الأربعاء، يوليو 26، 2006

هذه الحرب الرهيبة



بقلم المطران جورج خضر
(مطران الروم الارثوذكس في جبل لبنان)

دعوتي الى الله منذ بدء المحنة ان يأخذ لبنان بعطفه وكرمه. ومن كرمه ان تقف هذه الحرب التي شنتها اسرائيل حاقدة. موت عبثي، شرير، رهيب يحل بنا مع ما يرافقه من تدمير وتمزيق وقطع اوصال البلد. استلذاذ العدو بموتنا ونحن شعب بريء بكل اطيافه مهما تعددت آراؤنا بحكمة هذه الفئة او تلك.
لا يذهلني ان تتصرف اسرائيل كما تصرفت، فهذا في آداب آبائها الذين امروا بابادة الكنعانيين اي نحن. هذا قديم وسابق للنصوص التأسيسية للصهيونية التي تقيم دولة يهودية لا تختلط اساساً بالعناصر الاخرى. هذا موقف اقصائي في تأسيس الدول المعاصرة.
لا يذهلني هذا ولكن يذهلني اصطفاف الاميركيين والاوروبيين بعامة وراء الدولة العبرية وقول الولايات المتحدة ان اسرائيل تدافع عن نفسها. من اعتدى عليها؟ اذا كان المعنى الذي اراده السيد بوش انه خطف لها جنديان فهل هذا يقابله كل هذه المجازر والدمار والهلع والتجويع للشعب اللبناني؟ هل احراق لبنان ضروري لاعادة هذين الجنديين؟
ليس بين هذا الخطف والحرب الشاملة علاقة سبب ومسبب. ثم من يصدق ان عملية حربية بهذاالحجم لم تستلزم اشهراً من الاستعداد في اطار عملية تأديبية ضخمة جداً للبنان هي جزء من مشروع سياسي عالمي يحدث هزة كبيرة في المنطقة كلها؟ الاكذوبة الكبرى بعد اخفاق الاميركيين في العراق انهم يرون لبنان مهيئا ليصبح نموذجاً للدولة الديموقراطية الحرة بين العرب ثم يباركون او لا يمنعون الاعتداء عليه. هل من ديموقراطية ممكنة في بلد لا قوة فيه؟ بعد سياسة الارض المحروقة التي يمعن الاسرائيليون في التماسها او تطبيقها من أين لاحد ان يقيم دولة ديموقراطية، راقية، توحي الحرية لكل العالم العربي؟
الذين يظنون ان خطف الجنديين الاسرائيليين كان عمل غباوة من حزب الله (وأنا ما قلت إني أبرره) انما هو سبب مباشر لتعطيل الحوار الوطني الجاري مع هذا الحزب والذي كان من شأنه ان يحاول صيغة تفاهم بينه وبين الفئات الأخرى. ان سجالاً مقولاً أو صمتاً مع حزب الله في الوقت الحاضر من شأنه فقط ان يدعم اسرائيل والدول التي ساندتها. مهما يكن من أمر فسوف تقوي هذه الحرب لبنانية حزب الله من حيث ان حلفاءه في الخارج أو الذين يمدونه بالمعونة المالية لن يقفوا على رأيه ليصلوا الى تفاهم مع الأميركيين. ان ربح المقاومة لهذه الحرب يقوي لبنان وستخرج من المحنة أكثر توحداً مع كل اللبنانيين بلا مساءلة عن لبنانيتها.
• • •
كتبت هذه السطور الاثنين الماضي وربما يكون قد تم قبل صدور هذه الأسطر قرار لوقف النار. ما ينبغي ان يفهمه اللبنانيون هو ان يفتشوا عن مصادر قوة واصلاح للدولة وتعبئة كبرى لقواهم تخرجنا من هشاشتنا. عند السلام أو الهدنة ينبغي ان نعرف ليس فقط عدونا هذا الذي يميتنا الآن ولكن ان نعرف الفاترين تجاهنا او اللامبالين بمصيرنا وويل، اذ ذاك، لمن لم يفهم ان وحدتنا الوطنية الحقيقية تقوم على الولاء المطلق وغير المشروط للوطن وحده. ان الدول التي قالت بعد خروج الجيوش السورية انها مع سيادتنا برهنت ان المطلق عندها اسرائيل. هل نحن قادرون على ان نثبت لها ان لبنان هو أيضاً مطلق وان أحداً لا يحق له ان يتفرج على حرائقه كما تفرج نيرون على حريق روما واتهم المسيحيين بفعلة ارتكبها هو؟ في ظل هذا الموت الذي نذوقه يحق لنا ان نغضب وألا نتكل حصراً لوجودنا على الآخرين. نحن لسنا شعباً حاقداً لكن ألا يحق لنا ان نغضب؟
نكون قد غرقنا أنفسنا في الموت الكامل اذا استسلمنا بعد هدوء الحال الى نرفزات طائفية سخيفة. نبارك نحن لمن جاء النصر على كتفيه لان هذا هو نصرنا جميعاً. التاريخ هكذا يمضي، والويل للعرب كلهم اذا انتصرت اسرائيل علينا. ستجعلهم، اذ ذاك، كلهم عبيداً لها.لم تفهم الدول الغربية ان السلام الذي يسود المنطقة لن يكون السلم الاميركي ولكن السلم الاسرائيلي. لم تفهم أميركا ان اسرائيل هي التي تستخدمها وان اسرائيل في أعماقها السيكولوجية لا حليف لها على رغم الحلف الاستراتيجي الذي يربطها بالولايات المتحدة. هذا حلف حقوقي وليس حلفاً نفسياً. وأتمنى لو أدرك المسيحيون في العالم ان التفوق اليهودي الذي يحمله النصر الاسرائيلي خطر عليهم بالدرجة الأولى لأنالصراع الحقيقي على مستوى العقيدة الدينية هو بين الكنيسة واليهودية واسترخاء مسيحيي الغرب ازاء اليهودية واليهود الساطع في اللاهوت الغربي منذ تسعين سنة وما كنا هنا ضحاياه في اية كنيسة شرقية ارثوذكسية كانت ام غير ارثوذكسية قد يطاولنا لنقع في بدعة المسيحية المتهودة. ان ما وراء الغطرسة الاسرائيلية غطرسة يهودية واضحة تكره المسيح شخصياً وتكره بخاصة بولس الرسول الذي نقض اليهودية. هذا كله موجود في الآداب اليهودية ولكن من يقرأ؟
قد لا يكون مسيحيو لبنان على وزن كبير في سياسة بلدهم اليوم. ولكني اقول لهم بكل وضوح ان اسرائيل لا تؤثر وجودهم على الوجود الاسلامي لان المسيحيين اللبنانيين ليس عندهم ما يقدمونه ليعشقهم اليهود وان المسلمين عندهم النفط. ونحن تعايشنا والمسلمين العرب في ازمنة اكثرها كانت سلامية ووجدنا هنا في لبنان صيغة عيش تمكننا من اعظم حرية ممكنة ولن نتمتع بحرية عظيمة في ظل السلم اليهودي
.•••
وبعد الالم لا بد من الابداع ولا بد من السماحة تهيمن على كل النسيج اللبناني ولكن هذا يتطلب الا نحمّل اية طائفة مسؤولية هذه الحرب والى هذا سنعمل معاً لنهضة لبنان ولكن بتضحيات عظيمة تجعلنا نقيم دولة عظيمة.
سنتحمل الالم ولا سيما اذا امتدت المحنة لعلمنا ان تكاتفنا شرط دوامنا بلداً حراً قادراً على ان يصير نموذجاً للعرب يتعلمون منه الحرية الكاملة لبلادهم وربما غدونا نموذجاً للعالم. ولا نخافنّ الموت لان الموت حرية للاحياء، هذا اذا فهموا ان الفرد هو والجماعة يقويان بالطهارة وان هذه الطهارة هي التي تنشئ دولة قوية ومستقيمة.
يبقى ان قلوبنا مع النازحين الى كل مكان وهم في حاجة الينا جميعاً والى ادعيتنا. ارجو ان يلهمنا الرب جميعاً مساعدتهم مباشرة او بواسطة الجمعيات الخيرية وهيئة الاغاثة العليا ولا سيما الاهتمام بطعام الاولاد والادوية للامراض المزمنة. والاهم من كل ذلك ان يكون جيران المؤسسات التي لجأوا اليها في القرب منهم يحسون ان اللبنانيين في المحنة معاً.دعاؤنا الى الله ان ينتهي القتال ليعود كل منا الى دياره وينعم بلدنا بالراحة والسلام.

ليست هناك تعليقات: