نقلاً عن دروب
إلى آسية السخيري … إلى مليكة مزان…وإلى حميد في عيد ميد ميلاده …
اعتدت أن أشدّ جرس الباب بتلك العمارة الحمراء بشارع, آمالين بشفابينغ، ولم يكن ذلك فقط لمجرّد الرغبة في إكمال عقب السيجارة التي أشعلها حال خروجي من الباب الشرقيّ للمترو البرتقالي، قبل دخولي معرض الرسوم التكويريّة الشاذة، ذلك الذي يتوسّط عمارات الممرّ، ولكن أيضا لشعور ثقيل يركبني، بأنّ حميد ميتشكو الذي يسكن غرفة الغسيل بآخر طابق فيها، قد مات منذ يومين.
وبالرّغم من أنّ حميد لا يجيب ولا يفتح الباب إطلاقا لحدس يخونه دائما، بأنّ الطّارق مبعوث رسميّ من صاحب المبنى لإخراجه قسرا، فإنني كنت أعلم تماما، بأنّه هناك، وبأنّ أنفاسه المثقّلة بأوجاع الظهر وديون ليلة أمس تطنّ عند الزّاوية العليا للنّافذة الوحيدة والمغلقة دائما، محاولة الاختلاط بالهواء النّقيّ هناك، حيث لا يفصلها عن السماء الأولى غير بلّور يوغسلافي مصقول.
وحميد ميتشكو لا يموت. ذلك أنّه لا يستسلم لكلّ تلك الأمراض الغريبة التي تستوطنه، والتي اكتفت بالإعلان عن شراستها وجدّيتها، بتهدّل خطير في كتفيه، وعوج في تقاسيم وجهه وقدمه اليسرى. كنوع من المصالحة, لحفظ ماء الوجه، استغله هوّ بدوره للحصول على بطاقة عجز معتبرة، تمكّنه من ركوب وسائل النّقل العموميّ مجانا، ويبيعها كلّ ليلة في أحلامه الغريبة، لأصحاب السيّارات الفارهة، أولئك الذين يتذمّرون من خلوّ شارع شيلينغ وكلّ أرصفة منطقة شفابينغ من مأوى السيّارات. ولأوّل مرّة اعتراني شعور غامض، بأن شيئا ما حدث لحميد. ذلك أنّني رأيت علامات مبهمة، البارحة مثلا، رأيت يوشكا، كلب جارتنا العجوز مدام – زولا – وهو يقفز في الهواء محاولا نهش كائنات لم توجد في يوم من الأيّام. هناك أيضا خارقة أخرى حدثت ولم تثر انتباه أحد، تتمثّل في اختفاء مفاجئ لكلّ أشجار النواقيس من شارع – باخ-. اختفت هكذا بدون مقدّمات, بدون سبب مقنع, ودون أن تترك آثارا تؤكد تعرّضها للقلع أو دونه.
ثمّ تفاصيل صغيرة أخرى، أقلّها كلّ تلك الخرائط الرسميّة الضخمة، التي تتكدّس منذ أشهر عند أسوار المعاهد الثّانويّة، رغبة في التخلّص منها، بعد قرارات وزاريّة ثابتة، تؤكّد بما لا يدعو للشكّ أو المراجعة، بأن حدود العالم تغيّرت بشكل جذري، بحيث لا يمكن الاستمرار في خداع التلاميذ بتعديل حدود روسيا الجديدة فقط عن طريق إضافة تقاطعات ملتوية بقلم العناوين الأسود، حتى تبدو كآثار حلا زين غمست في الحبر، ولكن برسوم وقتيّة جديدة تأخذ في الاعتبار كلّ البلدان النابتة حديثا بالكتلة الشرقيّة سابقا. ثمّ بدرجة أقلّ منطقة الخليج التي يمكن تعديلها لاحقا بسهولة، بعد الإعلان الرسمي للنوايا الأمريكية الطيّبة والمصالح الآسيوأوروبيّة العادلة.
وحميد ميتشكو نفسه عمّق ظنونيّ, حين أعلن لأحد الأصدقاء منذ مدّة بأنّه يرغب في الزواج ثانيّة. وكأنّه تزوج قبل ذلك مرّة أولى، رغم الصور الكثيرة التي يصرّ على إخراجها من الغلاف البلاستيكي بجيب معطفه الدّاخلي الدّاكن والتي تشير بشكل حاسم ومؤثر بأنّه تزوّج فعلا خلال الخمس سنوات الأخيرة, وأنجب بنتا لم يشكّ أحد يوما أنّه يحبّها بطريقة بدأت مضحكة في البداية وانتهت منذ مدّة إلى حنين هادئ ومرّ. يشيح عنه متعمّدا وهو يغمس إبهامه في الكأس المنتصفة و يتعمّد هيئة مضحكة من العزم والجدّ في طرح مواضيع شخصيّة جدّا عبر حكايات الطلاق وطلب النفقة عن زواج دام ليلة وصباحين.
بحثت عنه كالمحموم, رغم أنّه يحدث فعلا أنني كنت لا ألتقية لسنوات طويلة، مكتفيا بتتبّع أخباره من بعيد، وشادا الجرس بين الحين والحين. ذهبت إلى مقهى- الأنسويفايتا- حيث اعتاد أن يطبخ أحيانا، متّفقا مع صاحب المقهى على مبلغ بسيط يضمن ليلة بدون ديون ثقيلة لا يسددها في كلّ الأحوال، مطالبا مسبقا بثمن الخضار واللّحم، وهو يضمر التحايل في تقدير تكاليف المشتريات الضروريّة. إنّهم يكسبون كثيرا, كان يردد بمرارة.
عرفت حميد ميتشكو منذ الأسبوع الأول ّلحلولي بهذا البلد. كنت ألبس معطفا بقبّعة مشدودة عند حواف الرّقبة, وأحفظ الكثير من القصائد الروسيّة والعربيّة. وكنت أكتشف طعم البيرة البيضاء بمتعة حقيقيّة, رغم أنّ جيبي كان دائما شبه فارغ إلاّ من وثائق وأرقام هاتف لأشخاص لم يتّسع الوقت لكتابة أسماء أصحابها, فكنت أحتفظ بالأرقام خوفا من أن يكون بينها رقما مهمّا, قد أحتاجه يوما ما. كنت يومها على موعد مع كاتب من مدينتي. وكان ذلك عند البار الخشبيّ الأسود بمقهى – التيركن هوف -. كنت أحدّث جليسي بحماسة, كعادتي حين دخل حميد ميتشكو. متدلّق بكتفه إلى الأمام, وهو يتلمّظ انكسار شفتيه, ناشرا في كلّ تضاريس وجهه مرارة مزمنة لا أمل في التخلّص منها في أيّ وقت من الأوقات. مرارة لازمة أبديّة, وشعرت يومها بأنني سأحبّ هذا المفلس أبدا. وذلك ما حدث. حيّاه جليسي ببرود وقدّمه لي وهو يهمّ بالذّهاب إلى المرحاض الخلفيّ.
قال: -” ميتشكو. دكتور ميتشكو. صديق تونسي طيّب, يسكن عند الشارع الخلفيّ. إنّه طبّاخ, درس بأسبانيا.قدمت يدي بحرارة لأحييه فتفرّس بدهشة في وجهي النحيل ثمّ طلب كأسا وهو يسوى وضع الكرسي المرتفع.
قبل أن أغادر المقهى, كنت أعرف عنه كلّ ما يمكن أن يُعرف. وكنت أقهقه كامل طريق العودة وأنا أتذكّر حكاية رسالته إلى الملكة آنا, حين كان طبّاخا بمدريد و كتب لها بأنّه لا ينكر إطلاقا بأنّه مهاجر فقير من تونس ولا يملك مليما ولكنّه إنسان حسّاس. وبأنّه أصيب في صميم قلبه بحبّها و سيكون أسعد مخلوق لو بادلته عواطفه الصادقة نحوها. وأنّها بالتأكيد ليست في حاجة لأموال أكثر, ولكنّها في حاجة إلى رجل فحل حسّاس يحميها ويدافع عنها. ثمّ أنّ ما ورثته من أمّها من أموال ومجوهرات سيكفيهما ما تبقّى من العمر وأكثر. ولم ينس طبعا أن يذكّرها بأنّ دماء العرب والأسبان اختلطتا بعمق أصيل وأبديّ, مستشهدا بقصر الحمراء. ومطلع قصيد قديم. مطلعه الماء والرّوض طيّب عطر…
كنت أحنّ للقائه, ولكنّ إفلاسه المزمن, وحالتي الماديّة المتورّمة و التي لم تتغيّر كثيرا منذ خمسة عشر سنة, جعلني أتجنّب لقاءه. والحقيقة أنّ حميد ميتشكو لا يطلب أموالا إطلاقا. كنت أعرف بأنّه يظلّ لأشهر مفلسا, لا يملك فلسا واحدا. يعيش على الخبز والماء وما يتبرّع به العابرون من سجائر أو بعض الكؤوس. ولكنّه أبدا لا يطلب أموالا من أحد. مكتفيا من العالم بمتابعة قطرات المطر وهي تسيل كالدّموع على بلّور زجاج النّافذة الخارجي المصقول. أو معدّلا للمرّة الألف وضع الكرسيّ المرتفع بطريقة لا تحيّر أوجاع كبده وظهره المعطوب.
آخر مرّة التقيت فيها بحميد ميتشكو كانت منذ شهرين. لم أعرفه في البداية. ليس فقط لأنّه كان أنيقا ويرتدي معطفا جديدا, ولكن لأنّه كان يعتمر قبّعة خوخيّة بشريط أزرق. كدت أتخطّاه يومها, حين ناداني وهو يجاهد لتسوية انحناء كتفه المتدلّق مصرّا على دعوتي لكأس بمقهى – الأنسويفايتا – وحدّثني بأنّه ربح مبلغا لا بأس به من الأموال لأنّه راهن منذ ثلاثة أيّام على نتيجة مباراة في كرة القدم. سألته, ومن أين له بقسطه من مبلغ الرّهان, فأجابني ببساطة بأنّه لم يكن يملك فلسا واحدا حين راهن مع أحد الزّبائن الأغنياء على نتيجة المباراة. قال لي بأنّ جليسه السّكران الغنيّ, تحدّى الجميع على المراهنة على مبلغ خمسمئة أورو, أنّ فريقه المفضّل سيسجّل ثلاثة أهداف. ولمّا سكت الجميع, ذلك أنّ لا أحد يحمل معه ذلك المبلغ, أجابه هوّ بأنّه يقبل التحدّي. كان الجميع يعرف تماما بأنّ ميتشكو لا يملك ثمن الكأس القادمة, لكنّهم احسوا بارتياح, مضمرين شماتة مسبقة لخسارة الزبون الغنيّ الأحمق في كلّ الأحوال, خاصة أنّه لم يطلب من حميد أن يريه مبلغ رهانه. والكلّ يعلم أنّه لن يدفع في كلّ الأحوال. كان يحدّثني وهو يسوّى انحراف قبّعتة التي بدت لي مناسبة له تماما رغم غرابتها. حدّثني كذلك وهو يتطاول زهوا بأنّه أرسل أموالا لابنته ياسمين هناك بتونس. مبرزا لي التواصيل.
كما أرسل لأمّها رسالة في ثلاثة سطور يعلمها بأنّ الفرج قريب وأنّ ألمانيا بلد رائع. والطقس جميل. و أنّه أرسل لها صورتين وهو يعتمر قبّعته الاسكتلندية الجديدة, ومعطفه الأزرق الدّاكن رغم أنّ الحرّ لا يطاق هذا الصيف. وكتب على الظرف عنوانه كاملا لأوّل مرّة بطريقة يمكن قراءتها بيسر مباعدا بين الحروف بشكل متعمّد بليغ الدّلالة. رغم أنّه يعرف بأنّ, مطلّقته بتونس لا تكتب ولن تردّ بأية حال من الأحوال.
كان قلبي يدقّ بشدّة. لذلك لم أقو على مغادرة الحيّ قبل شدّ الجرس مرّة أخرى. فعلت ذلك أكثر من عشر مرّات وقبل أن يصيبني اليأس سمعت صوته المكسور من خلال جهاز فتح الباب يسأل عن الطارق. أحسست بفرحة عارمة فألصقت فمي بالجهاز الأسود وصحت فيه: - إفتح لعنة اللّه عليك أيّها الثعلب العجوز.حين وصلت لاهثا لوكره بالطّابق الثّامن. غرفة الغسيل المفروشة. فتح لي الباب وهو يحاول عبثا إغلاق أزرار سرواله الفضفاض. ظللت واقفا لأننّي لم أجد مكانا يصلح للجلوس. أربعة أشبار هي المسافة التي تفصل الخزانة الوحيدة عن الفراش الواطئ والغائب تحت عشرات الأغراض الغريبة. كرّاسات لدراسة لغات أجنبيّة.عشرات من قطع الصّابون وعلب السردين وأكياس من الملح والبصل وفواتير وماعون طبخ وعلب فارغة من الورق المقوى… حذاء غير مستعمل. كتالوجات لملابس نسائيّة ورجاليّة من أرقى محلاّت الموضة.ووو…
استطعت بعد جهد إبعاد بعض الأغراض لأجد لي مكانا للجلوس. سألته عن سبب اختفائه فأشار لي بمتابعة مراسم زواج سموّ ألأمير الدانمركي الذي كان يعرض على شاشة التلفزيون. سألني إن كنت أعرف بأنّ فستان الزواج تكلّف مئة ألف أورو, وأنّه هديّة شخصيّة من والد العروس. وحين أجبته بأنني قرأت عن ذلك في الصحف, قال لي بأنّ هناك خلاف بين أم العروس وعمّة الأمير حول الكنيسة التي سيعقد بها عقد القران.
ثمّ راح يحدّثني عن تفاصيل من أسرار العروس لا يعرفها حتى الأمير العريس نفسه بالتّأكيد. أحسست أنّه لا يرغب في الحديث عن نفسه, فلم ألحّ في السؤال. وضعت له مبلغا من المال وبقية علبة سجائري, وقبل أن أخرج, سألته عن قبّعته الاسكتلندية ذلك أنّني لم أرها في الغرفة.
- إنّها لا تناسب جبيني , إنّها عريضة أكثر ممّا ينبغي.- ولكنّك كنت معتزّا بها, حتّى أنّك حدّثتني بأنّك تشعر بأنّك عجوز بائس يدونها؟- هل يمكنك أن يساعدني في إبعاد الخزانة قليلا عن الحائط. أريد طلاءه بعد أسبوعين؟ يجب أن أطلي الجدرانلأنني أحس ببؤس قاتل حين أفتح عينيّ كلّ صباح على هذا الّلون المتعفن. لقد اشتريت الطلاء الأبيض.
أجبته بالإيجاب دون المزيد من الإلحاح لمعرفة مصير قبّعته الاسكتلندية. أحسست أنّه لا يرغب في الحديث أكثر. علامة حميد ميتشكو, حين يتضايق من مواصلة حديث, أنّه كان يكوّر شفتيه ويميل برأسه يمينا, ثمّ ينفض عن فخذه غبارا لا يراه الآخرون.بعد أسبوعين, صباح سّبت. استيقظت باكرا وأنا أحس بثقل وكآبة لا تطاق. كدت أنسى معطفي وأنا أسارع بالخروج للذّهاب لوكر حميد ميتشكو. الباص ا لملعون تأخّر عشر دقائق كاملة. والسّماء ملبّدة بغيوم مكثّفة من الرّصاص والرّماد الدّاكن. شعرت بانقباض وقنوط. شيء ما حدث لحميد ؟ كنت أردد في سرّي.
وصلت إلى المبنى وأنا ألهث. شددت الجرس عشرات المرّات بدون جدوى. شددت جرسا آخر. شددت كلّ أجراس سكّان المبنى. ليستيقظ الجميع. أللعنة عليهم جميعا ينامون اللّيل والنّهار. فتح الباب عشرات المرّات, وكانت أصواتهم وهي تلعنني تصعد معي المد ارج الخشبيّة, أحدهم فتح بابه بالطّابق الخامس وظلّ ينتظرني وهو يهرش بطنه الضخمة نصف العاريّة فلمّا تخطيته بصق إلى الأرض وتلفّظ بكلمات نابيّة قبل أن يغلق الباب بعنف. وصلت غرفة ميتشكو بعد آخر درجة. لا أقوى حتّى على اللّهاث. قلبي يدق مثل مراوح الهواء وأنا أرى ظرفا ضخما محشورا عند شقّ الباب مغطيّا ثقب المفتاح. قرأت من بعيد حروف اسمي باللّغة الألمانيّة. ولمدّة دقائق بقيت ممسكا بالظرف وأنا أحسّ بثقل داكن يضغط بقوّة على صدري بقسوة لا تطاق.
لم أجد سوى صفحتين. مقاطع مبتورة وعناوين باللّغة الألمانيّة مثل الألغاز, قرأت…. الطوكوموكو نبتة خضراء لا تكاد تشبع من الأرض والماء, وثمرتها حمراء مستديرة ببزور صفراء….اعدم الدّغباجي, وهو مناضل من الجنوب التّونسي سنة 1922 بساحة القرية التي ولد بها…. صموائيل النّادل بمقهى الأنسويفايتا طيّب القلب وعظيم حقّا, يقرأ كثيرا, كما أنّني أشعر بسعادة كلّما رايته, رغم أنني أعتقد بأنّه لا يؤمن باللّه….لماذا يبتسم اللّيل بمكر فوق سطح الجيران؟…… أمراض أمي التي كانت تؤذيها, كانت في نفس الوقت ينابيع حيويّتها وسرّ تشبّثها بالحياة. كانت أوجاعها مصدر لا ينضب لحكايات الصّباح مع الجارات.عمّتي فاطمة كانت تردد علنا بأنّ أمي ثقيلة الروح ولا تفتح فمها إلا للتثاؤب ولكنّها أصبحت محبوبة بعد فشل جميع الأطباء في علاجها من الأمراض الغريبة التي تنهشها ليلا. والغريب أنّها أصبحت بعد مرضها الأخير تمتلك قدرة عجيبة على تفسير الأحلام. ومعالجة جميع الأمراض بزيت الزّيتون والعسل والثّوم المطحون.ثلاث كلمات أخرى لم أستطع قراءتها. كانت الكلمات مكتوبة بحروف كبيرة, كلّ ثلاث كلمات تملأ سطرا. ماذا يقصد هذا المجنون؟ هل فعلها؟قلّبت الصّفحة الثّانيّة. عنوان بارز يتوسّط أعلى الصّفحة ودوّن بحروف كبيرة جدّا موزّعة على سطرين. يبدو أن الصفحة الثّانية التي بدأت بقراءتها, هيّ في الأصل الصفحة الأولى.
كتب: مخطوطة لرواية عن قصّة حياتي بالتفصيل. وتحت العنوان تصدير كتب باللّون الأحمر يمثّل مقولة لأحد الكتّاب أو الفلاسفة المغمورين ربّما, مدوّنة باللّغة الفرنسيّة وبدون أخطاء, وترجمتها تقريبا: ( دخلت ولم أخرج بعد. فكيف يطالبونني بأن أصف لهم ما شاهدت ؟! ).
التقيت بحميد ميتشكو بعد ذلك بأسبوعين. وجدته هكذا جالسا بهدوء يقلّب صفحات إحدى المجلات المهتمّة بالجغرافيا الحديثة. لم استغرب طبعا أن أجده هناك, في وضعه ذاك. وتعمّدت أن لا أسأله عمّا حدث, كنت أعوّل على رضائه عن صمتي ليبدأ الحديث. ولكنّه ظلّ يشرب قهوته المرّة, يتلمّظها بهدوء ووقار متقاعد.سألته إن كان يريد أن أدعوه لشرب كأس من البيرّة البيضاء. أجابني بأنّه انقطع عن الشّرب منذ ثلاث أسابيع لأنّه كان محجوزا بالمستشفى الحكوميّ وبأنّه لم يخرج منه سوى منذ ثلاثة أيّام. لأنّه أجرى عمليّة جراحيّة لإستاصال الزّائدة الدوديّة. أنا الآن كامل. لا زوائد ولا نواقص قال وهو يتوكّأ على الكرسي استعدادا للنّهوض ومغادرة المقهى. قبل أن يتخطّاني قلت له بمكر بأنّني أحتفظ بمخطوط روايته عندي. أجابني بدون اكتراثقائلا : -” لقد غيّرت أسلوبي. أنا أكتب الآن روايات بوليسيّة عن آل غابون والمافيا فقط “.
وبالرّغم من أنّ حميد لا يجيب ولا يفتح الباب إطلاقا لحدس يخونه دائما، بأنّ الطّارق مبعوث رسميّ من صاحب المبنى لإخراجه قسرا، فإنني كنت أعلم تماما، بأنّه هناك، وبأنّ أنفاسه المثقّلة بأوجاع الظهر وديون ليلة أمس تطنّ عند الزّاوية العليا للنّافذة الوحيدة والمغلقة دائما، محاولة الاختلاط بالهواء النّقيّ هناك، حيث لا يفصلها عن السماء الأولى غير بلّور يوغسلافي مصقول.
وحميد ميتشكو لا يموت. ذلك أنّه لا يستسلم لكلّ تلك الأمراض الغريبة التي تستوطنه، والتي اكتفت بالإعلان عن شراستها وجدّيتها، بتهدّل خطير في كتفيه، وعوج في تقاسيم وجهه وقدمه اليسرى. كنوع من المصالحة, لحفظ ماء الوجه، استغله هوّ بدوره للحصول على بطاقة عجز معتبرة، تمكّنه من ركوب وسائل النّقل العموميّ مجانا، ويبيعها كلّ ليلة في أحلامه الغريبة، لأصحاب السيّارات الفارهة، أولئك الذين يتذمّرون من خلوّ شارع شيلينغ وكلّ أرصفة منطقة شفابينغ من مأوى السيّارات. ولأوّل مرّة اعتراني شعور غامض، بأن شيئا ما حدث لحميد. ذلك أنّني رأيت علامات مبهمة، البارحة مثلا، رأيت يوشكا، كلب جارتنا العجوز مدام – زولا – وهو يقفز في الهواء محاولا نهش كائنات لم توجد في يوم من الأيّام. هناك أيضا خارقة أخرى حدثت ولم تثر انتباه أحد، تتمثّل في اختفاء مفاجئ لكلّ أشجار النواقيس من شارع – باخ-. اختفت هكذا بدون مقدّمات, بدون سبب مقنع, ودون أن تترك آثارا تؤكد تعرّضها للقلع أو دونه.
ثمّ تفاصيل صغيرة أخرى، أقلّها كلّ تلك الخرائط الرسميّة الضخمة، التي تتكدّس منذ أشهر عند أسوار المعاهد الثّانويّة، رغبة في التخلّص منها، بعد قرارات وزاريّة ثابتة، تؤكّد بما لا يدعو للشكّ أو المراجعة، بأن حدود العالم تغيّرت بشكل جذري، بحيث لا يمكن الاستمرار في خداع التلاميذ بتعديل حدود روسيا الجديدة فقط عن طريق إضافة تقاطعات ملتوية بقلم العناوين الأسود، حتى تبدو كآثار حلا زين غمست في الحبر، ولكن برسوم وقتيّة جديدة تأخذ في الاعتبار كلّ البلدان النابتة حديثا بالكتلة الشرقيّة سابقا. ثمّ بدرجة أقلّ منطقة الخليج التي يمكن تعديلها لاحقا بسهولة، بعد الإعلان الرسمي للنوايا الأمريكية الطيّبة والمصالح الآسيوأوروبيّة العادلة.
وحميد ميتشكو نفسه عمّق ظنونيّ, حين أعلن لأحد الأصدقاء منذ مدّة بأنّه يرغب في الزواج ثانيّة. وكأنّه تزوج قبل ذلك مرّة أولى، رغم الصور الكثيرة التي يصرّ على إخراجها من الغلاف البلاستيكي بجيب معطفه الدّاخلي الدّاكن والتي تشير بشكل حاسم ومؤثر بأنّه تزوّج فعلا خلال الخمس سنوات الأخيرة, وأنجب بنتا لم يشكّ أحد يوما أنّه يحبّها بطريقة بدأت مضحكة في البداية وانتهت منذ مدّة إلى حنين هادئ ومرّ. يشيح عنه متعمّدا وهو يغمس إبهامه في الكأس المنتصفة و يتعمّد هيئة مضحكة من العزم والجدّ في طرح مواضيع شخصيّة جدّا عبر حكايات الطلاق وطلب النفقة عن زواج دام ليلة وصباحين.
بحثت عنه كالمحموم, رغم أنّه يحدث فعلا أنني كنت لا ألتقية لسنوات طويلة، مكتفيا بتتبّع أخباره من بعيد، وشادا الجرس بين الحين والحين. ذهبت إلى مقهى- الأنسويفايتا- حيث اعتاد أن يطبخ أحيانا، متّفقا مع صاحب المقهى على مبلغ بسيط يضمن ليلة بدون ديون ثقيلة لا يسددها في كلّ الأحوال، مطالبا مسبقا بثمن الخضار واللّحم، وهو يضمر التحايل في تقدير تكاليف المشتريات الضروريّة. إنّهم يكسبون كثيرا, كان يردد بمرارة.
عرفت حميد ميتشكو منذ الأسبوع الأول ّلحلولي بهذا البلد. كنت ألبس معطفا بقبّعة مشدودة عند حواف الرّقبة, وأحفظ الكثير من القصائد الروسيّة والعربيّة. وكنت أكتشف طعم البيرة البيضاء بمتعة حقيقيّة, رغم أنّ جيبي كان دائما شبه فارغ إلاّ من وثائق وأرقام هاتف لأشخاص لم يتّسع الوقت لكتابة أسماء أصحابها, فكنت أحتفظ بالأرقام خوفا من أن يكون بينها رقما مهمّا, قد أحتاجه يوما ما. كنت يومها على موعد مع كاتب من مدينتي. وكان ذلك عند البار الخشبيّ الأسود بمقهى – التيركن هوف -. كنت أحدّث جليسي بحماسة, كعادتي حين دخل حميد ميتشكو. متدلّق بكتفه إلى الأمام, وهو يتلمّظ انكسار شفتيه, ناشرا في كلّ تضاريس وجهه مرارة مزمنة لا أمل في التخلّص منها في أيّ وقت من الأوقات. مرارة لازمة أبديّة, وشعرت يومها بأنني سأحبّ هذا المفلس أبدا. وذلك ما حدث. حيّاه جليسي ببرود وقدّمه لي وهو يهمّ بالذّهاب إلى المرحاض الخلفيّ.
قال: -” ميتشكو. دكتور ميتشكو. صديق تونسي طيّب, يسكن عند الشارع الخلفيّ. إنّه طبّاخ, درس بأسبانيا.قدمت يدي بحرارة لأحييه فتفرّس بدهشة في وجهي النحيل ثمّ طلب كأسا وهو يسوى وضع الكرسي المرتفع.
قبل أن أغادر المقهى, كنت أعرف عنه كلّ ما يمكن أن يُعرف. وكنت أقهقه كامل طريق العودة وأنا أتذكّر حكاية رسالته إلى الملكة آنا, حين كان طبّاخا بمدريد و كتب لها بأنّه لا ينكر إطلاقا بأنّه مهاجر فقير من تونس ولا يملك مليما ولكنّه إنسان حسّاس. وبأنّه أصيب في صميم قلبه بحبّها و سيكون أسعد مخلوق لو بادلته عواطفه الصادقة نحوها. وأنّها بالتأكيد ليست في حاجة لأموال أكثر, ولكنّها في حاجة إلى رجل فحل حسّاس يحميها ويدافع عنها. ثمّ أنّ ما ورثته من أمّها من أموال ومجوهرات سيكفيهما ما تبقّى من العمر وأكثر. ولم ينس طبعا أن يذكّرها بأنّ دماء العرب والأسبان اختلطتا بعمق أصيل وأبديّ, مستشهدا بقصر الحمراء. ومطلع قصيد قديم. مطلعه الماء والرّوض طيّب عطر…
كنت أحنّ للقائه, ولكنّ إفلاسه المزمن, وحالتي الماديّة المتورّمة و التي لم تتغيّر كثيرا منذ خمسة عشر سنة, جعلني أتجنّب لقاءه. والحقيقة أنّ حميد ميتشكو لا يطلب أموالا إطلاقا. كنت أعرف بأنّه يظلّ لأشهر مفلسا, لا يملك فلسا واحدا. يعيش على الخبز والماء وما يتبرّع به العابرون من سجائر أو بعض الكؤوس. ولكنّه أبدا لا يطلب أموالا من أحد. مكتفيا من العالم بمتابعة قطرات المطر وهي تسيل كالدّموع على بلّور زجاج النّافذة الخارجي المصقول. أو معدّلا للمرّة الألف وضع الكرسيّ المرتفع بطريقة لا تحيّر أوجاع كبده وظهره المعطوب.
آخر مرّة التقيت فيها بحميد ميتشكو كانت منذ شهرين. لم أعرفه في البداية. ليس فقط لأنّه كان أنيقا ويرتدي معطفا جديدا, ولكن لأنّه كان يعتمر قبّعة خوخيّة بشريط أزرق. كدت أتخطّاه يومها, حين ناداني وهو يجاهد لتسوية انحناء كتفه المتدلّق مصرّا على دعوتي لكأس بمقهى – الأنسويفايتا – وحدّثني بأنّه ربح مبلغا لا بأس به من الأموال لأنّه راهن منذ ثلاثة أيّام على نتيجة مباراة في كرة القدم. سألته, ومن أين له بقسطه من مبلغ الرّهان, فأجابني ببساطة بأنّه لم يكن يملك فلسا واحدا حين راهن مع أحد الزّبائن الأغنياء على نتيجة المباراة. قال لي بأنّ جليسه السّكران الغنيّ, تحدّى الجميع على المراهنة على مبلغ خمسمئة أورو, أنّ فريقه المفضّل سيسجّل ثلاثة أهداف. ولمّا سكت الجميع, ذلك أنّ لا أحد يحمل معه ذلك المبلغ, أجابه هوّ بأنّه يقبل التحدّي. كان الجميع يعرف تماما بأنّ ميتشكو لا يملك ثمن الكأس القادمة, لكنّهم احسوا بارتياح, مضمرين شماتة مسبقة لخسارة الزبون الغنيّ الأحمق في كلّ الأحوال, خاصة أنّه لم يطلب من حميد أن يريه مبلغ رهانه. والكلّ يعلم أنّه لن يدفع في كلّ الأحوال. كان يحدّثني وهو يسوّى انحراف قبّعتة التي بدت لي مناسبة له تماما رغم غرابتها. حدّثني كذلك وهو يتطاول زهوا بأنّه أرسل أموالا لابنته ياسمين هناك بتونس. مبرزا لي التواصيل.
كما أرسل لأمّها رسالة في ثلاثة سطور يعلمها بأنّ الفرج قريب وأنّ ألمانيا بلد رائع. والطقس جميل. و أنّه أرسل لها صورتين وهو يعتمر قبّعته الاسكتلندية الجديدة, ومعطفه الأزرق الدّاكن رغم أنّ الحرّ لا يطاق هذا الصيف. وكتب على الظرف عنوانه كاملا لأوّل مرّة بطريقة يمكن قراءتها بيسر مباعدا بين الحروف بشكل متعمّد بليغ الدّلالة. رغم أنّه يعرف بأنّ, مطلّقته بتونس لا تكتب ولن تردّ بأية حال من الأحوال.
كان قلبي يدقّ بشدّة. لذلك لم أقو على مغادرة الحيّ قبل شدّ الجرس مرّة أخرى. فعلت ذلك أكثر من عشر مرّات وقبل أن يصيبني اليأس سمعت صوته المكسور من خلال جهاز فتح الباب يسأل عن الطارق. أحسست بفرحة عارمة فألصقت فمي بالجهاز الأسود وصحت فيه: - إفتح لعنة اللّه عليك أيّها الثعلب العجوز.حين وصلت لاهثا لوكره بالطّابق الثّامن. غرفة الغسيل المفروشة. فتح لي الباب وهو يحاول عبثا إغلاق أزرار سرواله الفضفاض. ظللت واقفا لأننّي لم أجد مكانا يصلح للجلوس. أربعة أشبار هي المسافة التي تفصل الخزانة الوحيدة عن الفراش الواطئ والغائب تحت عشرات الأغراض الغريبة. كرّاسات لدراسة لغات أجنبيّة.عشرات من قطع الصّابون وعلب السردين وأكياس من الملح والبصل وفواتير وماعون طبخ وعلب فارغة من الورق المقوى… حذاء غير مستعمل. كتالوجات لملابس نسائيّة ورجاليّة من أرقى محلاّت الموضة.ووو…
استطعت بعد جهد إبعاد بعض الأغراض لأجد لي مكانا للجلوس. سألته عن سبب اختفائه فأشار لي بمتابعة مراسم زواج سموّ ألأمير الدانمركي الذي كان يعرض على شاشة التلفزيون. سألني إن كنت أعرف بأنّ فستان الزواج تكلّف مئة ألف أورو, وأنّه هديّة شخصيّة من والد العروس. وحين أجبته بأنني قرأت عن ذلك في الصحف, قال لي بأنّ هناك خلاف بين أم العروس وعمّة الأمير حول الكنيسة التي سيعقد بها عقد القران.
ثمّ راح يحدّثني عن تفاصيل من أسرار العروس لا يعرفها حتى الأمير العريس نفسه بالتّأكيد. أحسست أنّه لا يرغب في الحديث عن نفسه, فلم ألحّ في السؤال. وضعت له مبلغا من المال وبقية علبة سجائري, وقبل أن أخرج, سألته عن قبّعته الاسكتلندية ذلك أنّني لم أرها في الغرفة.
- إنّها لا تناسب جبيني , إنّها عريضة أكثر ممّا ينبغي.- ولكنّك كنت معتزّا بها, حتّى أنّك حدّثتني بأنّك تشعر بأنّك عجوز بائس يدونها؟- هل يمكنك أن يساعدني في إبعاد الخزانة قليلا عن الحائط. أريد طلاءه بعد أسبوعين؟ يجب أن أطلي الجدرانلأنني أحس ببؤس قاتل حين أفتح عينيّ كلّ صباح على هذا الّلون المتعفن. لقد اشتريت الطلاء الأبيض.
أجبته بالإيجاب دون المزيد من الإلحاح لمعرفة مصير قبّعته الاسكتلندية. أحسست أنّه لا يرغب في الحديث أكثر. علامة حميد ميتشكو, حين يتضايق من مواصلة حديث, أنّه كان يكوّر شفتيه ويميل برأسه يمينا, ثمّ ينفض عن فخذه غبارا لا يراه الآخرون.بعد أسبوعين, صباح سّبت. استيقظت باكرا وأنا أحس بثقل وكآبة لا تطاق. كدت أنسى معطفي وأنا أسارع بالخروج للذّهاب لوكر حميد ميتشكو. الباص ا لملعون تأخّر عشر دقائق كاملة. والسّماء ملبّدة بغيوم مكثّفة من الرّصاص والرّماد الدّاكن. شعرت بانقباض وقنوط. شيء ما حدث لحميد ؟ كنت أردد في سرّي.
وصلت إلى المبنى وأنا ألهث. شددت الجرس عشرات المرّات بدون جدوى. شددت جرسا آخر. شددت كلّ أجراس سكّان المبنى. ليستيقظ الجميع. أللعنة عليهم جميعا ينامون اللّيل والنّهار. فتح الباب عشرات المرّات, وكانت أصواتهم وهي تلعنني تصعد معي المد ارج الخشبيّة, أحدهم فتح بابه بالطّابق الخامس وظلّ ينتظرني وهو يهرش بطنه الضخمة نصف العاريّة فلمّا تخطيته بصق إلى الأرض وتلفّظ بكلمات نابيّة قبل أن يغلق الباب بعنف. وصلت غرفة ميتشكو بعد آخر درجة. لا أقوى حتّى على اللّهاث. قلبي يدق مثل مراوح الهواء وأنا أرى ظرفا ضخما محشورا عند شقّ الباب مغطيّا ثقب المفتاح. قرأت من بعيد حروف اسمي باللّغة الألمانيّة. ولمدّة دقائق بقيت ممسكا بالظرف وأنا أحسّ بثقل داكن يضغط بقوّة على صدري بقسوة لا تطاق.
لم أجد سوى صفحتين. مقاطع مبتورة وعناوين باللّغة الألمانيّة مثل الألغاز, قرأت…. الطوكوموكو نبتة خضراء لا تكاد تشبع من الأرض والماء, وثمرتها حمراء مستديرة ببزور صفراء….اعدم الدّغباجي, وهو مناضل من الجنوب التّونسي سنة 1922 بساحة القرية التي ولد بها…. صموائيل النّادل بمقهى الأنسويفايتا طيّب القلب وعظيم حقّا, يقرأ كثيرا, كما أنّني أشعر بسعادة كلّما رايته, رغم أنني أعتقد بأنّه لا يؤمن باللّه….لماذا يبتسم اللّيل بمكر فوق سطح الجيران؟…… أمراض أمي التي كانت تؤذيها, كانت في نفس الوقت ينابيع حيويّتها وسرّ تشبّثها بالحياة. كانت أوجاعها مصدر لا ينضب لحكايات الصّباح مع الجارات.عمّتي فاطمة كانت تردد علنا بأنّ أمي ثقيلة الروح ولا تفتح فمها إلا للتثاؤب ولكنّها أصبحت محبوبة بعد فشل جميع الأطباء في علاجها من الأمراض الغريبة التي تنهشها ليلا. والغريب أنّها أصبحت بعد مرضها الأخير تمتلك قدرة عجيبة على تفسير الأحلام. ومعالجة جميع الأمراض بزيت الزّيتون والعسل والثّوم المطحون.ثلاث كلمات أخرى لم أستطع قراءتها. كانت الكلمات مكتوبة بحروف كبيرة, كلّ ثلاث كلمات تملأ سطرا. ماذا يقصد هذا المجنون؟ هل فعلها؟قلّبت الصّفحة الثّانيّة. عنوان بارز يتوسّط أعلى الصّفحة ودوّن بحروف كبيرة جدّا موزّعة على سطرين. يبدو أن الصفحة الثّانية التي بدأت بقراءتها, هيّ في الأصل الصفحة الأولى.
كتب: مخطوطة لرواية عن قصّة حياتي بالتفصيل. وتحت العنوان تصدير كتب باللّون الأحمر يمثّل مقولة لأحد الكتّاب أو الفلاسفة المغمورين ربّما, مدوّنة باللّغة الفرنسيّة وبدون أخطاء, وترجمتها تقريبا: ( دخلت ولم أخرج بعد. فكيف يطالبونني بأن أصف لهم ما شاهدت ؟! ).
التقيت بحميد ميتشكو بعد ذلك بأسبوعين. وجدته هكذا جالسا بهدوء يقلّب صفحات إحدى المجلات المهتمّة بالجغرافيا الحديثة. لم استغرب طبعا أن أجده هناك, في وضعه ذاك. وتعمّدت أن لا أسأله عمّا حدث, كنت أعوّل على رضائه عن صمتي ليبدأ الحديث. ولكنّه ظلّ يشرب قهوته المرّة, يتلمّظها بهدوء ووقار متقاعد.سألته إن كان يريد أن أدعوه لشرب كأس من البيرّة البيضاء. أجابني بأنّه انقطع عن الشّرب منذ ثلاث أسابيع لأنّه كان محجوزا بالمستشفى الحكوميّ وبأنّه لم يخرج منه سوى منذ ثلاثة أيّام. لأنّه أجرى عمليّة جراحيّة لإستاصال الزّائدة الدوديّة. أنا الآن كامل. لا زوائد ولا نواقص قال وهو يتوكّأ على الكرسي استعدادا للنّهوض ومغادرة المقهى. قبل أن يتخطّاني قلت له بمكر بأنّني أحتفظ بمخطوط روايته عندي. أجابني بدون اكتراثقائلا : -” لقد غيّرت أسلوبي. أنا أكتب الآن روايات بوليسيّة عن آل غابون والمافيا فقط “.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق