السبت، ديسمبر 16، 2006

الشحاذ بين الماضي و الحاضر


رشا ارنست

تأخرت كثيراً عن قراءة رواية لنجيب محفوظ إلا أنني أعطيت أملاً لنفسي إنني مازلت صغيرة ابلغ خمسة و عشون عاماً و مازال لديّ الوقت كي أقرأ له ليس رواية واحدة بل ربما كل رواياته .
و بدأت بقراءة رواية الشحاذ الذي كتبها عام 1965 م . و بالرغم إنني في بداية تعرفي على أسلوب نجيب محفوظ في كتابة الرواية إلا إنني اعرف أشياء لا بأس بها عن تفكيره و نظرته للحياة من خلال الأفلام التي كانت من رواياته . و الآن ها أنا اقترب منه أكثر لأعرف كيف كتب و ماذا كتب و كيف مضى أكثر من سبعين عاماً من عمره في الإنتاج و العمل .
الكل يعلم أن نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 1989 كان شخصية منتجة فوق العادة ، فأغلب رواياته تتطرق بنوع من الحنكة و الخبرة لتروي تاريخ عشرات السنين لمصر و المصريين بكل تفاصيل الحياة في تلك السنين . كيف كانوا يفكرون ، يعملون ، يعيشون في ظل احتلال خارجي و احتلال داخلي وسط ثورات لأغراض مختلفة تفجرها حماس الشباب من كل الثقافات عبر أكثر من جيل مع مجاراة التطور الحديث عبر تلك السنوات . ففي رواياته تستطيع أن تقرأ تاريخ مصر منذ الثلاثينيات و حتى التسعينيات . و ببساطة تعرف كل ما تريد في صورة تعكس المجتمع المصري في عمق أعماقه لأبعاد الحيـــاة الثلاثـــة الرئيسية السياســة و الدين و الجنس .
الشحاذ تلك الرواية التي بدأها نجيب بوصفه لأشياء و ليس أشخاص . وصفاً للوحة ضمت الكثير من المعاني . تلك اللوحة المعلقة في صالة الانتظار للعيادة الطبية التي قصدها بطل الرواية "عمر الحمزاوي" ، و التي رُسم عليها طفل يمتطي جواداً يتطلع إلى أفق بعيد بوجهه ابتسامة غير مكتملة و أفق ينطبق على الأرض . و بوصف نجيب لتلك اللوحة بأول صفحات الرواية تذهب معه إلى عالم مليء بالألغاز و الرموز لتكتشف عبر قراءتك للرواية إن مقصد روايته كلها جسدها نجيب في رموز اللوحة المدفونة بداخلها . فالبطل كما ستكتشفه داخل أحداث الرواية هو عينه الطفل المرسوم على اللوحة و الذي يتطلع إلى الأفق بشيء من الغموض و كأن ابتسامته الغامضة تحوي سؤالا يغوص في داخله و يتمنى أن يجد له إجابة في وقت ما . هذا السؤال الذي كلف بطل الرواية " عمر الحمزاوي " مسيرة تخبط و شقاء جعلته يفقد الكثير باحثاً عن إجابة لسؤاله الأهم و الأصعب من كل الأحداث و هو " ما هو معنى الحياة ؟ "
لم يكن " عمر الحمزواى " وحده بطل الراويـــة فقد كان معه صديقــان آخران هما " مصطفى المنياوي " المؤلف الذي هجر المســـــرح الجاد و اتجه للتأليـف الإذاعـــي و التليفزيوني لمجرد التسلية . و " عثمان خليل " الماركسي الذي أحب الإنسانيـــــــــة و وطنه إلى حد انه سُجن في العهد الملكي ضمن خلية سرية و لم يشي بأصدقائه .
حالة غريبة تسيطر على أبطال الرواية ربما لم نجدها بروايات كثيرة و إن وجدت ربما لن تكون بهذه التفاصيل و العمق الذي برواية نجيب محفـــــــوظ . فصراع البطل " عمر الحمزاوي " ليس صراعاً من اجل تحرير بلدٍ أو سلطة أو مال و لكن صراعه صراع للحقيقة المطلقة ، صراع داخله يأخذه حيثُ يشاء ، سيطر على ذاكرته و أفكاره إلى حد كاد يصل للجنون . هذا الصراع الذي طالما كان الهمُ الأكبر للعلماء و الفلاسفة نراه يُصارع " عمر " بعقله و قلبه و حتى سيطر على جسده فزاده شهوة لكل امرأة يراها ، فأصبح المحامي الثري و صاحب المبادئ و المناضل الهارب زيراً للنساء ، يعشق الخطيئة في حضن امرأة رغم أن الشهوة لم تكون دافعاً لها . و كما كتب محفوظ " نشوة الحب لا تدوم و نشوة الجنس أقصر من أن يكون لها اثر " .
نجد في الرواية أبعاد كثيرة تُراود الأبطال ، هذه الأبعـــاد هي الحياة و الديـن و الجنس ، و إن كان لبعد الحياة النصيب الأكبر حيث أن من هذا البعد يقدم محفوظ السياسة و العلم كمظهران أساسيان للحياة في عالمنا .
كانت أزمة "عمر الحمزاوي" في إحساسه المُلِحّ بالخمود وانعدام الرغبة في العمل والضيق بالدنيا والناس والأسرة.. وأسئلة متكررة عن معنى حياته نفسها .. كل هذه كانت نتائج لأزمة حقيقية استيقظ يوماً عليها تُسيطر عليه و هو فشله كشاعر منذ أكثر من عشرين عاماً منذ أن كان طالباً بالجامعة ، تلك هي أزمة " عمر " الحقيقية أكون أو لا أكون ، أراد أن يكون شاعراً ، هذه كانت رغبته الأولى و المُلحة و لم يُعوضها كل النجاح الذي حققه في مجال المحاماة أو على المستوى الشخصي مع زوجته و أبنائه . و يأتي التحول المفاجئ بحياته ليكره حياته و تتعدد علاقاته النسائية في محاولة للبحث عن جديد يكتشفه . غربة غريبة تملكته جعلته يترك كل شيء و كل من حوله ليذهب إلى المجهول و يجربه . فشعر " عمر الحمزاوي " بالاغتراب و ما يُصاحبه من يأس و قلق . فشعر في أعماق نفسه بحاجته المُلحة إلى الوجود الحق فتولد لديه هذا الإحساس بان هذا العالم ليس إلا جزء نعرفه و الباقي مستور عنـا . و كأنه اكتشف هذا السرّ و لكن يعلم في قرارة نفسه أننا نُشارك في هذا السرّ دون أن نمتلكه .
يذوب العلم في الحياة برواية نجيب محفوظ حيث نجد أزمة " مصطفى المنياوى " و تحوله من المسرح الجاد إلى التسلية في قوله : " العلم لم يُبق شيئًا للفن ، ستجد في العلم لذة الشعر ونشوة الدين وطموح الفلسفة.. صدقني لم يبق للفن إلا التسلية.. اقرأ أي كتاب في الفلك أو الطبيعة أو أي علم من العلوم وتذكر ما تشاء من المسرحيات أو دواوين الشعر ثم اختبِر بدقة إحساس الخجل الذي سيجتاحُك " .
و العلم أيضاً أصاب الدين و الأيمان فجعل " عمر الحمزاوي " يُحب الفتاة المسيحيـة " كاميليا فؤاد " و التي صارت " زينيب " بعد زواجهما رغم معارضة أسرتيهما .
و يظل الصراع الدائم بين العلم و الإيمان داخل الحياة التي فاجأت بطلنا " عمر الحمزاوي " أنها لا تساوي شيئاً و انه لم يجدها رغم كل نجاحاته و انجازاته فيها .
لقد جمع نجيب محفوظ بكل حوار بالرواية نصوصاً تبعث التساؤلات حول الوجود و الوجودية بكل مشاكلها التي تُعد مشاكل إنسانية تتناول مكامن الحياة من الحياة و الموت و العلم و الإيمان و حتى الألم و المعاناة ليس فقط المقصود بها المعاناة الجسدية و لكن النفسية التي تكون أصعب في مراحل كثيرة .
و يخرج البطل الثالث " عثمان خليل " من سجنه ، الذي ذاق مرارته وحده دون رفيقيه الذين فضلا أن يظلان داخل قوقعة تأنيب الضمير بعد هروبهما أثناء القبض عليه .
خرج " عثمان خليل " من سجنه المحدود ليجد صديقاه تائهان في سجن أكبر اسمه الحياة ، حيث أصبح " مصطفى المنياوي " مسليأ عبر وسائل الأعــــلام . و أصبح " عمر الحمزاوي " ضائعاً في وهماً أسماه مرض لا علاج له . مستسلماً في البحث عن ما فقده طوال سنين عمره بين زوجته و بناته بثينة و جميلة اللتان أصبحتا بنظر والدهما نتاج حياة لا فائدة منها .
و تجيء النهاية المفتوحـــة للقارئ ، فيتجاوز " عمر الحمزاوي " كل شهوة . يتجاوز تلك المرحلة الجنسية التي غلبته بوقت ما . ليذهب بوحدته إلى صحراء فارغة كنفسه . كأخر فرصة ليجد يقينه المفقود . و يتصل الماضي بالحاضر من جديد و يتزوج " عثمان خليل " بابنة " عمر الحمزاوي " بثينة و ها هي تحمل بأحشائها طفل من رجل لم يمهله الزمن أن يعرف كيف تكون الحياة .
بسط نجيب محفوظ كل الصراعات المتداخلة بعقل و قلب و جسد الإنسان و أيضاً الصراعات الخارجية من علم و سياسية و دين و التي تُحيطه و تكبله بشتى الطرق . محاولة منه لجعلنا نفكر كيف تكون الحياة و ما معناها ؟ في صراع يكون النتاج له هو الموت . الموت .. اليقين الوحيد الذي نعرفه و لم ندركه بعد " ألسنا نعيش حياتنـــــــا و نحن نعلم أن الله سيأخذها !! " ترددت كثيرا هذه العبارة في نص الرواية على لسان بطلها و منها انقلبت ذاته على كل أنماط و أبعاد الحياة لينهي الرواية بجملة عبرت عن رثاء لا حدود له عن جهد بحث الإنسان للوصول إلي الحقيقة المطلقة بمفرده .
" إن تكن تريدني حقًا فلِمَ هجرتني ؟ " ، ربما انتهى صراع بطل رواية محفوظ ، و لكن ببراعة كاتب باحث عن الحقيقة كنجيب يبدأ صراعنا نحن ، مَن قرأنا الرواية .

ليست هناك تعليقات: