليلي القلق، فيروز تشدو ككل صباح:
"هون نحنا هون، لوين بدنا نروح يا قلب يا مشبك عالدهر، عا سنين العمر، وضو القمر مشلوح، عا أهلنا الحلوين، عا بيوت غرقانين بالعطر بغمار الزهر، هون راح نبقى نسعد ونشقى، ونزرع الشجرة حدها الغنية، وللدني نحكي حكاية الهية".
صباحكم أجمل..
http://ziadjayyosi1955.maktoobblog.com/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق