الأربعاء، يوليو 04، 2007

صباحكم أجمل \ أبناء "الاحتلال" لا ينامون ولا يدعون الناس تنام


زياد جيوسي

صباح الخير يا رام الله..صباح الخير يا مدينتي التي تسحرني يوما اثر يوم، في ليلة الأمس زارني بعض الأصدقاء، وامتدت الجلسة حتى الثانية عشر والنصف ليلا، عادة لا أتجاوز الحادية عشرة وأذهب للنوم، ولكن جمال الجلسة أعطاني المجال للسهر، وما كدت أنام حتى صحوت على جلبة وحركة قوية في الخارج، قفزت من سريري ونظرت إلى الساعة فإذا بها الثانية صباحا، نظرت من بين الستائر للخارج فوجدت عشرات المركبات العسكرية لقوات الاحتلال تحتل المنطقة وتحيط بالبناية التي أسكن فيها والبنايات المجاورة، قدرت أن هناك عملية اعتقال لأحد في المنطقة، وتبخر النوم من عيوني فمن سيمكنه النوم وهو محاصر بقوات مدججة بالسلاح ولا يعرف بدقة ما الهدف من هذه العملية، استمر الوضع حتى الرابعة صباحا وتخلله عملية اقتحام لبناية مجاورة وتفجير أبوابها بواسطة المتفجرات، وإطلاق النار والقنابل الصوتية حتى انسحبت هذه القوات الاحتلالية الغازية، وتبين لاحقا أنها لم تعثر على الشخص المطلوب فأفرغت حقدها بالسيارات المتوقفة في الشارع، وفي إطلاق النار والقنابل الصوتية، فتذكرت المثل القائل: "أبناء الحرام لا ينامون ولا يدعون الناس تنام".
الرابعة والنصف صباحا، ما زال هناك وقت لانتظار الضياء ونور الفجر، أقف لنافذتي وأشرب الماء من إبريق الفخار الجميل، عادة قديمة أن لا أشرب الماء إلا من إبريق الفخار في مكان إقامتي، في كل مدينة سكنتها كنت أبحث عنه وأحضره وأشرب منه، ما زال في الذاكرة منذ عهد الطفولة وقبل أن نعرف الكهرباء، في كل بيت سكناه بدون كهرباء كانت جرة الفخار والتي كنا نسميها "الزير" هي وسيلة التبريد الوحيدة للماء في الصيف، وهي خزان إضافي للماء في الشتاء، مضافا لها إبريق الفخار و"شربة" الفخار، والفرق بينهما فقط أن الإبريق له فتحة صغيرة كإبريق الشاي يشرب منها، أما "الشربة" فبدونها ولها رقبة فقط، لذا كان أسهل لنا أن نشرب الماء من الإبريق ونحن نرفعه عاليا ونرى الماء المندفع من فوهته إلى أفواهنا بدون أن تلامس الشفاه الفوهة، وكان مجال تفاخر لنا ونحن أطفال أن ننجح بالشرب بهذه الطريقة كالكبار من أهالينا، مضافا لذلك التشدد في التربية بعدم ملامسة الفوهة بالفم، ويا ويله من كان يضبط بهذه الجريمة البشعة، فعقابه شديد ويمنع من ملامسة الإبريق الفخاري بعدها، وعليه أن يشرب من الجرة فقط ومن الإناء الموضوع فوقها للشرب، وهو عبارة عن وعاء له يد ومصنوع من الألمنيوم عادة ومن الزينكو المزجج قبل عهد الألمنيوم وكنا نسميه "الكيلة" ولعلها مشتقة من مكيال، كان الشرب من الإبريق بهذه الطريقة التي كنا نسميها "زغللة" بالنسبة إلينا من علائم الرجولة، فنسعى لتعلمها مبكرا.
أتنشق عبير النعناع الأخضر بعد أن رويته ماءا، فأثارت هذه الرائحة الزكية ذكريات مضى عليها ما يزيد عن عشرين عاما في تونس، تونس الخضراء الجميلة حين زرتها لأول مرة في منتصف ثمانينات القرن الماضي، كنت قد أمضيت قبل هذه الزيارة ما يقارب الخمسة أعوام معتقلا بدون محاكمة، تلاها أربعة أعوام من منع السفر، حين أتيح لي موافقة سفر والذهاب لتونس.
كنت أشعر بهيبة المكان الذي أذهب إليه لأول مرة بعد هذه السنوات الطويلة من الانقطاع عن السفر، ولكن بمجرد أن وطأت أرض المطار والتقيت بالموظفين ورجال الأمن حتى زال التخوف بحسن الترحاب، رغم اختلاف اللهجات الذي فاجئني وأتعبني في البداية، ولكن لأنه كان لي بفترة الجامعة عدد كبير من الأصدقاء التوانسة، فسهل علي تذكر اللهجة بسرعة و التحدث مع العاملين في المطار بكل أريحية.
كانت زيارتي لحضور مؤتمر فصائلي، فقد كنت بتلك الفترة عضوا في فصيل انتسبت إليه وعمري ثلاثة عشر عاما، ولم أكن أدرك أن غياب تسعة أعوام عن الرفاق قد غير بالنفوس كثيرا، فقد كانت ذاكرتي تحمل الذكريات الأجمل من مرحلة النضال الطلابي والعسكري والسري، حين كان الشعار الذي نتداوله ونلتزم به "الثورة أخلاق"، ولكني احتجت بعد هذه اللقاء لعدة أعوام لأكتشف أن من كانوا رفاقا قد ذهبوا بالثورة وذهبوا بالأخلاق، فآثرت الانسحاب بهدوء والابتعاد عن العمل الفصائلي، وكان هناك سبب آخر ومهم جدا بالنسبة لي لزيارة تونس وهو لقاء أخي جهاد الذي كنت لم أراه طوال تلك السنوات، وكان قد أنهى دراسته العسكرية في ألمانيا التي كانت معروفة باسم ألمانيا الشرقية، واتفقنا أن نلتقي بعد عشرة سنوات لم نلتقي فيها في تونس.
ما أن أقمت يومين في تونس حتى صدر لي القرار بالتوجه إلى منطقة تعرف باسم وادي الزرقاء، ولم أدرك أن الهدف كان إبعادي عن جو التحالفات والكواليس، وهناك وفي وادي الزرقاء تسلمت معسكرا والزملاء الذين ذهبوا معي من الإخوة في الجيش التونسي، كان أصلا معسكرا لقوات الثورة التي وصلت إلى تونس وجرى إخلائه وتسليمه للجيش التونسي، وبدأنا من لحظة وصولنا باستقدام عمال لتنظيف المعسكر المهمل وإعداده لاستقبال المؤتمر، وما أن حل المساء وكنا قد بلغ منا الإنهاك درجة كبيرة، فجلسنا أمام مهجع وروينا أحواض النعناع بالماء، فانتشر عبق النعناع بقوة في الجو وسهرنا مع النارجيلة وأكواب الشاي.
هذه الرائحة الجميلة في هذا الصباح الجميل أعادتني لتلك الفترة، بقيت شهرا كاملا هناك ولم أغادر للعاصمة إلا حين ذهبت لاستقبال أخي، ذلك اللقاء الذي تساقطت الدموع فيه من عيناي، وتفجرت فيه ذكريات وذكريات.
بقيت مع أخي ليلة واحدة وعدت لتلك المنطقة الساحرة، على أن أعود لأخي بعد انتهاء عملي هناك، وحين عدت للقاؤه قضينا ما يقارب الأسبوعين معا نتذاكر فيها طفولتنا والسنوات التي ابتعدنا فيها عن بعض، أما فترة إقامتي في وادي الزرقاء فكانت فترة ولا أجمل فالمنطقة ساحرة بجمالها، كنت أعشق الفجر وغياب الشمس فيها وأنا من عشاق الطبيعة وأكره المدن الصاخبة والضجيج، أهل المنطقة طيبين جدا سواء في "تستور" وهي القرية الأقرب التي كنت أزورها، أو في "باجة" وهي أقرب مدينة لوادي الزرقاء، وتعرفت على العديد من أبناء تلك المناطق، وكانوا قمة في اللطف والكرم واستضافوني عدة مرات، حتى أنهيت عملي هناك فغادرت وادي الزرقاء وودعت الإخوة الضباط وعرجت إلى "باجة وتستور" ودعت من عرفتهم، عائدا لمدينة الصخب تونس حاملا في داخلي أجمل الذكريات لتلك المنطقة التي كنت فيها، وما زالت صورتها في ذهني لم تفارقني، ولو كنت فنانا فالبتأكيد كنت سأرسم أجمل اللوحات لوادي الزرقاء الساحر.
أستقبل الشمس في هذا النهار الحار ممتعا نفسي رغم الإرهاق بهديل الحمام وزقزقة العصافير، استمع لفيروز حنى السابعة فيرهقني النعاس فأنام حتى الثامنة، آخذ حماما ينعشني وأبدأ يومي من جديد مع فيروز...
تبقى بلدنا بالحمام مسيجة
يضحك على العلوات غيم بنفسجي
ولما على بيناتها يهب الهوا
يصير الهوا على أبوابهن يروح ويجي.

صباحكم أجمل
رام الله المحتلة

ليست هناك تعليقات: