الأحد، فبراير 05، 2006

طاهر


بقلم حسن عبد الرزاق
لم يبق من المسافة التي تفصله عن درب التقوى سوى ثلاثين مترا ، بعدها سينعطف شمالا ويلج في شارع المسجد ليرتمي في احضان الرب الذي ابتعد عنه ستين سنة منحطة.
وطاهر الناهض من اجل الصلاة لاول مرة في حياته ، لم يتذكر انه صحا من نومه في ساعة مبكرة كهذه الا حين توفت امه في فجر احد الايام قبل عشرة اعوام ، لذلك فاجاه عالم السحر بعذوبته ولونه الذي يشبه ستاراً اسود شفيفا يضفي جاذبية لذيذة على الاشياء، ولو كان العمر ساعة يدوية طوع التلاعب لامسك بنابضها وارجعه خمسين دورة إلى الوراء ليعود ابن العاشرة ، لكنه كان غيمة صغيرة زخت مطرها على صحراء من رمل فلم تطلع على اثرها نبتة صالحة واحدة وقد تقلصت هذه الغيمة الان ولم يتبق بها سوى قطرات قليلة ستسقط لاحقا عندها تتلاشى من ذاكرة السماء.
- ولكن اين تسقط؟
- في تربة الخير إن شاء الله ، وستترك خلفها نبتة طيبة بالتاكيد ، فالرب رحيم يغفر الذنوب جميعا اذا كانت التوبة صادقة ، وانا الان تبت بقلب صادق ، ومحتاج جدا إلى حوض طهارة اغتسل به حتى ازيل عن سنواتي الستين رائحة الحانات ، ولا بد ان اصبح رقما جديدا يضاف إلى قائمة المسجد .. (ياالله) .
وسمع العصافير على سدرات البيوت تردد وراءه (ياالله)، وتبعتها الملائكة ايضا.. الملائكة التي وجدها تنتظره عند باب داره منذ اعلانه التوبة في غسق الليلة الماضية.. والتفت يمينا وشمالا بوجه مبتسم محدقا في وجوههم النورانية فانبهرت عيناه بضيائهم السماوي وازداد ندما على ضلالته الطويلة التي حرمته من التصبح بوجوه كهذه ، لكن ندمه انطفأ حالا حين تذكر يد الرب العطوف وهي تمسد راسه الليلة البارحة عندما سكب دموعه بغزارة في لحظات استجدائه الرحمة منه ، وهمس من اعماق صدر مطمئن : ماتبت يا إلهي الا من اجل التطهر من نجاسة الخمر والبغايا . ثم استغفر ربه وقبل الانعطاف وقف وتمتم بدعاء مفكك العبارات ارتجله حالا ، بعدها تحرك بخطوات راسخة نحو دار العبادة. كان المسجد يقع في نهاية الشارع المتعامد مع مراب ضيق للسيارات وقربه يقع سوق فرعي يبكر بعض اهله في المجيء قبل الاذان احيانا .انعطف طاهر نحوه وفي خياله ترتسم لوحة رائعة لواجهة المسجد بانواره الفيضية وايات بابه المخطوطة بالكوفي ومنارته الواثبة بعيدا نحو جوف السماء الشاسعة.
كان السحر يخدر البيوت ، يلفها بدثار نوم رائع لايشبه لذته أي نوم آخر ، وبسبب هذا النوم كانت الشوارع فارغة فلم ير سوى خياله الماشي وراءه وامامه بلهفة قطة صغيرة تتبع صاحبها ، لكن هذا الفراغ الهاديء فاجاه فورا في لحظة الانعطاف بكائن غير متوقع جعل جسده يتكهرب بنشوة ممزوجة بارتجافة خوف خفيف هز بطنه. كان الكائن امراة في اواسط العمر ، مكتنزة الجسم ، ذات وجه مستدير ، ولها زندان ريانان فيهما ترافة شهية ،وقد جلست خلف وعاء دائري فيه قشطة هي بضاعتها التي جاءت من اجل إن تبيعها في هذا المكان .توقف طاهر لااراديا .. فقد وجد قدميه يخوران جراء ارتعاشة كثيفة غزتهما حيث كان المشهد غريبا عليه.. ولّد في راسه دهشة هائلة فوجود امراة في هذا الوقت حدث لايصدق عند رجل لم يدعه راسه السكران باستمرار إن يستيقظ الا في التاسعة أو العاشرة ضحى.حدق فيها لثوان عدة منتظرا انتباهة منها نحوه وحين احس بتجاهلها سعل بعض السعلات التنبيهية وتحرك صوبها حارفا قدميه عن مسارهما الذي بكر من اجله:
- صباح الخير
- صباح الخير عمي
- كم هو سعر القشطة؟
- السعر حسب الكمية التي تطلبها
- اريد القشطة كلها .
- ماذا تفعل بها ؟
- انا محتاجها بالكامل من راسها إلى ساقيها.كان جسمه قد تخدر بالكامل واصبح الكلام يخرج من عضو آخر غير لسانه ..
لقد نسي في تلك اللحظات كل شيء وماعاد ينتبه حتى إلى ايدي الملائكة التي التفت حول عنقه واخذ تلويه بقوة نحو واجهة المسجد .كانت القشطة اصعب من إن يقاومها فلونها وترافتها اشعلا في دمه اشتهاء جامحا للاكل . ثمة اكلات تجعل المرء يندفع بكلتا يديه نحوها بدون إن يستاذن من اصحابها .. انها اكلات لا يمكن تعويضها حين تفلت من اليد .. بل هي نعم تضعها السماء في طريقه وما عليه الا إن يلتهم هذا الكرم : مد يدك ياطاهر ولا تخف .. الليل لا يزال يغلف الوجود .. والناس الذين في السوق بعيدون عنك .. انها اكلة صباحية شهية .. شهية جدا .. فخذ منها ما يشبعك. ودفع جذعه للامام وقبله ذراعيه وعبر بعينين نصف مفتوحتين وعاء القشطة وبدون إن يعطي للمراة مجالا للتزحزح عنه انقض على زنديها غامرا اصابعه في اعماق لحمها الترف ودفع شفتيه الملمومتين نحو قشطة وجهها . انفجرت المراة صارخة .. ثم اتت بحركة عنيفة خلصت فيها ذراعيها منه .. وبشراسة قطة متنمرة رفعت من جانبها وعاء الماء الزجاجي وهوت به على راس طاهر الغارق في خمرة جسدها.تشظى الزجاج على راسه ومعه تشظت النشوة وطارت مع الدم الذي نبع من الراس وقبل إن يستقبل ضربة اخرى قفز من قرفصائه وتراجع إلى الوراء ويده تعالج الجرح النازف مستعينة بطرف ثوبه.في تلك اثناء صدحت المنارة ناثرة صوت الرب على مسامع العباد في فضاء الفجر الصيفي .. وبينما كان البعض من الاتقياء يوسعون خطواتهم للوصول إلى باب المسجد .. كان طاهر ينطلق بالاتجاه المعاكس راكضا نحو باب داره هربا من صوت المراة الذي استجار بالاخرين وفي راسه ألم .. وندم على ضياع تلك الاكلة الصباحية.
نقلاً عن دروب

ليست هناك تعليقات: