الخميس، يونيو 15، 2006

ثلاثيّات لمستقبل أفضل



صبحي غندور*

يعيش العرب في هذه الحقبة الزّمنيّة مزيجاً من المشاكل والتّحدّيات على المستويين الإقليمي والعربي. ولعلّ أخطر ما في الواقع العربي الرّاهن هو الشّعور باليأس والإحباط وفقدان الأمل بمستقبل أفضل.
لكن التّعامل مع سلبيّات الواقع والعمل لإيجاد بدائل إيجابيّة يتطلّب الخروج أوّلاً من المأزق الّذي يعيشه الفكر العربي المعاصر في كيفيّة تحديد جملة مفاهيم ترتبط بالهويّة والانتماءات المتعدّدة للإنسان العربي، وبدور الدّين في المجتمع، وبالعلاقة الحتمية بين حرّية الوطن وحرّية المواطن، وبالفهم الصّحيح للعروبة وللمواطنيّة وللعلاقة مع "الآخر"، وأخيراً في التلازم المنشود بين الفكر والحركة.
فهناك قطاع كبير من العرب لا يجد أهمّية الآن للأمور الفكريّة أو للمؤسّسات المهتمّة بالفكر والثقافة، وهذه الفئة من العرب تجد أنّ الأولويّة الآن هي للأمور الحركيّة والعمليّة حيث لا يجوز إضاعة الوقت والجهد في قضايا الفكر والتنظير، بينما في المقابل نجد العديد من المفكّرين العرب يكتفون بطرح الفكر ولا يساهمون في بناء المؤسّسات الّتي تقدر على تحويل الأفكار إلى برامج عمل تنفيذيّة.
إذن، هي معضلة في الاتّجاهين، بل هي شبيهة من النّاحية التطبيقيّة بمن يدفع بأولاده للعمل بدون تحصيل دراسي مقابل من يعيش حياته كلها في الدراسة متنقّلاً بين كلّيات جامعيّة. فالفكر في المجتمع هو كالإعداد الدّراسي والجامعي الّذي يوجد الأساس العلمي والنظري السّليم للأعمال الحركيّة المطلوبة في المجتمع. الفكر هو الّذي يحدّد الأهداف المرجوّة من أي عمل، وهو الّذي يصنع وضوح الرؤية خلال مسيرة تنفيذ برامج العمل. لكن لا قيمة للفكر إذا لم يعالج عمليّاً مشاكل قائمة وإذا ما بقي أسير الكتب وعقول المفكّرين. فالقيمة الحقيقيّة لأي فكرة تتحصّل من مقدار تعاملها مع الواقع ومشاكله والقدرة على تغييره نحو الأفضل.

في هذا السّياق، فإنّ جملة من "الثّلاثيّات" تحتاجها المنطقة العربيّة الآن، وهي "ثلاثيّات" متكاملة يؤكّد كل منها أهميّة وجود الآخر أيضاً:
* ثلاثيّة الوطنيّة والعروبة والإيمان الدّيني: وهي ثلاثيّة ترتبط بمسألة الهُويّة في البلاد العربيّة وبضرورة الانطلاق من دوائر متعدّدة للانتماء لا تتناقض إحداها مع الأخرى، ولا يصحّ طرح ركن منها في مواجهة الآخر.

* ثلاثيّة الوحدة الوطنيّة والاتّحاد العربي والبناء الدّيمقراطي: وهي مسائل تتعلّق بالواقع والمستقبل معاً حيث لا يمكن بناء وحدة وطنيّة متينة بلا نظام ديمقراطي سليم يتساوى فيه المواطنون بالحقوق والواجبات. أيضاً، فإنّ تعزيز الولاء الوطني في البلاد العربيّة هو أمر مهمّ في هذه المرحلة لتجاوز العصبيّات الطائفيّة والعرقيّة ولبناء مجتمع وطني موحّد. وهذه الأمور هي المدخل السّليم لبناء تكامل عربي واتّحاد تدريجي بين البلاد العربيّة (كما النّموذج الأوروبي) يستند على أوضاع وطنيّة داخليّة سليمة، فيكون الاتّحاد العربي المنشود تتويجاً لوحدة وطنيّة شعبيّة ولبناء دستوري يحقّق المشاركة الشّعبيّة الفعّالة.

* ثلاثيّة النظريّة والاستراتيجية والتكتيك: وهي العناصر العلميّة الضّامنة لنجاح أي عمل بشري مشترك إن كان ذلك على صعيد الحكومات أو المؤسّسات المدنيّة. وفي هذه "الثلاثيّة" يجتمع الفكر مع الحركة، والتنظير مع التطبيق. فالغايات الكبيرة (النّظريات) بحاجة إلى خطط عمل (استراتيجيّة) تعتمد المراحل من أجل تنفيذها وتراعي الظّروف المحيطة والإمكانات المتاحة في كل مرحلة، ثمّ يكون العمل الحركي اليومي (التكتيك) مرتبط بهذه الخطط المرحليّة وبمرونة في أسلوب العمل التنفيذي.

* ثلاثيّة الفكر والقيادة والأسلوب: وهي ما تحتاجه مؤسّسات المجتمع المدني من توفّر القيادات السّليمة المعتمدة على أساليب عمل نزيهة وسليمة من أجل خدمة الأهداف الفكريّة. فكم من منظّمات وأحزاب عانت وتعاني من التناقض بين الفكر والأسلوب، أو من قيادات انحرفت عن الفكر وأخضعت الأساليب لمصالحها الشّخصيّة، أو من عنف في الأساليب بينما تتحدّث الشّعارات عن الدّيمقراطيّة وضمان حق الرأي الآخر!

* ثلاثيّة المنطلق والأسلوب والغاية: وهذه "ثلاثيّة" ضروريّة في عمل الأفراد أو الجماعات. فتحديد الغاية وحده لا يكفي من دون المعرفة الدّقيقة للواقع الّذي يتمّ الانطلاق منه، وبالتّالي للوسائل المطلوبة من أجل الوصول للغاية. فالأفراد والجماعات هم في هذه "الثلاثيّة" كالمسافر الّذي يعرف أنّه في النّقطة ( أ ) ويريد السّفر إلى النّقطة ( ب ) ويحدّد وسيلة السّفر المناسبة لإمكاناته. لكن في واقع الحياة العمليّة، يتوه كثيرون في طريق سفرهم نحو الغايات المنشودة، أو يرى بعضهم الواقع ختام سفره في الحياة، وليس منطلقاً نحو غايات جديدة وأوضاع أفضل. وحينما يحدّد الفرد (أو الجماعة) عناصر هذه "الثلاثيّة"، فمن المهمّ إدراك أنّ الغايات قد تكون متعدّدة، لكن من المهمّ ترتيب أولويّات لها، تماماً كمحطّات السّفر من مكان إلى آخر، كذلك الأساليب فهي متعدّدة ومرنة تبعاً للظروف والإمكانات، أمّا الواقع (المنطلق) فهو حالة قائمة لا خيار لنا فيها. الخيارات هي فقط في الغايات والوسائل، لكن عندما نحقّق الغاية نكون عندها في واقع جديد ننطلق منه لغاية أخرى.

*ثلاثيّة الأسئلة: ماذا، متى، كيف : وهي "الثلاثيّة" العمليّة الغائبة عموماً في التّعامل مع مشاكل المجتمع العربي. بينما "الثلاثيّة" السلبيّة الحاضرة دائماً هي أسئلة: ( من، أين، ولماذا) وهذه أسئلة فيها الكثير من التّحليل والتّوصيف للحاضر والماضي، ولا تنفع وحدها في تغيير الواقع.
إنّ الإجابة على أسئلة: "ماذا نريد"؟ و "كيف" يمكن تحقيق ما نريد؟ "ومتى"؟ ، هي ما نحتاجه عربيّاً الآن على مستوى " ثلاثيّة": الحكومات والمنظّمات والشّعوب.


*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن
alhewar@alhewar.com

ليست هناك تعليقات: