الأربعاء، فبراير 27، 2008

صباحكم أجمل \ ذاكرة الهوى والانتظار


زياد جيوسي

شتاء رام الله 2008
"بعدستي الشخصية"


صباحك أجمل يا رام الله بعد أيام جميلة من المطر، صباحك أجمل وأنت تفتحين ذراعيك للربيع القادم، وأنا انظر في تجوالي اليومي بشائر الربيع والأزهار التي بدأت تتفتح والمساحات المكسوة بالعشب الأخضر الجميل، مشاعر مختلفة تجول في روحي وأنا أجول بين الدروب وجمالها، أقف في أكثر من نقطة تطل على الغرب فأرى البحر حين يصفو الجو، وأملأ صدري من نسائم تهب مع الريح الغربية معبقة ببحر يافا وحيفا وعكا، فأهمس لروحي، لقد طال البعد يا وطناً يسكن منا الروح والنفس.
بعد انتظار طويل قارب الأحد عشر عاماً من تاريخ عودتي للوطن، وبعد رفض أمني متكرر من سلطات الاحتلال، نلت الموافقة أخيراً على بطاقة الهوية الفلسطينية، ومنذ يوم الخميس الماضي بدأت نقطة تحول كبيرة في حياتي، بدأت في إجراءات استخراج بطاقة الهوية، تلقيت المئات من الاتصالات الهاتفية والرسائل عبر الشبكة العنكبوتية تهنئني، تلقيت العشرات من الزوار لصومعتي مهنئين، حتى أن نظام حياتي المعتاد تأثر بالكامل، لكني ما زلت أعيش تحت تأثير التناقض في المشاعر، وهذا يذكرني كيف حين نلت حريتي بعد خمسة سنوات اعتقال، واجهت مشكلة في التعايش مع جو الحرية، وبقيت فترة ما أن تغيب الشمس وأنا جالس في حديقة بيت أهلي أو في الشرفة، إلا ووجدت نفسي أدخل البيت فوراً، وكأنه موعد دخول الغرف في المعتقل، ولم أستطع أن أستوعب بسهولة البقاء لوقت طويل في استقبال وتوديع المئات من المهنئين ، مما سبب لي بفترتها نوبات من الصداع المزعج، وها أنا تنتابني نفس المشاعر بعد إحساسي أنني وبعد أن أضع البطاقة في جيبي، ربما يمكنني أن أتنقل بين المناطق المختلفة وأن أسافر أيضا بحرية، فيتغير نظام حياة استمر كل هذه السنوات.
والحقيقة أن الحصول على الهوية الفلسطينية كان هدف أصر عليه، وإن كانت البطاقة لا تغير في انتمائي شيئاً، فالوطن يسكن مني الروح، فمنذ عدت للوطن ودخلت بوابتة ، دأب الاحتلال على رفض الموافقة على الرقم الوطني وعلى لم الشمل وقام بسحب إقامتي وعدم تجديدها، حتى وصل هذا الرفض الأمني إلى ستة عشر مرة، ويمكنكم أن تقدروا كيف يمكن للمرء أن يبقى أسير مدينة لا يستطيع مغادرتها إلى أقرب قرية إلا بترتيبات وإجراءات عديدة، كيف يحرم من أسرته وأهله الذين يعيشون في الخارج، كيف يكون على أعصابه حين تدخل دوريات الخفافيش المدينة، وكيف يكون معرضا للاعتقال والتسفير في كل لحظة، رفضت المغادرة وأن أكون مع أسرتي، رفضت ذلك وقلت: أنا ابن هذا الوطن ولن أغادره، فأنا كالوطن سنديان ضارب الجذور فيه، ووجودي هو الشرعي وليس وجود الاحتلال، لذا سأبقى وأترنم بالأغنية القائلة: صامدون هنا صامدون هنا خلف هذا الحصار الرهيب، صمدت وتحملت حتى أن ابنتي الوحيدة تزوجت في الشتات ولم أحضر زفافها، والدتي منذ فترة بالمستشفى ولا أقدر أن أكون بجانبها، لكنه الوطن أغلى من الابن ومن الأم ومن الروح، كثيرون تساءلوا لما تبقى وبإمكانك أن تذهب لأسرتك وتعيش مع أسرتك وأهلك.. كنت أنظر لهم مستغرباً هذا الطرح وأقول لهم: صراعنا مع الاحتلال صراع وجود وإرادة.. فلا بد أن ينتصر الوجود في النهاية وتنتصر الإرادة.. فلا يجوز أبدا بعد هذه المسيرة الطويلة أن أحني هامتي، ولا يجوز أن أكتب عن الصمود والوطن وأخالف قناعتي بما أكتب.. أيها الأحبة جميعا..
إنها الإرادة وانه الوطن ولكل من عبروا عن فرحتهم بحصولي على بطاقة الهوية باقات من ياسمين رام الله وحبق الناصرة.. معكـم أبقى ومع صباحات الوطن ودوماً سأقول لكم.. صباحكم أجمل ولنحلم بيوم تمنح الهوية فيه لكل فلسطيني من خلال سلطة وطنية فلسطينية حرة في وطن حر وليس بموافقة الاحتلال، وللابنة جدل التي كتبت نصاً جميلاً تحت عنوان: صباحكم أجمل \هوية.. هوية، وقالت فيه من ضمن ما قالت:
" إلى الأستاذ زياد جيوسي أباً وصديقاً...وجزءً من سماء الوطن.. أردت أن استعير كلماتك فقط فاستعرت ذكرياتك وهواجسك وهمومك، أردت أن أصمت طويلاً وأن أكف عن ثرثرتي، ولكن ماذا أفعل للورق الأبيض الذي يحاصرني وينتظر منحه بعض الروح، يا صديقي، أعتقد أنك قريبا ستسافر إلى عمان، ستعبر الجسر مع العابرين، وترى حدود الدولة التي ما كانت، وربما ستشعر بالحزن عندما يبدأ القتلة بالتلصص على أشياءك الحميمة، وتكتب من هناك شيئاً من الفرح الممزوج بحزن الابتعاد عن رام الله ولقاء الأهل، وتشتاق لتفاصيل الحياة اليومية هنا، وأنا سأشتاقك، وأكف عن حساب احتمال لقاءك صدفة في الصباح، ولكني أعلم أنك ستعود وتقضي صيفا مفعماً بالحيوية في رام الله، أردت أن أقول لك مبروك الهوية ولكل منا طريقته في التهنئة..."، أقول: يا جدل هي رام الله كانت وستبقى.
هي رام الله العشق الأول والأخير، لا أستطيع أن أتخيل وجودي خارجها بسهولة ولو بزيارة، وحين اتصلت بي الأخت جانيت ميخائيل رئيس البلدية مباركة لي قالت: نبارك لك لكننا لن نسمح لك أن تغيب عن رام الله، فقلت لها: وهل عن رام الله من بديل؟ ما الحب إلا للحبيب الأول.. فمن بين الأربعة مدن التي سكنتني من بين عشرات المدن التي عرفتها، كانت رام الله وعمان هي المتميزة والتي أحملها معي أينما كنت وذهبت، بحيث أن المدينتين تتمازجان في روحي بطريقة غريبة.
أقف لنافذتي في هذا الصباح المبكر والبارد بعد جولة قصيرة في المدينة، أقرأ في ديوان شعر للصديقة الشاعرة الرقيقة إيمان عرابي، أقرأ قصيدة الغريب بترنم ومتعة، ورغم قراءتي الديوان مرات عدة منذ أن وصلني منذ عدة أيام مزينا بإهداء بخطها الناعم ، ورغم قراءتي للقصائد العديد من المرات قبل أن تجمع بديوان أنيق، وكان لي مع بعض القصائد فيه قراءات متعددة، ومع باقي القصائد تعليقات عبر الشبكة العنكبوتية، إلا أني كلما قرأت فيه مجددا أجد فيه شيئاً جديداً آخر، فأعود لأوراقي التي خططت فيها مشروع قراءة في الديوان وأجري تعديلا من جديد.
أمتع روحي بموسيقى الحمامات وهديلها في زيارتها الصباحية لنافذتي، وتعود بي الذاكرة لحديث الطفولة في هذه المدينة قبل أن نغادرها على اثر هزيمة حزيران لعام 1967، فأستذكر كيف كانت وكيف أصبحت، حتى أني حين عدت إليها وبرفقة شقيقي جهاد، أتينا من نابلس وأوقفنا سيارته بجوار البيت الذي كنا نسكنه في سطح مرحبا، وسرنا على الأقدام من هناك كما كنا نفعل صغاراً، فجلنا حي الشَرفة مستذكرين كل بيت من البيوت القديمة التي كانت، وكل ذكريات طفولتنا في الشوارع التي نسير، ومارسنا طقوس كنا نمارسها أطفالاً، فأكلنا شطائر الفلافل من مطعم عبدو في شارع القدس، مستذكرين كيف كانت الشرطة تضطر لوضع شرطي ينظم الدور ويمنع إغلاق الطريق من المنتظرين أن يشتروا بعض من أقراص الفلافل، وسرنا في شارع الإرسال مستذكرين كيف كانت الأشجار تتشابك بين الرصيفين، وكيف أصبح الشارع يشكو قلة الشجر بعد أن نمت هذه البنايات الضخمة كالفطر الأسمنتي، وسرنا في شارع ركب بعد أن عبرنا ما كان يعرف بدوار المنارة والتي هدمها الاحتلال، وأعيد بنائها من جديد في عهد السلطة الفلسطينية، وإن كانت تماثيل أسودها الأصلية قد سرق بعض منها الاحتلال، ولم ننسى أن ندخل محل البوظة الذي منح الشارع اسمه، لنتناول أطباق منها مستعيدين مرور ما يزيد عن ثلاثين عاما بين الجلستين، وأكملنا المسير حتى قلب بيتونيا مارين بالمدرسة وبيتنا الذي سكناه هناك، عائدين لرام الله مستذكرين كل بيت وكل شجرة عرفناها أطفالا، متحدثين عن كثير من الطرائف التي جرت معنا، فجهاد يمتاز بذاكرة ممتازة لتذكر هذه الطرائف وإضفاء جو من المرح بالإضافات والزيادة عليها حتى يكاد يثيرني أحياناً، جلت وإياه كثيرا في ذلك اليوم وكأننا كنا نريد أن نختزل غياب ثلاثون عاما في يوم واحد، وكان قد تميز عني أنه تمكن من زيارتها قبلي فهو ممن عادوا بالدفعة الأولى للعسكريين والضباط بعد توقيع اتفاق أوسلو، ولم نترك مكانا له ارتباط بذاكرة الطفولة إلا وزرناه، فوقفنا أمام مبنى سينما الجميل الذي كان مغلقا بعد تحوله لمسرح السراج والذي تحول لاحقاً أثناء إقامتي برام الله إلى مسرح القصبة، ووقفنا أمام مبنى سينما دنيا الذي هدم لاحقا وينشئ الآن مكانه مبنى تجاري يحمل نفس الاسم، وأمام مبنى سينما الوليد المغلق حاليا بانتظار هدمه وتحويله لمجمع تجاري آخر، وأمام ما كان يعرف بمطعم نعوم وأغلق منذ زمن، والبردوني الذي ارتبط اسمه بتاريخ رام الله وهدم من شهور ليتحول أيضا لمشروع مبنى تجاري آخر، وفي دوار المغتربين "الساعة" والذي ما زال يا بلدية رام الله بدون ساعة رغم كل الوعود، وإن كان لمتنـزه بلدية رام الله وقفة خاصة ففيه ذكريات طفولة مشتركة كثيرة، فهذه هي رام الله الجمال والشجر والحجر التي كانت في الذاكرة ولم تزل تسكن الروح رغم كل المتغيرات فيها، فكيف يمكن أن تسهل مغادرتها والغياب عنها ولو لفترات قصيرة.
هي رام الله ببردها ودفئها وأمسياتها الثقافية والفنية، فمن معرض بالأمس في المركز الثقافي الفرنسي الألماني للفنان شريف سمحان المحاصر في غزة، والذي أعادتني لوحاته وصوره الفوتوغرافية إلى ذاكرة المخيم، إلى أمسية موسيقية في قاعة السكاكيني مهداة من أصدقاء المرحوم الشاب وجد زعرور لروحه، وجد الذي رحل وترك في الروح غصة وفي النفس وجدا، أمسية جددت الدمع في المآقي والحزن في النفوس عليه، فقد كان وجد الغائب الحاضر كما ستبقى ذكراه في نفوس كل من عرفه، إلى محاضرة في مكتبة بلدية رام الله عن مذكرات سالم الزعرور ومدينة رام الله بدعوة من نادي القراءة في بلدية البيرة، وتقديم من الباحث سميح حمودة، أضاءت لنا عن نظام الحياة في رام الله بفترة الثلاثينات من القرن الماضي، من خلال مذكرات غير منشورة، إضافة إلى العديد من نشاطات لم أتمكن من حضورها لسبب وآخر.
صباح آخر يا رام الله ويا حروفي الخمسة التي بدأت ساعة اللقاء تقترب بعد طول غياب، صباح آخر يا طيفي الحلو الشقي أنت البعيد القريب، وحلم لقاء يقترب أكثر وأكثر، فنجان قهوتنا الصباحي الواحد ولفافة تبغنا ورام الله وشدو فيروزكما اعتدنا تشدو لنا ككل صباح:
"يا طير يا طاير على أطراف ألدني لو فيك تحكي للحبايب شو بني، روح اسألهن علِي وليفه بيسمعوا ومجروح بجروح الهوى شو بينفعه، موجوع ما بيقول عا اللي بيوجعه وبتعن عا باله ليالي الولدنه، يا طير وآخد معك لون الشجر، ما عاد في إلا النطرة والضجر، بنطر في عين الشمس على برد الحجر، وحياة ريشاتك وأيامي سوا وحياة زهر الشوك وهبوب الهوا، كنك لعندهن رايح وجن الهوا خدني ولو شي دقيقة وردني".
صباحكم أجمل.
رام الله المحتلة 27\2\2008

http://ziadjayyosi1955.maktoobblog.com

ليست هناك تعليقات: