السبت، فبراير 23، 2008

تمهَّلْ , هنا نفحة حُب


سامي العامري
-------
حديثٌ مع ربَّة الشفاء
-------

مثلَ خيوطِ بَكرة الخياطةِ
تنفرطُ الأعصاب في النهارْ
ويقضمُ الظلامُ زهرةَ الجُلَّنار !
-------------
ما خطبُك اليوم أيها العليل والحائر أبداً ! ؟ سألتْ الربة .
قلتُ وانا أستقبل ضوءها وعبيرها من نافذة الصباح :
اليوم عطلة وهذا يعني أنَّ الأطباء أقلُّ او في الحقيقة لا يتولّى شؤونَ هذا القِسم في أيام العُطل إلاّ طبيب واحد يأتي ظهراً , ولا أتحدث عن حاجتي له ولكن هذا القسم يحوي مرضى من طبقات وألوان مختلفة بدءاً من الغني صاحب المؤسسة الى الفقير المُشرد ومن الأستاذ الى الطالب ومن مدمن الخمر الى مدمن المخدِّر ومن إبن البلد الى الأجنبي وهذا بقدر ما هو مثير بقدر ما هو مُتعِب أحياناً فهذه الفتاة التي وصلتْ البارحة ملأت أدمغة النزلاء صراخاً : لقد اغتصبَني , الخنزير ! ... ولم تترك أحداً إلاّ وحكت له كاملَ قصتها وأخبرني أحدُهم أنها أيقظته من النوم لتسرد له حكايتها ! وكم أستمع اليها الباقون وعبِّروا لها عن تفهمهم وغضبهم ولكن هل سكتت ؟ وحين جاء دوري لتحكي لي عبَّرتُ لها عن أسفي وأصغيتُ وأصغيتُ ! وذلك زميلي في الغرفة , قبل أن تحكي له كان عارفاً بتفاصيل قصتها ولمّا بدأت تحكي له أكملَ لها هو حكايتها !
وبدأتْ الآن تسبُّ القِسْمَ والممرضات لعدم وجود طبيب !
إنها مسكينة ومشوَّشة عقلياً .
سألتْ الربة : إنها على أية حالٍ سيُنظَر في أمرها ولكن انت , ما الذي يجعلك تتذمَّر ؟
قلتُ : إنَّ رجلاً مثلي مِهما حاول , لا يستطيع إلاّ أن يعقد مقارنة . إنَّ هذه الفتاة اذا صحَّتْ حالتُها ففي سلوك مَن اغتصبها حِطَّةٌ وعُقَد وقد تكون هناك عوامل أخرى وراء حالة هذه الفتاة لكن كم هو ملفتٌ للنظر أنَّ قيمتها كإنسانة لا تسقط في نظرهم بل هم صريحون رجالاً ونساءاً في هكذا قضية لأنهم قبل هذا صريحون في هذه القضية الملِحَّة , قضية الحب , الجنس وعندما يتحدَّثون عنه فهم يتحدَّثون عنه بتلقائية كما يتحدَّثون عن الطعام وأكثر من هذا إنهم يسمَّون الأعضاء الجنسية بأسمائها !
بينما عندنا ...!
قالت الربة : حول النقطة الأخيرة – الأسماء - فمع أنها تبدو شكلية إلاّ أنه يمكن تخيُّلُ الكثير من الفظائع عندكم إستناداً اليها , المْ أخبرك مرةً بأنك مِهما امتلأ حوضُ تفكيرك بأسئلة ذات ملامح كونية او مصيرية تبقى تغرف من محيطك ؟ وهذا ليس سيئاً ما دام أنه لم يصل بك الى الغثيان .
عجَّلتُ بالقول : ولكنه يوشك أن يصبح هكذا !


حَدَّثْتُ بَنيْ جِلْدَتيَ
بِبَعضِ ذُنوبِ حياتي
فاستَعَرَتْ ضِدّي تُهَمٌ
وشناعةُ أقوالْ
وتَحَدَّثْتُ معَ الغَربيينَ
بكُلِّ ذُنوبِ حياتي
فَقالوا : روضةُ أطفالْ !
------

إنك قد تجدين العربي المسلم صادقاً في كلِّ شيءٍ إلاّ عندما يتعلَّقُ الأمر بحياته العاطفية وهو حتى لو تُركَ وحيداً فقد يكذب على نفسهِ !
إنه ليس إدماناً ولكنه تراكمٌ لا شعوريٌّ بدأ منذ أنْ حُجِرتْ المرأة العربية المسلمة بين عدد غير قليل من الحيطان , ملهاتُنا هي أننا في بلدنا نقرن الحُبَّ بالجنس وبما أن الجنس دنس من غير زواج فالحبُّ كذلك دنس ما لم يأتِ من رَحِم الزواج !
والرجل العربي بدلاً من أن يجلس ويحاول تحليل هذه العقدة – هذه الفانتازيا - بهدوءٍ , ترينه يقفزُ عليها ويصَوِّر لك نفسه فَطِناً وهذا تناقض صارخ وهذه العلة لا وجود لها إلاّ لدينا .
قالتْ الربة : مع ذلك فالفارق ليس فلكياً ولكن هناك نوع من البشر لا يُصرُّ على قول الحقيقة ويوصي الناس بها إلاّ لأنها تصبُّ في مصلحتهِ أمّا اذا كان قولها يضرُّ به فهنا السكوت من ذهب ! كما تقولون , وهذا رياء وعيب ولكنك تتحدَّث الآن عن مجتمعٍ مُعيَّن فأقول الإنسان بحسناتهِ وسيئاته في طريقه لأنْ يصبح واحداً .
قلتُ : نعم سيصبح واحداً ولكنني لن أشهد ذلك اليوم , لن أشهدَه فأستريح !
قطعتْ حديثنا ممرضةٌ شابة لطيفة وهي تصيح بي أنْ حلَّ وقت تناول الدواء اليومي والغَداء فشكرتها . لم ألحظ فائدةً من أدوية رتيبة وأمّا عن الأكل فليست لديَّ الآن شهية فاسترسلتُ :
إغفري لي فظاظتي أيتها الربة ولكن عندي سؤال : الديكم في عالمكم السماوي حُبٌّ كذلك يمكن تشبيههُ بما لدينا من حبٍّ , ولو تشبيهاً تقريبياً !؟
أجابت وهي تبتسم : بل نحن محض حُبٍّ , والذي تسميّه حُبَّاً لديكم مازال محاولات حبٍّ فالحبُّ الحقيقي لا تستطيعون احتمالهُ كبَشَرٍ لأنه يتطلَّب قلوباً كبيرة ولكنكم مُنحتُم نفحةً منه على قدر قلوبكم !
سألتُ ثانية بعد أن أحسستُ بالخجل من سؤالي السابق :
ولكن ألا يمكن أن تكون هناك استثناءات فإني أتأمُّل مثلاً وأقرأ شعراً واستمع الى موسيقى ...الخ من الفنون , فأجد فيها عمقاً عاطفياً يصل بي أحياناً الى الذهول او ما يطلق عليه البعضُ الإنخطاف ؟
أجابتْ : هذا ما عنيتُ تماماً فأنتم مُنِحتم نفحةً يسمو بها الفنان المرهف لذا فهو يُطلق على بعض تجلياتها انخطافاً بسببٍ من مرورها كالبرق في النفس بينما هي لدينا حضور دائم , أبدي ولكن لماذا سألتَ ؟
قلت : أردتُ أن أعرف ما اذا كان الحُب او هذه التي أطلقتِ انت عليها نفحة تكفي كتبريرٍ للحياة فإني أشك لأنني أرى بشراً لا يملكون هذه النفحة ولكنهم مع ذلك يَبدون قانعين وحتى سعداء !
قالتْ : أُنظرْ بعينٍ أخرى فهؤلاء ديناصورات ميؤوس منها وهذه الديناصورات ربما ضرورية لبناء العالم المادي !
قلتُ : ولكن لدينا في بلدنا نسبة كبيرة أيضاً من هذه الديناصورات ولكنها تُخرِّبُ ولا تبني !
قالتْ الربة بحزمٍ : لا تنسَ أنَّ هذه الديناصورات طالما خرَّبتْ هنا في الغرب , وما تراه عندهم من مدنيةٍ وتقدُّم لم يأتِ إلاّ على خلفية إحساسهم بعمق خرابهم !
وهذا بالمناسبة أحد أسباب اعتلالك , إنه هذا المضيق الذي أوصلتَ اليه روحك وعقلك ولكن لا بأس فهذه تجربة تُضاف , ورهانُك اليوم أنْ تعود كما كنت , إنسانَ أمل !
قلتُ : شكراً , ولكن هل يمكن أن يعود الرمادُ جمراً !؟
ثم أنشدتُ لها سطوراً كتبتُها في زمنٍ غير بعيد :

وخَبِرْتُ من بَعْدِ التباعُدِ والتَقاربْ ,
بَعْدِ احتداماتِ التجاربْ
أَنْ كُلُّ حِرْصِكَ كالطنينِ وأَنَّهُ
لا يُجْدي حَبْلُكَ يا مُحارِبْ
إلاّ على الغارِبْ !
----------
قالتْ الربة : قد يُجدي , وأجملُ ما في سُفُن الأمل أنها تحمل فناراتها معها !

-------
(*) نصٌّ من كتاب يجمع بين القصِّ والنثر الأدبي والشعر يحمل عنوان : حديث مع ربة الشفاء .

----
كولونيا
alamiri84@yahoo.de

ليست هناك تعليقات: