سامي العامري
حديثٌ مع ربَّة الشفاء
شجرةُ نارنج ٍ
تتسلَّقُ جذعَها أوراقُ الخريف حنيناً أخضر
ويداً بيدٍ تتحلّقُ حولها العصافير!
وخيولٌ بِشَعرٍ رقراقٍ
وانا أکتبُ أغنيةً
او أحتطبُ أفياءاً , أنثرُها
وفوقي يمامٌ دائرُ الأجنحةِ ,
عيونُهُ على المراسي , وماذا ؟
إنهُ يسكبُ ظمأَهُ عليها أكواباً مترعةً
للقاءٍ لا يؤجَّل
والآن أسأل:
کيف يتسنّی لكَ التسلُّلُ
الی دمي بعدُ أيها الشتاء
وقد أصبح لي من العمر
ثلاثة ٌوأربعون مِرجَل !؟
***
كان هذا بعضَ ما أحبَّ قلمي أن يسجعَهُ قبل سنواتٍ , إنه حلمٌ او كأني وشَمْتُ به مَسامَّ حلمٍ
ولكني اليوم لا أملك أيتها الربة الرؤوفة إلاَّ أنْ أحاول الكَرَّة بأنْ أمدَّ علامة الإستفهام خطّاً مستقيماً : هل يحمل الإنسان في داخله بذرة خلودٍ فأثقُ بها ام إنها محض مُحفِّزاتٍ , محض تلويناتٍ كزهريةٍ على مائدةِ طعام ؟
أجابتْ الربة معاتبةً : نفس الناعورة !؟ نفس الضفة بينما النهر يجري ! نفس السؤال .
قلتُ لها : نعم !
سألتْ وهي توميءُ من نافذة المستشفى الى غيوم زرقاء وأخرى غير زرقاء :
أفهمُ ما تعني ولكن ألَمْ يخبركَ سَفَرُ الغيوم بعدُ ؟
: كلا , إشارات في إشارات .
: هذه ليست إشاراتٍ , حاولْ أن تتفحَّصها بعنايةٍ او دعها للغد .
: ليس بمقدوي بعد أن حاولتُ فانا إذا نالتْ مني هذه الفكرةُ اليومَ فكثيراً ما كنتُ هكذا , واذا مرَّتْ أغلبُ الفصولِ دون أن أحتفي بها فذلك لأنَّ مفكِّرتي تحمل تواريخ الكواكب البعيدة .
فقالت الربَّة متهللةً : قد ترى للغد كواكبَ هو الآخر , كواكب مؤتلقة يصنعها أطفالٌ كبارٌ هُم فنانون حميميون لتدور ضاحكةً سكرى وطبعُ السكران أنْ يمنح كلَّ ما يملك ,
هل تتذكَّرُ فراغَ جيوبكَ في الصباحات حين تصحو ؟!
وكم كنتَ تناديني فأجيب ؟
قلتُ : نعم , ولكني أتمنّى النسيان من الأعماق , أتمنّى لساعتي ألاّ تتذكَّرَ بندولاً عتيقاً !
فَرَدَّتْ الربَّة : ليس كلُّ ماضٍ ( عتيقاً ) ففي الماضي ما هو جديرٌ بالمعانقة دوماً وهناك ما يستوجب النبذ .
قلتُ : إنك تذكِّرينني بماضٍ كنتُ أحنُّ فيه الى ماضٍ آخر !
اليَّ بما مضى او فاتْ
انا المعدودُ للملهاةْ !
رَبابُ الحائرين أنا
وما بَرِحَتْ مَداراتي سِجالاً
يا سؤالاً كالمَباخرِ إِذْ تَدورْ
أَجِبْني بادئاً
مَن يدهسُ الأعشابَ من بَعدي
بِخُطْواتِ النهورْ !؟
***
ولكن ما تقولينهُ صحيحٌ تماماً هناك ما يستوجب النبذ والنسيان
ومنه أنني أرسلتُ هذه الكلمات وهي جزء من قصيدة الى عدد من المجلات في المغترب إلاّ أنَّ شخص الشاعر- الكاتب كان أهمَّ من نَصِّهِ وأوَّل بندٍ هو الصداقة زائداً ( مُستحسَناتٍ ) أخرى كالإنتماء الى نفس المدينة وأحياناً الى نفس الجيل وياحبذا لو كنتَ من نفس البُرج او فصيلة الدم ! الخ ...
سألتْ الربة : أوَتشغلُك هذه التُرَّهات ؟
قلتُ : كلا ولكني ذكرتُ لك ذلك لأنَّ قصيدتي هذه هي آخر عهدي بتلك الصحافة الشقية .
كنتُ أردِّد بيتاً يطلُّ كرؤيا او كأرجٍ غريبٍ من واحة الأمس حيث يصدق المنجمون وإنْ كذبوا :
يا رُبَّ مكنونِ علمٍ لو أبوحُ بهِ
لقيلَ لي انتَ مِمَّن يعبدُ الوَثَنا .
بل كثيراً ما دوَّنتُهُ في دفاتري غير أنني اكتشفتُ أنْ ليس لديَّ مكنونُ علمٍ وإنما هي انفعالاتٌ لا تلبث أن تقودني كالتائه ولكن الى متاهٍ آخر هو القصيدة , الى ساعاتِ تأمُّلٍ مُستثناةٍ من تيار الزمن او هي الزمن الآخر المتدفِّق دوماً والذي لا يمكن الإبحارُ مع أشرعتهِ إلاّ هذه الساعاتِ المعدودةَ في اليوم الواحد غير أنها لعظمتها تبدو وكأنها العمر .
أية خسارة !
علَّقتْ الربة : ليست في الأمر خسارة فهذه بالإمكان تجديدها دائماً إنما الخسارة الكبيرة بل
والحماقةُ أن تعتقد أنك كالساحر , إشارة ويأتيك كلُّ شيءٍ على طبقٍ كِسْرويٍّ !
هنا سألتُ عن مناسبة هذا الكلام فأجابت :
أقول لك شيئاً ,
يبدو أنك كالمتفلسف رغم كلِّ نفيكَ , والفيلسوف الإجتماعي هو ذلك المرء الذي يعطي المجتمع هذه الجهدَ من التفكير بينما لا أحد فيه مهتمٌّ به !
قلتُ : كان قلقي ذهنياً ولكنْ ...
سألتُ الربة : ولكن ؟
أجبتُ : ولكن أخشى أن أقول كنتُ ومازلتُ فريسة هذا الذهن !
قالت : بل انت فريستُهُ التي ما زالت تئنُّ , إنك تجعله كالرمال المتحرِّكة وأكثر من هذا فإنك تجعلهُ على نقيض ما تفكر به , تجعلهُ كالمجتمع لا يتغيِّر مضموناً والمجتمع حالةٌ خالدة او هو أشبهُ بالمحنة فإنْ كنتَ فيها فلا يعني أنك معها .
قلتُ : سأفكِّرُ بذلك , سأفكِّرُ بذلك , وأعتقد أنَّ كلَّ هذا راجعٌ الى إنهاكٍ جسدي .
حينذاك تدخَّل رجلٌ وهو من قُدامى المرضى المقيمين هنا فسألني باهتمامٍ : هل تُحدِّثُ أحداً ؟
أجبتُ : كلا وإنما كنتُ أردِّدُ شيئاً كالقصيدة .
قال : آهٍ , انا أيضاً من مُحبيْ الأدب وعندي قصةٌ بدأتها ولم أكملها , إنها تتحدَّث عن إنسانٍ تمنَّى كثيراً لو أنه وحيدٌ على سطح هذه الأرض ولو لمدة يومٍ واحد , ساعةٍ واحدة ليرى هل يخفُّ وزنُ الأرض فعلاً حين يكون الوحيدَ على سطحها ؟ واذا خفَّ وزنُها فهل ستجذبُها الشمسُ اليها فتبتلعُها ؟
ولكنه استدرك قائلاً : لا , فهذه الكائناتُ التي تُسَمِّي نفسها بَشَراً هي منذ البدايةِ لا وزنَ لها فعلامَ التمنّي ؟!!!
سألتْ الرَّبة : مع مَن تتحدَّث ؟
أجبتُ وقد استعدتُ انتباهي : لا أحد , لا أحد , مجرد فكرة طرأتْ او قصة او هلوسة .
قالتْ وكأنها تُحَذِّرُ : كلُّ كائنٍ إجتماعيٍّ غافلٌ ولأنه كذلك فهو ضحية او سَمِّهِ شهيداً ولا تخَفْ !
أمّا اذا كنتَ تنحاز الى الفرد فلا ينفع أنْ تقنط .
قلتُ : نعم الفرد , الفرد الذي اذا غادَرَنا غادَرَنا ونحن نرى الأشياء ناطقةً بلغةٍ أخرى :
الغايةُ أنْ تصمتَ
فالقلبُ هنا يزداد نقاءْ !
أنْ تتوقَّفَ انتَ للحظاتٍ
وتُشيحَ بأوجهها عنك الأشياءْ
فهناك تُحدّثُ عنكَ الوديانْ
فاذا ما كنتَ الغافلَ عنهُ
فاجأَكَ بطرفٍ ولسانْ
ما هذا شأنُ العاجز
لكنَّ المعنى حتى في حضن الديمومة
مسدولٌ ككيانْ !
***
قالتْ الربة : مسدولٌ ولكنَّ جوهرَه يأتيك دائماً حينما لا تتعمَّدُهُ !
------------------------
(*) نصٌّ من كتاب يجمع بين القصِّ والنثر الأدبي والشعر يحمل عنوان : حديث مع ربة الشفاء .
----
كولونيا
alamiri84@yahoo.de
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق