مريم الراوي
-1-
عزمت المضي الى جنتي المتقدة بالحب والنار والجنون احياناً..لم يثنني عن قراري ملامح الشقاء المتكدسة كأكوام من الغضب على وجوه الخارجين عن قانون البقاء..
ما ان استقليت السيارة حتى بدأ القلب بالخفقان والف سؤال يدور ويلتف ويتخبط كالأعمى مابين زوايا العقل الشارد في ملكوت الان..
تمضي الساعات ويمضي معها الترقب ويتصاعد الشوق لتتعالى ادخنة الدعاء بإنتظار ان يفتحوا لنا الطريق لإعتلاء جسر السلام...ويالها من ساعة وقفناها ندور حول انفسنا,وكل من ينزل من سيارته يحملق في سموات لانهاية لها من الامنيات,يتوافدون تباعاً ومعهم الف اشاعة عن اغلاق الجسر والدرب الموصلة للضفة الأخرى, فتنهار الشمس وتكاد ان تختفي بين اكف السماء.ومابين الحيرة وعدم الادراك لما يحدث, يأتينا رجل ليخبرنا عن درب مختصر فنهرول نحوه بلهفة علنا نخرج من بين كم السيارات والشاحنات العملاقة..لكن لاسبيل ايضاً للخروج,فجميع السيارات تعود كما اتيت محملةً بالرجال والنساء والأطفال والمتاع,ولافرار ابداً من التوقف والإنتظار...
ويطووووول الانتظار ومع كل لحظة تأتي للسائق صرخة (دُفعة) يسمع صداها النائم في قوقعة النسيان..وما ان يبتلع المسكين هذه (التهزيئه) حتى يتلقفه(دُفعه) اخرى..وطبعا على (عينك ياضابط)..
المهم,وانا كالملكة متوجه في مكاني ابتسم للهواء وللحظ التعيس الذي جعلني آتي في هذا الوقت, وبعد طوول (قرف)من الاشاعات حيث كانت لوحدها مصدر ازعاج وملل,وبعد ان فرغ الطابور وكان موعد سيارتنا رمقني الضابط المتكرش بنظرة ثاقبة وسألني من أين انتِ,فأجبته بثقة أخت العمياء: من العراق,مع نظرة جل ترجمتها(شمعنا) وضحكة رنانه تدور في أذني ,ليعلوا مع رفع حاجبي بشكل استقراطي بحت,مأخوذ من كم الافلام التي شاهدتها اغنية خلفية لمجموعة من الشباب وهم ينشدون:"من هنا بنقول ارضنا.ارضنا امنا عرضنا وان مات ملايين مننا القدس حترجع لنا لناااااااااااا"...
لاادري ماسر هطول هذه الاغنية على الموقف لكني حين قلت اسم العراق احسست كأني جندي بإنتظار ان يدخل ارض المعركة وان يثبت نفسه في لحظته الحاسمة...
-2-
وبالفعل اعتلينا جسر السلام,هذا الجسر الجميل الطووووويل,حتى اني ما ان رأيته حتى امنيت النفس(بغفوة صغيرة)لتريحني من شد الاعصاب الذي كاد ان يذهب بمالمتبقي من عقلي..لكن هيهات..فمنظر النيل المبهر,وحديث السائق عن خط بارليف جعلني اتنطط في مكاني واطلقها كلمة (ياحلاوة ياولاد) ورفعت رأسي الى السماء وكاد عنقي ان يخرج من سقف السيارة لولا قدرة الله في اخماد مايمكن اخماده من غرور وعزة بالنفس فلطشني ب(كمين) بأخر الجسر..
فتحولت (ياحلاوة ياولاد) الى (الطف يارب,الستر ياقادر)..وكان الله كما هو لطيف جبار قااادر..خرجنا بسلام وكأننا ملائكة لانرى.. ياللــــه,, هذا ماقالته النفس بسرور ماان خرجنا من بين الدفعة وضابطهم الذي كان اقرب الى مخبر من كونه ضابط نظرا للمعطف الازرق والنظارات السوادء والشعر(المسبسب) والحذاء (اللميـع)..حتى ليخيل لك انه ذاهب لحفلة زفاف أو احدي حفلات التكريم التي تهتم بطقوس الاناقة.
لا يهم,ليكن كما يشاء هذا الضابط (حليوة), (مش حليوة )المهم ان انهم لايدققوا كثيراً ويدعونا نمر كأي مواطن له الحق في رؤية وطنه بعد طول شوق وفراق...
وهنا بدأت النفس تهدأ وتهدأ وساعتها غفت العين لكن الله يمهل ولايهمل,جاءنا خبر هام من السائق وقد نقله عن مصدر موثوق وهي العين حيث انه قد شاهد (كمين) اخر,وصلاة النبي احسن,واستعدي ياباتعه..وارتعشي أيتها الايادي ولتعلن النفير جميع نواحي العاصمة الموقرة,وانا استعد لملاقاة الضابط الذي رجوت وصليت ان يكون (حليوة )في التعامل ففي هذه اللحظات لافرق بين جميل وقبيح تتساوى جميع الملامح ولايبقى سوى وجه ربك و(جدعنة) الضباط..
الضابط وهو نسخة اخرى من المخبر الانيق الذي سبقه واطلق على نفسه ضابطاً برغم ان جميع الدلالات تؤكد على انهم من جهة اخرررررررررى تماماً ..
الضابط: انت مين فين يافندم؟
انا بازبهلال: العراق.
الضابط: لك كتير في مصر؟
انا بذهول: 3 سنين حضرتك..
الضابط: حلوة مصر؟
انا واوركسترا من ورائي تنادي: نااااااااااااااااصر ياحرية,,ام الدنيا مصر..
فأشار بيديه الكريمة,ان ادخلي واذهبي واسرحيي..
واشرت لليمونة الصفراء الجالسة خلف المقود والتي يطلق عليها في الايام العادية(أسطي),اشرت له ان انطلق وخلصناااااااااااااااااااااااااا...
وفعلا انطلقنا وانطلقت عصافير الكون تلاحق ماتبقى من وطن يداعب خيالاتنا ورغبتنا باالوصول والخلاص من القلق...
-3-
مرت ساعات,ومررنا باماكن لاتوصف سوى بالروعة والجمال المبهر..
وانا مابين جمالها وتعب الانتظار ممزقة,ترنو عيوني الى اخر نقطة في الطريق علّ فلسطين تغفو هناك.فأصلها سريعاً,لأرى ذلك الوطن الحبيب..
وعند المساء,وقد طالت الخطى وزادت اللوعة,اطل الشيخ زويد,من بين ثنايا البيوت والاشجار,كعتبة للآتي من عريش تنام عند حافات الوطن الشاهد على همجية المحتل والغاصب...
وهاهنا بدأت بنات افكاري بالرقص والتصفيق بنشيد الاطفال العراقي المعروف"وصلنا وصلنا اجى الواوي واكلنا" ..
وانا اضحكـ وابتسم للمارين,ولي رغبة ان اعانقهم جميعهم ففيهم رائحة فلسطين..
لكني صعقت,فهؤلاء عرايشية,وليسوا بفلسطينيين...
ياللهي!!! أين الأحبة إذا؟؟ وبينما كنت ابحث بنظري عن وجوه جزمت اني سأعرفها مأن ان يطالها بصري الا ان شيئاً كان يؤلمني ويدفعني الى الصراخ:فأطلقتها وبفم ملئ بالوجع
جـــــوعانة
وقد كانت جميع المحلات مقفلة ,ولا من محل يبشرك ولو حتى برغيف خبز!!! ..
(تعاليلي يمه)معقول(انضربت بومبه يارجالة) وهنا تحدث الى الأسطى ليوقف السيارة ..
انا بغضب: استنه يااسطى,هو شو فيه؟؟ روح اسال الراجل والست دي..
نزل المسكين تعباً ورجع هرماً..
انا بترقب: خير شو فيه؟؟
الأسطى: المحلات مقفلة حتى يخرج اخر فلسطيني من العريش,منعت البضائع من الدخول الى العريش حتى اشعار اخر وجميع المحلات الان فارغة نتيجة لعملية التبضع الذي قام بها الفلسطينيون..
انا بفخر: عفية ابوي ابوي..
الاسطى فاتحا فـــاه:هااااااااا..
انا مرة اخرى احادثه لكن هذه المرة وانا اخرج من السيارة: يلا شوفلي سيارة تروح لرفح الفلسطينية..(عايزة اتشرد ياولاد)..
الاسطى: رفـــح,يهديكي يرضيكي..ان من يذهب لايعود, حضرتك..
وحضرتي لم يعره انتباها ولااهتماماً,وصرخت بأعلى الصوت,تااااااااااااااااااكسي..
فجاءني المخلص العرايشي المهضوم: ابو نور,شاب في مقتبل الثلاثيات لكنه(سوسة),وشخصية مرحة..اسعدني حقا التعامل معه,عكس الليمونة الصفراء التي نغصت علي طوال الطريق نتيجة لفزعه من ظله..
ماعليناااااا..كان ابو نور,مااان يعبر كمين حتى يلتفت الي تاركاً المقود ويقول:-" الحمد لله ع السلامة".. واطلقها ضحكة لكنها لم تكن رنانة هذه المرة,واخبرة:-"الله يسلمك,فاضل كم على فلسطين" ويجلس يضحك ويحكيني-: انتي مجنونة ياشيخة؟؟ احنا في فلسطين..
-فلسطين؟!!!رفح؟؟!!! كيف والشرطة المصرية موجودة؟؟!
-ياشيخة,انتي مالك علاقة .بوصلك بوصلك بس انكتمي شوي دوختي راسي!!!
ويسير ابو نور بإتجاه بوابة صلاح الدين,ومن ورائه مئات السيارات العائدة..
ولاتزل الاوركسترا تنشد من ورائي لكن هذه المرة بصوت عبد الحليم وبرومانسية غريب: راجع راجع راجع تاني,راجع بعد الشوء ماضناني فوء الشوء فوووووء الشووووووء"..
والاعلام ترفرف والدنيا بترقص,ويتوقف..
-ليشش توقفت ياعمي؟؟
- اسكتني خلينا ناخد هي الراجل العجوز وزوجته معنا حرام كبار ومطر..
-اوكي يابو نور..
-4-
وصعدت الحاجة بجنبي,هي وحقيبتها,حاجة بسيطة ينطق الفقر من بين ملابسها ويصرخ الحال مستغيثها بالله..بيضاء طويله,ذات قوام ممتلئ لكنها تشي جمال في شبابها مع قليل من الجنون وكثير من الفضول..
والحاج احمد,زوجها الختيار,رجل طويل, ممتلئ,مرح ,عصبي,شقي وهو في هذاالعمر فمابالك في شبابه؟؟..
ماان جلست الى جانبي حتى اخرجت من حقيبتها خيار وخبز..وقدمته لنا قائله بصوت يخبرك عن تعب وارهاق: شكلك جعانه يابنتي خدي كولي..
وانا ياعيني,ماصدقت,التهمتها حتى كدت ان اقضم يد الحاجة لولا لطف الله..
كانت هذه اولى العلامات التي تشير الى ان ظني لم يخب بالفلسطينية..
بالرغم من الفقر لكن الكرم كان حاضراً..
وفي اثناء اكلي للخيارة والخبز اللذيذ كان ابو نور هو الاخر يقضم من الخيارة ويتكلم الى الحاج الذي التفت بدوره الي واخبرني انتي مش فلسطينية انتي مغربة,,بتعرفي تحكي عربي ولك؟؟؟ فابتسمت,واخبرته باني من العراق...ابهرني كيف ان هذا الرجل وزوجته انتفضوا من مكانهم وصرخوا بصوت واحد: الله اذا انت فلسطينية ايضا لافرق بيننا.. الله يرحم صدام حسين.. قتلوه الكلاب الخونه..شوفي يابنتي وهذا الكلام للحاج احمد: انتي اليوم بتتعشي عنا وبتنامي عنا وتتعرفي على اهلنا..انتي منا وفينا,وايدته في ذلك زوجته التي بدأت بالربت على كتفي,وقالتلي:انا زي امك ياحبيبتي..
وبينما كانت قلوبنا تتعانق في هذه اللحظة حتى صدح ابو نور بصوته العالي: ولك انتِ بنت حلال,انت وجهك وجه خير..ضربه الحاج احمد على كتفه ونهره: اتكلم بصوت واطي, راح يصير فيه القلب من صريخك..فضحكنا جميعاً..
تناول الحاج احمد حبة الدواء وهو يطلب من زوجته الماء..ياحاجة فين المية؟؟ فين الميه ياحاجة؟؟ ولك ياهبلة الميه؟؟ ولانداءءءءء فبصق بحبة الدواء واستدار عليها قائلا: ارتحتي رميتها!!ولكن هيهات ان تسمعه الحاجة فعيونها معلقة على دكان وبما انها من ذوات الوزن الثقيل فكانت كل حركة تقوم بها تجعلني التصق اكثر واكثر بنافذه السيارة وادركت حينها ان لم تعد ترى,لكن فضولها قتلها..وفعلاً صرخت بالحاج احمد صرخة زلزلت اركان السيارة: ياااااااااااااااااااااااااااحمد,شو بدنا ندخل وايدنا فاضيه؟؟ مانوخد صندوء شيبسي؟؟؟ ياااااااااااااااااااااحمد,لاخاروف؟؟كيف يعني؟؟
بدي انزل الحين واشوف شو بالدكانة؟؟نزلني هون ولك...
ابونور والضحكة تملء فمه: ياحاجة فين رايحه؟؟ اللاصه(الطينه) بكل مكان والمطر والدكان فارغ اصلا..
الحاج احمد: اخمدي يامرة اخمدي..
وهي كقطار لم تعد جميع المحطات تهمها بشئ ولاحتى الاصوات تردعها لا ولاالنداءات بالتعقل,فنزلت من السيارة تتدحرج مابين الواقفين والماشين,والحاج احمد يصرخ بابو نور: اتركها للهبلة وامشي..
وفعلا مشى ابو نور ونحن نضحك عليها لانها كانت تحاول الحاق بنا لكن بالطبع لم تسعفها صحتها ولاعمرها العتي,فتوقف ابو نور لتعود ثانية الحاجة الى وضعها السابق وحديثها مع الحاج احمد..
-5-
وفجاءه وقبل بوابة صلاح الدين بقليل,
قرر الحاج احمد:
يلا انزلوا من السيارة خلص من هون راح نمشي..
ياعمي ربي يهديك يرضيك..الدنيا مطره وطينه وو..
ولايمكن,قرر الرجل الختيار قرارا لارجعة فيه..
فنزلنا جميعنا,والحاجة تمسك بكتفي والحاج احمد يمسك بذراعي,انتي من دون العالم امانه..
اوعاكي تمشي بعيد..
وانا اضحك,كيف يعني امشي بعيد وانتوا محاوطيني؟؟؟
ومشيناااااااااااااااا ربع ساعة في المطر والوحل(لاصة)..
واقتربنا من عملاق يصحو تارة ليغفو في اماكن اخرى تارة ثانية..
انه الزينكو"الجدار الحديدي الاحمر" الذي فجره الفلسطينيون للعبور الى الضفة الاخرى..
عبرنااااااااااااا الزينكو وتراقصنا فوقهه ومن شده خوف الحاجة علي وقعت في الوحله..والحاج احمد يضحك ويقول: احسن بتستاهل مشان تبطل تحكي.هههههههههه
شو هاي ياعمو؟؟
هي ياستي محطة بهلول,,وهي البناية الي قدامها المكسره والمخرمة بالرصاص,كان في ثلاث جنود اسرائليين هدموا المبنى عليهم فجروو.وكان يتكلم بفخر واعتزاز,فأخبرته بأن النصر قريب,فغمز لي باحدى عينيه,لارى شبابا يحملون السلاح,كانوا مميزين جدا,ليس لانهم يحملون بنادق فقط,لكن صغر سنهم,ونظافه شكلهم ولحاهم الطويله تخبرك بانهم من"كانوا مع الوطن واليوم ضده"..فبكت قلوبنا دم بصمت, على بلادنا التي ترزح تحت ظلم ابنائها وعلى عجز التواقين للحرية والنصر..
وفي تلك اللحظة,وانا اقف امام محطة بهلول ,
والانوار تضرب على الوجوه التعبة والقسمات التي تنتظر حكم الاغلاق والاعدام..
إمتزجت الروح بجميع الأصوات والرؤى ,
وتعلقت العيون بأياد الفقراء تشدها للغد ولنهار آخر ينبأ بالبقاء..
ولكن ....
رحلة العودة الى الوطن لم تكتمل بعد,,
واللذة لم تنطفئ في القلب,حتى هذه اللحظة..
حتى المستحيل يومها,
أضحى محض أكذوبة مهملة ومجموعة خرافات تفتقر للصدق..
فها انا امامكم عراقية في غزة كنت..
لم تمنعني رماح الأمطار ,ولا ارصفة تضج بالأقدام ,
من العبور الى معبودتي فلسطين..
بل كانت تلك اللحظة ميداني الذي علي ان انتزع النصر من عيون النار
والقيها قبس يضئ ليل الفقراء العطشى للغد والحرية والوطن..
ها انا ذا,عاشقة تعمدت من هواء فلسطين,وبجميل نهارات غزة بروزت ذاكرتي وحياتي...
فهيا أيها الواقفون عند عتبات الإنتظار,
قبلوا هذه الاقدام فقد وطأت ارض الاحلام..
ويا غزة
يا كل فلسطين
..لنا عودة..
"فمن يمسك بجمر عشقك لايمكن له سوى الارتواء من احضان قربك"
-1-
عزمت المضي الى جنتي المتقدة بالحب والنار والجنون احياناً..لم يثنني عن قراري ملامح الشقاء المتكدسة كأكوام من الغضب على وجوه الخارجين عن قانون البقاء..
ما ان استقليت السيارة حتى بدأ القلب بالخفقان والف سؤال يدور ويلتف ويتخبط كالأعمى مابين زوايا العقل الشارد في ملكوت الان..
تمضي الساعات ويمضي معها الترقب ويتصاعد الشوق لتتعالى ادخنة الدعاء بإنتظار ان يفتحوا لنا الطريق لإعتلاء جسر السلام...ويالها من ساعة وقفناها ندور حول انفسنا,وكل من ينزل من سيارته يحملق في سموات لانهاية لها من الامنيات,يتوافدون تباعاً ومعهم الف اشاعة عن اغلاق الجسر والدرب الموصلة للضفة الأخرى, فتنهار الشمس وتكاد ان تختفي بين اكف السماء.ومابين الحيرة وعدم الادراك لما يحدث, يأتينا رجل ليخبرنا عن درب مختصر فنهرول نحوه بلهفة علنا نخرج من بين كم السيارات والشاحنات العملاقة..لكن لاسبيل ايضاً للخروج,فجميع السيارات تعود كما اتيت محملةً بالرجال والنساء والأطفال والمتاع,ولافرار ابداً من التوقف والإنتظار...
ويطووووول الانتظار ومع كل لحظة تأتي للسائق صرخة (دُفعة) يسمع صداها النائم في قوقعة النسيان..وما ان يبتلع المسكين هذه (التهزيئه) حتى يتلقفه(دُفعه) اخرى..وطبعا على (عينك ياضابط)..
المهم,وانا كالملكة متوجه في مكاني ابتسم للهواء وللحظ التعيس الذي جعلني آتي في هذا الوقت, وبعد طوول (قرف)من الاشاعات حيث كانت لوحدها مصدر ازعاج وملل,وبعد ان فرغ الطابور وكان موعد سيارتنا رمقني الضابط المتكرش بنظرة ثاقبة وسألني من أين انتِ,فأجبته بثقة أخت العمياء: من العراق,مع نظرة جل ترجمتها(شمعنا) وضحكة رنانه تدور في أذني ,ليعلوا مع رفع حاجبي بشكل استقراطي بحت,مأخوذ من كم الافلام التي شاهدتها اغنية خلفية لمجموعة من الشباب وهم ينشدون:"من هنا بنقول ارضنا.ارضنا امنا عرضنا وان مات ملايين مننا القدس حترجع لنا لناااااااااااا"...
لاادري ماسر هطول هذه الاغنية على الموقف لكني حين قلت اسم العراق احسست كأني جندي بإنتظار ان يدخل ارض المعركة وان يثبت نفسه في لحظته الحاسمة...
-2-
وبالفعل اعتلينا جسر السلام,هذا الجسر الجميل الطووووويل,حتى اني ما ان رأيته حتى امنيت النفس(بغفوة صغيرة)لتريحني من شد الاعصاب الذي كاد ان يذهب بمالمتبقي من عقلي..لكن هيهات..فمنظر النيل المبهر,وحديث السائق عن خط بارليف جعلني اتنطط في مكاني واطلقها كلمة (ياحلاوة ياولاد) ورفعت رأسي الى السماء وكاد عنقي ان يخرج من سقف السيارة لولا قدرة الله في اخماد مايمكن اخماده من غرور وعزة بالنفس فلطشني ب(كمين) بأخر الجسر..
فتحولت (ياحلاوة ياولاد) الى (الطف يارب,الستر ياقادر)..وكان الله كما هو لطيف جبار قااادر..خرجنا بسلام وكأننا ملائكة لانرى.. ياللــــه,, هذا ماقالته النفس بسرور ماان خرجنا من بين الدفعة وضابطهم الذي كان اقرب الى مخبر من كونه ضابط نظرا للمعطف الازرق والنظارات السوادء والشعر(المسبسب) والحذاء (اللميـع)..حتى ليخيل لك انه ذاهب لحفلة زفاف أو احدي حفلات التكريم التي تهتم بطقوس الاناقة.
لا يهم,ليكن كما يشاء هذا الضابط (حليوة), (مش حليوة )المهم ان انهم لايدققوا كثيراً ويدعونا نمر كأي مواطن له الحق في رؤية وطنه بعد طول شوق وفراق...
وهنا بدأت النفس تهدأ وتهدأ وساعتها غفت العين لكن الله يمهل ولايهمل,جاءنا خبر هام من السائق وقد نقله عن مصدر موثوق وهي العين حيث انه قد شاهد (كمين) اخر,وصلاة النبي احسن,واستعدي ياباتعه..وارتعشي أيتها الايادي ولتعلن النفير جميع نواحي العاصمة الموقرة,وانا استعد لملاقاة الضابط الذي رجوت وصليت ان يكون (حليوة )في التعامل ففي هذه اللحظات لافرق بين جميل وقبيح تتساوى جميع الملامح ولايبقى سوى وجه ربك و(جدعنة) الضباط..
الضابط وهو نسخة اخرى من المخبر الانيق الذي سبقه واطلق على نفسه ضابطاً برغم ان جميع الدلالات تؤكد على انهم من جهة اخرررررررررى تماماً ..
الضابط: انت مين فين يافندم؟
انا بازبهلال: العراق.
الضابط: لك كتير في مصر؟
انا بذهول: 3 سنين حضرتك..
الضابط: حلوة مصر؟
انا واوركسترا من ورائي تنادي: نااااااااااااااااصر ياحرية,,ام الدنيا مصر..
فأشار بيديه الكريمة,ان ادخلي واذهبي واسرحيي..
واشرت لليمونة الصفراء الجالسة خلف المقود والتي يطلق عليها في الايام العادية(أسطي),اشرت له ان انطلق وخلصناااااااااااااااااااااااااا...
وفعلا انطلقنا وانطلقت عصافير الكون تلاحق ماتبقى من وطن يداعب خيالاتنا ورغبتنا باالوصول والخلاص من القلق...
-3-
مرت ساعات,ومررنا باماكن لاتوصف سوى بالروعة والجمال المبهر..
وانا مابين جمالها وتعب الانتظار ممزقة,ترنو عيوني الى اخر نقطة في الطريق علّ فلسطين تغفو هناك.فأصلها سريعاً,لأرى ذلك الوطن الحبيب..
وعند المساء,وقد طالت الخطى وزادت اللوعة,اطل الشيخ زويد,من بين ثنايا البيوت والاشجار,كعتبة للآتي من عريش تنام عند حافات الوطن الشاهد على همجية المحتل والغاصب...
وهاهنا بدأت بنات افكاري بالرقص والتصفيق بنشيد الاطفال العراقي المعروف"وصلنا وصلنا اجى الواوي واكلنا" ..
وانا اضحكـ وابتسم للمارين,ولي رغبة ان اعانقهم جميعهم ففيهم رائحة فلسطين..
لكني صعقت,فهؤلاء عرايشية,وليسوا بفلسطينيين...
ياللهي!!! أين الأحبة إذا؟؟ وبينما كنت ابحث بنظري عن وجوه جزمت اني سأعرفها مأن ان يطالها بصري الا ان شيئاً كان يؤلمني ويدفعني الى الصراخ:فأطلقتها وبفم ملئ بالوجع
جـــــوعانة
وقد كانت جميع المحلات مقفلة ,ولا من محل يبشرك ولو حتى برغيف خبز!!! ..
(تعاليلي يمه)معقول(انضربت بومبه يارجالة) وهنا تحدث الى الأسطى ليوقف السيارة ..
انا بغضب: استنه يااسطى,هو شو فيه؟؟ روح اسال الراجل والست دي..
نزل المسكين تعباً ورجع هرماً..
انا بترقب: خير شو فيه؟؟
الأسطى: المحلات مقفلة حتى يخرج اخر فلسطيني من العريش,منعت البضائع من الدخول الى العريش حتى اشعار اخر وجميع المحلات الان فارغة نتيجة لعملية التبضع الذي قام بها الفلسطينيون..
انا بفخر: عفية ابوي ابوي..
الاسطى فاتحا فـــاه:هااااااااا..
انا مرة اخرى احادثه لكن هذه المرة وانا اخرج من السيارة: يلا شوفلي سيارة تروح لرفح الفلسطينية..(عايزة اتشرد ياولاد)..
الاسطى: رفـــح,يهديكي يرضيكي..ان من يذهب لايعود, حضرتك..
وحضرتي لم يعره انتباها ولااهتماماً,وصرخت بأعلى الصوت,تااااااااااااااااااكسي..
فجاءني المخلص العرايشي المهضوم: ابو نور,شاب في مقتبل الثلاثيات لكنه(سوسة),وشخصية مرحة..اسعدني حقا التعامل معه,عكس الليمونة الصفراء التي نغصت علي طوال الطريق نتيجة لفزعه من ظله..
ماعليناااااا..كان ابو نور,مااان يعبر كمين حتى يلتفت الي تاركاً المقود ويقول:-" الحمد لله ع السلامة".. واطلقها ضحكة لكنها لم تكن رنانة هذه المرة,واخبرة:-"الله يسلمك,فاضل كم على فلسطين" ويجلس يضحك ويحكيني-: انتي مجنونة ياشيخة؟؟ احنا في فلسطين..
-فلسطين؟!!!رفح؟؟!!! كيف والشرطة المصرية موجودة؟؟!
-ياشيخة,انتي مالك علاقة .بوصلك بوصلك بس انكتمي شوي دوختي راسي!!!
ويسير ابو نور بإتجاه بوابة صلاح الدين,ومن ورائه مئات السيارات العائدة..
ولاتزل الاوركسترا تنشد من ورائي لكن هذه المرة بصوت عبد الحليم وبرومانسية غريب: راجع راجع راجع تاني,راجع بعد الشوء ماضناني فوء الشوء فوووووء الشووووووء"..
والاعلام ترفرف والدنيا بترقص,ويتوقف..
-ليشش توقفت ياعمي؟؟
- اسكتني خلينا ناخد هي الراجل العجوز وزوجته معنا حرام كبار ومطر..
-اوكي يابو نور..
-4-
وصعدت الحاجة بجنبي,هي وحقيبتها,حاجة بسيطة ينطق الفقر من بين ملابسها ويصرخ الحال مستغيثها بالله..بيضاء طويله,ذات قوام ممتلئ لكنها تشي جمال في شبابها مع قليل من الجنون وكثير من الفضول..
والحاج احمد,زوجها الختيار,رجل طويل, ممتلئ,مرح ,عصبي,شقي وهو في هذاالعمر فمابالك في شبابه؟؟..
ماان جلست الى جانبي حتى اخرجت من حقيبتها خيار وخبز..وقدمته لنا قائله بصوت يخبرك عن تعب وارهاق: شكلك جعانه يابنتي خدي كولي..
وانا ياعيني,ماصدقت,التهمتها حتى كدت ان اقضم يد الحاجة لولا لطف الله..
كانت هذه اولى العلامات التي تشير الى ان ظني لم يخب بالفلسطينية..
بالرغم من الفقر لكن الكرم كان حاضراً..
وفي اثناء اكلي للخيارة والخبز اللذيذ كان ابو نور هو الاخر يقضم من الخيارة ويتكلم الى الحاج الذي التفت بدوره الي واخبرني انتي مش فلسطينية انتي مغربة,,بتعرفي تحكي عربي ولك؟؟؟ فابتسمت,واخبرته باني من العراق...ابهرني كيف ان هذا الرجل وزوجته انتفضوا من مكانهم وصرخوا بصوت واحد: الله اذا انت فلسطينية ايضا لافرق بيننا.. الله يرحم صدام حسين.. قتلوه الكلاب الخونه..شوفي يابنتي وهذا الكلام للحاج احمد: انتي اليوم بتتعشي عنا وبتنامي عنا وتتعرفي على اهلنا..انتي منا وفينا,وايدته في ذلك زوجته التي بدأت بالربت على كتفي,وقالتلي:انا زي امك ياحبيبتي..
وبينما كانت قلوبنا تتعانق في هذه اللحظة حتى صدح ابو نور بصوته العالي: ولك انتِ بنت حلال,انت وجهك وجه خير..ضربه الحاج احمد على كتفه ونهره: اتكلم بصوت واطي, راح يصير فيه القلب من صريخك..فضحكنا جميعاً..
تناول الحاج احمد حبة الدواء وهو يطلب من زوجته الماء..ياحاجة فين المية؟؟ فين الميه ياحاجة؟؟ ولك ياهبلة الميه؟؟ ولانداءءءءء فبصق بحبة الدواء واستدار عليها قائلا: ارتحتي رميتها!!ولكن هيهات ان تسمعه الحاجة فعيونها معلقة على دكان وبما انها من ذوات الوزن الثقيل فكانت كل حركة تقوم بها تجعلني التصق اكثر واكثر بنافذه السيارة وادركت حينها ان لم تعد ترى,لكن فضولها قتلها..وفعلاً صرخت بالحاج احمد صرخة زلزلت اركان السيارة: ياااااااااااااااااااااااااااحمد,شو بدنا ندخل وايدنا فاضيه؟؟ مانوخد صندوء شيبسي؟؟؟ ياااااااااااااااااااااحمد,لاخاروف؟؟كيف يعني؟؟
بدي انزل الحين واشوف شو بالدكانة؟؟نزلني هون ولك...
ابونور والضحكة تملء فمه: ياحاجة فين رايحه؟؟ اللاصه(الطينه) بكل مكان والمطر والدكان فارغ اصلا..
الحاج احمد: اخمدي يامرة اخمدي..
وهي كقطار لم تعد جميع المحطات تهمها بشئ ولاحتى الاصوات تردعها لا ولاالنداءات بالتعقل,فنزلت من السيارة تتدحرج مابين الواقفين والماشين,والحاج احمد يصرخ بابو نور: اتركها للهبلة وامشي..
وفعلا مشى ابو نور ونحن نضحك عليها لانها كانت تحاول الحاق بنا لكن بالطبع لم تسعفها صحتها ولاعمرها العتي,فتوقف ابو نور لتعود ثانية الحاجة الى وضعها السابق وحديثها مع الحاج احمد..
-5-
وفجاءه وقبل بوابة صلاح الدين بقليل,
قرر الحاج احمد:
يلا انزلوا من السيارة خلص من هون راح نمشي..
ياعمي ربي يهديك يرضيك..الدنيا مطره وطينه وو..
ولايمكن,قرر الرجل الختيار قرارا لارجعة فيه..
فنزلنا جميعنا,والحاجة تمسك بكتفي والحاج احمد يمسك بذراعي,انتي من دون العالم امانه..
اوعاكي تمشي بعيد..
وانا اضحك,كيف يعني امشي بعيد وانتوا محاوطيني؟؟؟
ومشيناااااااااااااااا ربع ساعة في المطر والوحل(لاصة)..
واقتربنا من عملاق يصحو تارة ليغفو في اماكن اخرى تارة ثانية..
انه الزينكو"الجدار الحديدي الاحمر" الذي فجره الفلسطينيون للعبور الى الضفة الاخرى..
عبرنااااااااااااا الزينكو وتراقصنا فوقهه ومن شده خوف الحاجة علي وقعت في الوحله..والحاج احمد يضحك ويقول: احسن بتستاهل مشان تبطل تحكي.هههههههههه
شو هاي ياعمو؟؟
هي ياستي محطة بهلول,,وهي البناية الي قدامها المكسره والمخرمة بالرصاص,كان في ثلاث جنود اسرائليين هدموا المبنى عليهم فجروو.وكان يتكلم بفخر واعتزاز,فأخبرته بأن النصر قريب,فغمز لي باحدى عينيه,لارى شبابا يحملون السلاح,كانوا مميزين جدا,ليس لانهم يحملون بنادق فقط,لكن صغر سنهم,ونظافه شكلهم ولحاهم الطويله تخبرك بانهم من"كانوا مع الوطن واليوم ضده"..فبكت قلوبنا دم بصمت, على بلادنا التي ترزح تحت ظلم ابنائها وعلى عجز التواقين للحرية والنصر..
وفي تلك اللحظة,وانا اقف امام محطة بهلول ,
والانوار تضرب على الوجوه التعبة والقسمات التي تنتظر حكم الاغلاق والاعدام..
إمتزجت الروح بجميع الأصوات والرؤى ,
وتعلقت العيون بأياد الفقراء تشدها للغد ولنهار آخر ينبأ بالبقاء..
ولكن ....
رحلة العودة الى الوطن لم تكتمل بعد,,
واللذة لم تنطفئ في القلب,حتى هذه اللحظة..
حتى المستحيل يومها,
أضحى محض أكذوبة مهملة ومجموعة خرافات تفتقر للصدق..
فها انا امامكم عراقية في غزة كنت..
لم تمنعني رماح الأمطار ,ولا ارصفة تضج بالأقدام ,
من العبور الى معبودتي فلسطين..
بل كانت تلك اللحظة ميداني الذي علي ان انتزع النصر من عيون النار
والقيها قبس يضئ ليل الفقراء العطشى للغد والحرية والوطن..
ها انا ذا,عاشقة تعمدت من هواء فلسطين,وبجميل نهارات غزة بروزت ذاكرتي وحياتي...
فهيا أيها الواقفون عند عتبات الإنتظار,
قبلوا هذه الاقدام فقد وطأت ارض الاحلام..
ويا غزة
يا كل فلسطين
..لنا عودة..
"فمن يمسك بجمر عشقك لايمكن له سوى الارتواء من احضان قربك"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق