الأحد، يناير 22، 2006

قراءة في نص (أنيتا) لكمال العيادي

عندما تقرأ للأديبة الكبيرة فاطمة ناعوت، يجتاحك إحساس بالغرق المفرح بكلماتها المنتقاة بعناية فائقة، فكم بالحري إذا كانت تكتب عن أديب تونسي كبير ككمال العيادي، وعن عمل خالد له، وها نحن ننقل عن (دروب) المجلة التي تحضننا جميعاً كأدباء وشعراء، ما فاح من قلمها من عبير أدبي منعش:

بقلم فاطمة ناعوت

الطفولة والسخرية من أجل ترويض الوجود
ترويض المرأة
كانت المرأةُ، ولا تزال، المادةَ الخصبةَ الأولى في إبداع الرجل طوال الوقت، والمعين الرئيس الذي ينهل منه مخيالُه قبل أن يمسك بمبضعه الفنيّ: ريشةً كانت في يد التشكيلي، قلمًا في يد الأديب، أو إزميلا في يد النحات، ليشرعَ في رسم نصِّه الخاص الموازي للوجود والذي ولابد سوف يفوقه جمالا، وليس الجمال هنا حكمًا قيميًّا بقدر ما هو إشارةٌ إلى الانحراف الضروري عن الواقع كحجر أساس لكل عمل إبداعي. فالإبداع طوال الوقت لا يبدأ إلا من نقطة انحراف وتنافر مع الوجود وإلا صار محاكاةً وتقليدًا ساذجًا تتفوق عليه كاميرا صغيرة ثمنها لا يزيد عن عملة ورقية واحدة. وكان ترويضُ المرأة من قِبَل الرجل أحد أهم أهدافه منذ البدء. و”الترويض” بمعناه المعجمي الواسع سوف يتخذ مضاربَ وألوانًا شتى. الرجل يروِّضُ المُهرَ كي يعلمه السير، والشاعر ارتاضت له القوافي الصعبةُ. فالرياضةُ تدريبٌ لعضلات الجسد كي تغدو مرنةً طيّعة، ومنها الرياضيات Mathematics وهي ترويض خلايا الذهن وتطويعها، والمجمل لأصل الكلمة كما في المعجم هو استبدال الحال المذمومة بالحال المحمودة.
بين شكسبير والعيادي
واجتهد الرجل في ترويض المرأة عبر التاريخ. حينًا كي تحبه، وكي يسوسها ويلينَ شوكتها حينا آخر. فالبشريّ يؤمن طوال الوقت بأن السفينة لابد لها من ربّان واحد، والمرأة طوال التاريخ رفيقٌ مشاكس لم يقبل أن يسلّم الدفّة كاملةً للرجل الذي اِستُخلِف في الأرض بقرار إلهي “ذكوري” واعتبر ذلك حكمًا نهائيًّا لا طعنَ فيه ولا استئناف. عالج شكسبير سياسة المرأة في مسرحية Taming of the Shrew “ترويض الشرسة” على نحو كوميدي ساخر مثل صديقنا العيادي في قصتة “آنيتا”. لكن النحو الشكسبيري كان نحوًا كلاسيكيًّا ينزع إلى المفهوم التقليدي لفكرة القوة والاستخلاف في الأرض وقانون البقاء للأقوى بيولوجيًّا، وهنا يتفوق الرجل لا محالة وتخسرُ المرأة. سوى أن كمال العيادي، الأديب التونسي الذي حقق معادلة بشرية فريدة في الجمع بين اللذاعة والدِعة، وبين القسوة التي تقترب من السادية وبين الرقة التي تنهل من الطفولة، فتجد جملته الأدبية قد تجمع بين مفردتين إحداهما عذبةٌ كقطرة ماء النهر، والأخرى حادةٌ موجعة كنصل سكين، في قصته “آنيتا” نحا نحوًا مغايرًا وطازجًا في شأن ترويض النمرة السرمدي. هنا رجلٌ سلّم سلفًا بضعفه حيال امرأةٍ تملكُ نقيضين لا قِبل لرجل متحضر بدحرهما: ضعفها البيولوجي كأنثى، في مقابل سلاطة الكلمة وعنفها. الزوج التقليدي القديم لن يقف طويلا أمام مشكلة كهذه لأنه حلّها منذ اللحظة الأولى بكسر عنق المرأة وتهذيب لسانها، وهو ما فعله بطلنا الشكسبيري القديم. لكن نصًّا يسبح في الألفية الثالثة سوف يعالج المشكلة ذاتها على نحو مغاير تبعا لقانون التحضر والحقوقية الإنسانية التي لم تكرسها ثقافة القرن السابع عشر بمنظومته الحضارية آنذاك. الترويض العصري الذي لجأ إليه بطل قصة العيادي سوف ينتهج نهجا ذهنيًّا ماكرًا لأن ثقافة عصره تفوّت عليه إمكانية حل المشكلة “بسَوط نيتشه” الشهير الذي أوصى كلَّ رجلٍ بحمله كلما ذهب إلى امرأته.
الطفولة الكامنة
بطلنا العياديّ عالج أزمته عن طريق إعادة اكتشاف الطفل الكامن داخل كل رجل واستحضاره من مخازن الذات كي يلعب لعبته المرحة مع الطفلة الكامنة داخل زوجته الشرسة آنيتا. وليس من الصعوبة اكتشاف أن الذات الراوية تنطق بلسان الطفل ليس فقط على المنحى المضموني، بل فنيًّا أيضًا، وذلك من خلال طرائق السرد والصياغة اللغوية. تذبذب الحكي الذي يشي باللعب أو بعدم اليقين أو بالسخرية من الحياة، فهنا: “لنتّفق في البداية, على أنّه من حقّي أن أضرب رأسي. أوّلا لأنّه رأسي, وأنا حرّ أن أفعل به ما أشاء. وثانيا لأنّه يستحقّ الضّرب.” هذه عبارة طفولية بامتياز رغم ما تحمل من مرارة وسخرية سوداء. فالطفل يوغل في مفهوم “التملّك” و”الحيازة” قبل أن يتعلم قوانين الحياة الأخرى، فتعتمره الرغبة في امتلاك كل الموجودات وحتى إساءة التصرف بهذه الملكية قبل أن تهذبه القوانين العرفية التي وضعها الإنسان لتنظيم نزعات الإنسان.
السخرية كملمح جماليّ
أما “السخرية” و”اللعب” الفني فهما الملمحان الرئيسان لهذا العمل كما هما في كثير من نصوص العيادي. ومنها قول الجملة ثم نقضها: “ولذلك أضرب رأسي يوميّا. ربّما أبالغ حين أدّعي بأنّني أضرب رأسي يوميّا”، وهو خط من تيار الوعي الذي يعتمد الاستسلام التام للتداعي الحر للأفكار ثم رصدها، فنيًّا، كما هي دون تنميق بلاغي ما يعطيها طابعًا رعويًّا طبيعيًّا ثريًّا بعيدا عن صالونات التجميل الصناعي. الزوج الذي أعيته السبل في تهذيب لسان زوجته السليط، سوف يلجأ في آخر الأمر إلى تراكمه المعرفي والتجريبيّ علّه يجد الحل، فيستخرج من تاريخه القديم طفلا ماكرًا كان يظن أنه غادره بعدما لم يعد في حاجة إليه. طفلٌ تعلّم من كليلة ودمنة ومن قراءاته القديمة في قصص الجنيات وحواديت الجدات أن الثعلب يتماكرَ على عدوه فيحاكي دورَ الميّت أو الضعيف المنهزم حتى يفوّت على خصمه فرصة النيْل منه. الزوج الذي أقرَّ بهزيمته أمام لسان زوجته سوف يدخل في روعها أنه مقبلٌ على الانتحار حتى يرهبَ جانبها فتعيش في قلق دائم. لكنه لن يفعل ذلك على نحو مباشر ساذج عن طريق إعلامها رأسًا بقراره الخطير، بل سيدبر الأمر على نحو أيروني Ironic عن طريق اللعب مع زوجته لعبة ماكرة فيقوم بنثر قصاصات ورق على مكتبه مكتوبة باللغة العربية التي لا تعرفها الزوجة، وهنا وهناك كلمة أو كلمتان بالألمانية كي يتقن رسم صورة المرتبكين والمتوترين المقبلين على إنهاء حياتهم حزنًا ويأسًا. وفي المقابل سيلجأ إلى حيلة حرية “المخيال” كي يثأر منها ويمثّل بها، حيث لا قانون حضاريًّا أو عرفيًّا أو جنائيًّا يحاكمنا على خيالنا، ولذلك: “كنت أشبعها لطما وأقضم جزءًا صغيرا من أنفها المدبب وأطرحها أرضا وأرفسها بكلّ ما أوتيت من قوة, وأتلذذ جَلدها بالسوط وشدّها من شعرها القصير, وتثبيتها على لوح خشبيّ ودق كفيها إليه بمسامير كبيرة, كلّ ليلة, في خيالي المرهق”.
الصورة الشعرية
بوسعنا أن نلمح براعة رسم الصورة المشهدية عند العيادي وهي أداة أخرى يتقن اللعب بها إلى جوار الآيرونية. أذكر أنني قديما قرأت له قصة عن بيت الأشباح في الملاهي كان يصف فيها مأساة لابسي أقنعة المسوخ والأشباح الذين ينحصر دورهم في الحياة في إرهاب وترويع اللاعبين ويُحسب نجاحُهم بمدى علوّ صرخات الخائفين، وبعدها لم أدخل بأطفالي مرةً إلى دار ملاهٍ إلا وتذكرت القصة، وتعاطفت مع المسوخ والوحوش. والعمل الفني الناجح هو الذي يجعل العالم يتغير في عينيك بعدما تقرأه كما قال أحدهم. والأمثلة على براعة العيادي في رسم الصورة الشعرية لا حصر لها في واقع الحال، لأنها بطول أعماله وعرضها حتى ليمكن للمرء صادقًا أن يقول أن بعض قصصه هي قصائد نثر مطوّلة بسبب زخم الصور الشعرية بها: “…. عند عودتي كلّ ليلة لتقف لي بين ثقب الباب ولحاف السّرير الأزرق المكويّ بعناية”، أو “كان عجوزا غابرا مجعّدا. يسعل كامل الوقت ويخرم في الهواء قاعدة الكرسيّ الهزّاز المغلّف بسبابته وإبهامه. موسّعا في ثقب وهميّ لا أراه.” أو “فكنت أعدّل ملامح وجهي قبل وضع المفتاح في ثقب الباب مباشرة”.
العمق الدلاليّ
الفن الأدبي الرفيع في النهج الحداثي وما بعد الحداثي يبدأ وينتهي عند قول كلامٍ يبدو بسيطًا جدًّا ومألوفًا ولا مجاز مهوّمًا فيه سوى أنه يحمل مستويات من العمق لا تعطي نفسَها إلا عبر قراءات وتأويلات منفتحة ومتعددة. حين نتأمل جملة كهذه “وسألني عمّا إذا كنت أحلم باللّغة العربيّة أو الألمانية”، على تلقائيتها وكوميدية طرحها فهي تحمل مضامينَ فلسفيةً وخيوطًا نقديةً عديدة، وقد بحث فيها علماء السيكولوجي والألسنيات طويلا، كيف نفكر؟ كيف تنبت الفكرة في أذهاننا؟ وبأية لغة؟ وهؤلاء الفرانكوفونيون في بلاد المغرب العربي والبوليفونيون في المهاجر الغربية، هل يفكرون ويحلمون؟ بالعربية أم بلغة أخرى، إن سلمنا أصلا أن الفكرةَ تحتاجُ إلى لغةٍ ما كي تنبثق في المخ. ثم “… بعد نزع حذائي ووضعه عند الزّاوية اليسرى, محاذرا أن يكون وضعه قريبا أكثر من اللاّزم من الحائط. تماما كما يليق بزوج يتألّم.” هكذا يلاعب البطلُ زوجتَه “مضمونيًّا”، ويلاعب الكاتبُ قارئَه “فنيًّا”، وكأن للحذاء وطريقة وضعه على الأرض علاقة وثيقة بحال الشخص المتألم، وهي لعبة ذكية ترمي بالقارئ فورًا في فخ التصديق وتورطه في خيوط النص، لأن الفن، على عكس الحياة، يصل للروح والعقل مباشرة كلما تجاوز المنطق القارَّ المألوف وابتعد عنه.
رسم الرائحة
“ولا احتمل رائحة الدّجاج المسلوق والزّيوت الغريبة التي تنبعث منها” يجيد العيادي “رسم الرائحة”، وليس في عبارتي هنا مجازٌ لغويّ، فهو يعرف كيف يرسم للرائحة صورةً مشهدية تكرسّ ملامحها “الحواسيّة” حتى يغدو بوسع القارئ بعدها أن “يلمس الرائحة بأنفه” بالفعل. بل أكثر من ذلك أنه يعرف كيف يرسم للقيم “المجردة” كالنفور والألم والخيانة رائحةً ما. أذكر في قصة أخرى له بعنوان “موت بدون وصية” أنه رسم رائحة “الخيانة الزوجية” بقوله :” رائحة تشبه رائحة الدجاج ليس الدجاج تماما, ولكنها رائحة الطيور الصغيرة تماما، الطيور الصغيرة المذعورة حين تراها وهي تسقط في الفخ وتجري نحوها, ثم تمسكها لمدة طويلة، وتسمع دقات قلبها مثل مراوح الهواء وحين تضعها في القفص وتشم يديك المبللة بالعرق والمتسخة ببثور الريش”.
أجملُ “الحكي” أكذبُه
وبعد كل هذه المعارك الزوجية والحيل الذهنية واللعب المتبادل بين الزوجين المتنافرين يفاجئنا المؤلف في آخر سطر ربما بأن الأمر ليس كما فهم القارئ، وأن السارد لم يكن صادقًا كل الصدق فيما زعم وفيما حاول أن يوقع في روع قارئه الطيب الذي صدقه وتعاطف معه ومع أزمته طوال الحكي، لأننا لن نجد في نهاية القصة إلا زوجيْن متحابيْن وهو ما يحل لغز بقائهما لعشر سنوات معا رغم كل تلك المكائد الصغيرة بينهما. ” آنيتا جاوزت الحدّ. أضرب رأسي بقوّة على الباب أو على الحائط. أو ببساطة هكذا. بقبضتي أو بكفيّ. لأتلذذ طعم ريقيّ المرّ , وأنا أرى كلّ ذلك الذّعر والفزع الشّديد في عينيها. في عيني حبيبتي وزوجتي – آنيتا
-.”
نقلاً عن (دروب)

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

ما أشدّ استمتاعنا بهذه المجلّة الرائعة التي تجلب لنا أجمل ما يمكن أن يقرأه القارئ النتعطّش...

أما ما اذهلني وأطربني فهو هذا المقال الجميل حول كتابات واحد من الكتاب الذين أحبهم وأتابعهم. فاطمة ناعوت أيضا هي شاعرة شامخة ورفيعة المستوى
شكرا للسادة هيئةالتحرير

مفيد سعد الله
باليرمو

غير معرف يقول...

الشكر لك أيها العزيز على طيب كلامك، والشكر للأديب الصديق شربل بعيني على هذه الاستضافة الكريمة.


فاطمة ناعوت

http://www.fatima-naoot.tk/