د. لؤي صافي*
تعرضت الدول العربية على مدار نصف القرن الماضي إلى سلسلة من الإخفاقات السياسية والعسكرية في مواجه تحديات الداخل والخارج. فقد عجزت الأنظمة العربية عن تحقيق الوحدة التي تغنت بها طويلا، وجعلتها شعارا وطنيا لها، بدءا بالوحدة الثنائية بين مصر وسوريا، ومرورا بمشروع الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق، ومشروع الوحدة الثلاثية بين سوريا ومصر وليبيا، ومشروع الوحدة بين مصر وليبيا والسودان، وانتهاء بالوحدة الثنائية بين سوريا والعراق التي لم يكتب لها النجاح رغم تشابه الرؤية السياسية. وتكاد الوحدة اليمنية تشكل حالة الإستثناء الوحيدة التي تبعث الأمل في إمكانية الوحدة.
كذلك أخفت الأنظمة العربية في تحقيق النصر في سلسلة الحروب التي خاضتها مع أعدائها المتربصين بها، بدأ من حرب حزيران، ومرورا بحرب تشرين التي شهدت نصرا جزئيا، وانتهاء بحرب العراق. ويكاد تحرير الجنوب اللبناني بجهود رجالات المقاومة يشكل الاستثناء الوحيد الذي يظهر إمكانية النصر عندما تجتمع القلوب، ويصبح المواطن شريكا في بناء الوطن والدفاع عن حياضه.
وبالمثل أخفت الدول العربية في تطوير أنظمة تعاون سياسي واقتصادي. فجامعة الدول العربية أقرب إلى المؤتمرات الدورية التي يتبادل الحضور فيها الآراء منها إلى مؤسسة عربية تسعى إلى تطوير سياسات أمنية واقتصادية مشتركة، والسوق العربية المشتركة لازالت حلما بعيد المنال.
سلسلة الإخفاقات التي شكلت والوعي العربي خلال العقود الخمسة الماضية أضعفت شعور المواطن العربي بالمسؤولية الوطنية، وأضاعت ثقته بنفسه وبقدرته على بناء الداخل ومواجهة تحديات الخارج، وحولته إلى مراقب للأحداث، وناقد لاذع لا يملك إلا الشكوى وإلقاء التهم جزافا، وتحميل مسؤولية عجزه وفشله على الإنظمة العربية تارة، والغربية تارة أخرى، دون استشعار أي مسؤولية شخصية.
يكمن، في تقديري، موطن الفشل في الحياة السياسية العربية في القطعية والوثوقية في التعامل مع مسائل الخلاف وقضايا التنوع والاختلاف، وغياب المهارة في الحوار، والميل إلى استخدام القوة والعنف في حل المشكلات. فالقطعية والوثوق يحولان دون الرغبة في فهم الرأي الآخر واحترام الموقف المغاير، وغياب المهارة في الحوار تحول دون تفاهم القوى السياسية والاجتماعية المختلفة، وتمنع تناصفها عبر حلول تعكس رؤاها المتخلفة وحاجاتها المتنوعة.
القطعية في الحكم على الأحداث، والوثوق من الصواب المطلق للموقف الذي يتخذه الفرد والجماعة يجعلان التفاهم بين الجماعات الاجتماعية والسياسية والدينية المختلفة مستحيلا، ويحولان خلاف الرأي والرؤية إلى اختلاف في القلوب وفي الولاءات، ويحيلان المغاير في الفهم والرأي إلى خائن عميل في الدوائر العلمانية أو إلى كافر زنديق في الدوائر الدينية، والمشكلة هي هي، مشكلة الفهم الوثوقي.
الوثوقية في القناعات والقطعية في الحكم يجعلان الحوار صعبا، والتعاون مستحيلا، ويحيلان الخلافات الفكرية إلى انقسامات اجتماعية وصراعات سياسية، وبالتالي يجعلان الوحدة الوطنية حلما بعيد المنان، ناهيك عن الوحدة بين دول مستقلة. فلا عجب إذن أن عجزت الأنظمة العربية خلال العقود الماضية عن تحقيق الوحدة بين الدول المستقلة بعد أن فشلت في تحقيق الوحدة الوطنية داخل بلدانها وبناء السلم الاجتماعي بين مواطنيها. ولا غرابة في أن يخفق العرب في التصدي إلى العدوان الخارجي، بعد أن أصبح بأسهم بينهم شديد، فاستخف بهم أعداءهم المتربصين.
وتزداد حدة الصراع والانقسام بين الإخوة يوما بعد يوم، وتزداد معها المنظومة العربية تشرذما وضعفا، كما تزداد شراسة الطامعين وتسلطهم. ولا مخرج من المأزق الحالي إلا في الوحدة الوطنية والوفاق بين القوى السياسية الفاعلة، والتزام الجميع بقواعد للعمل السياسي تقوم على احترام الخلاف، وإبقاءه خلافا على مستوى الرأي والفكرة، لا على مستوى القلوب، والاحتكام إلى القوانين التي تحفظ الحقوق، وتمنع الظلم والعدوان، بدلا من الاحتكام إلى القوة والعنف، وإلى إرادة الشعوب وخياراتها المصيرية، بدلا من إملاءات الطامع المستخف.
استخدام القوة والعنف للحفاظ على تماسك المجتمع المدني قد يمنع الانقسام الداخلي إلى حين، لكنه يحيل المجتمع إلى بركان هامد قابل للإشتعال وإحراق الأخضر واليابس لدى تعرضه لأية هزة، كما يحدث اليوم في العراق. والتعاون والتعاضد بين القوى السياسية يحيلان المجتمع الصغير إلى قوة اجتماعية وسياسية وعسكرية هائلة، ويمكنانه من تحقيق الحرية والسيادة له والكرامة لأبنائه، كما حدث للمقاومة الباسلة في لبنان، التي استمدت قوتها من التفاف الشعب اللبناني بمختلف فئاته حولها، وتكاتف شعوب المنطقة العربية والإسلامية معها، ودعم كفاحها لتحقيق استقلالها وسيادتها على كامل ترابها.
الوحدة الوطنية لا يمكن أن تنبنى على التطابق في الرؤى أو الآراء، بل على احترام الخلافات، وإبقائها على مستوى الخطاب الفكري والسياسي، ورفض تحويلها إلى خلافات شخصية واتهامات وطنية أو أخلاقية. كذلك فإنها تنبنى على الوفاق الوطني والاحترام المتبادل بين المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والفكرية والاجتماعية، والاعتراف بحقهم في بناء الوطن. والوحدة العربية لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال تحقيق وحدة وطنية بين أبناء المجتمعات السياسية العربية المختلفة. وسيادة الدول العربية واستقلالها لن يكتمل إلا عبر تحقيق درجة عالية من التعاون السياسي والاجتماعي والأمني.
حلقات الوفاق والوحدة والسيادة حلقات متداخلة يأخذ بعضها برقاب بعضها الأخر، تجتمع معا لتحول الإنسان الفرد من دائرة الرعية إلى دائرة المواطنة، وتحول المجتمع العربي من مجتمع ينقسم بين سادة وعبيد، إلى مجمع أحرار يثريه تعدد آراء ابناءه ومواقفهم وقراراتهم، ولايفسد خلافهم للود قضية.
ISNA*مدير مركز
للتنمية القيادية
انديانا – الولايات المتحدة
louay@isna.net
تعرضت الدول العربية على مدار نصف القرن الماضي إلى سلسلة من الإخفاقات السياسية والعسكرية في مواجه تحديات الداخل والخارج. فقد عجزت الأنظمة العربية عن تحقيق الوحدة التي تغنت بها طويلا، وجعلتها شعارا وطنيا لها، بدءا بالوحدة الثنائية بين مصر وسوريا، ومرورا بمشروع الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق، ومشروع الوحدة الثلاثية بين سوريا ومصر وليبيا، ومشروع الوحدة بين مصر وليبيا والسودان، وانتهاء بالوحدة الثنائية بين سوريا والعراق التي لم يكتب لها النجاح رغم تشابه الرؤية السياسية. وتكاد الوحدة اليمنية تشكل حالة الإستثناء الوحيدة التي تبعث الأمل في إمكانية الوحدة.
كذلك أخفت الأنظمة العربية في تحقيق النصر في سلسلة الحروب التي خاضتها مع أعدائها المتربصين بها، بدأ من حرب حزيران، ومرورا بحرب تشرين التي شهدت نصرا جزئيا، وانتهاء بحرب العراق. ويكاد تحرير الجنوب اللبناني بجهود رجالات المقاومة يشكل الاستثناء الوحيد الذي يظهر إمكانية النصر عندما تجتمع القلوب، ويصبح المواطن شريكا في بناء الوطن والدفاع عن حياضه.
وبالمثل أخفت الدول العربية في تطوير أنظمة تعاون سياسي واقتصادي. فجامعة الدول العربية أقرب إلى المؤتمرات الدورية التي يتبادل الحضور فيها الآراء منها إلى مؤسسة عربية تسعى إلى تطوير سياسات أمنية واقتصادية مشتركة، والسوق العربية المشتركة لازالت حلما بعيد المنال.
سلسلة الإخفاقات التي شكلت والوعي العربي خلال العقود الخمسة الماضية أضعفت شعور المواطن العربي بالمسؤولية الوطنية، وأضاعت ثقته بنفسه وبقدرته على بناء الداخل ومواجهة تحديات الخارج، وحولته إلى مراقب للأحداث، وناقد لاذع لا يملك إلا الشكوى وإلقاء التهم جزافا، وتحميل مسؤولية عجزه وفشله على الإنظمة العربية تارة، والغربية تارة أخرى، دون استشعار أي مسؤولية شخصية.
يكمن، في تقديري، موطن الفشل في الحياة السياسية العربية في القطعية والوثوقية في التعامل مع مسائل الخلاف وقضايا التنوع والاختلاف، وغياب المهارة في الحوار، والميل إلى استخدام القوة والعنف في حل المشكلات. فالقطعية والوثوق يحولان دون الرغبة في فهم الرأي الآخر واحترام الموقف المغاير، وغياب المهارة في الحوار تحول دون تفاهم القوى السياسية والاجتماعية المختلفة، وتمنع تناصفها عبر حلول تعكس رؤاها المتخلفة وحاجاتها المتنوعة.
القطعية في الحكم على الأحداث، والوثوق من الصواب المطلق للموقف الذي يتخذه الفرد والجماعة يجعلان التفاهم بين الجماعات الاجتماعية والسياسية والدينية المختلفة مستحيلا، ويحولان خلاف الرأي والرؤية إلى اختلاف في القلوب وفي الولاءات، ويحيلان المغاير في الفهم والرأي إلى خائن عميل في الدوائر العلمانية أو إلى كافر زنديق في الدوائر الدينية، والمشكلة هي هي، مشكلة الفهم الوثوقي.
الوثوقية في القناعات والقطعية في الحكم يجعلان الحوار صعبا، والتعاون مستحيلا، ويحيلان الخلافات الفكرية إلى انقسامات اجتماعية وصراعات سياسية، وبالتالي يجعلان الوحدة الوطنية حلما بعيد المنان، ناهيك عن الوحدة بين دول مستقلة. فلا عجب إذن أن عجزت الأنظمة العربية خلال العقود الماضية عن تحقيق الوحدة بين الدول المستقلة بعد أن فشلت في تحقيق الوحدة الوطنية داخل بلدانها وبناء السلم الاجتماعي بين مواطنيها. ولا غرابة في أن يخفق العرب في التصدي إلى العدوان الخارجي، بعد أن أصبح بأسهم بينهم شديد، فاستخف بهم أعداءهم المتربصين.
وتزداد حدة الصراع والانقسام بين الإخوة يوما بعد يوم، وتزداد معها المنظومة العربية تشرذما وضعفا، كما تزداد شراسة الطامعين وتسلطهم. ولا مخرج من المأزق الحالي إلا في الوحدة الوطنية والوفاق بين القوى السياسية الفاعلة، والتزام الجميع بقواعد للعمل السياسي تقوم على احترام الخلاف، وإبقاءه خلافا على مستوى الرأي والفكرة، لا على مستوى القلوب، والاحتكام إلى القوانين التي تحفظ الحقوق، وتمنع الظلم والعدوان، بدلا من الاحتكام إلى القوة والعنف، وإلى إرادة الشعوب وخياراتها المصيرية، بدلا من إملاءات الطامع المستخف.
استخدام القوة والعنف للحفاظ على تماسك المجتمع المدني قد يمنع الانقسام الداخلي إلى حين، لكنه يحيل المجتمع إلى بركان هامد قابل للإشتعال وإحراق الأخضر واليابس لدى تعرضه لأية هزة، كما يحدث اليوم في العراق. والتعاون والتعاضد بين القوى السياسية يحيلان المجتمع الصغير إلى قوة اجتماعية وسياسية وعسكرية هائلة، ويمكنانه من تحقيق الحرية والسيادة له والكرامة لأبنائه، كما حدث للمقاومة الباسلة في لبنان، التي استمدت قوتها من التفاف الشعب اللبناني بمختلف فئاته حولها، وتكاتف شعوب المنطقة العربية والإسلامية معها، ودعم كفاحها لتحقيق استقلالها وسيادتها على كامل ترابها.
الوحدة الوطنية لا يمكن أن تنبنى على التطابق في الرؤى أو الآراء، بل على احترام الخلافات، وإبقائها على مستوى الخطاب الفكري والسياسي، ورفض تحويلها إلى خلافات شخصية واتهامات وطنية أو أخلاقية. كذلك فإنها تنبنى على الوفاق الوطني والاحترام المتبادل بين المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والفكرية والاجتماعية، والاعتراف بحقهم في بناء الوطن. والوحدة العربية لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال تحقيق وحدة وطنية بين أبناء المجتمعات السياسية العربية المختلفة. وسيادة الدول العربية واستقلالها لن يكتمل إلا عبر تحقيق درجة عالية من التعاون السياسي والاجتماعي والأمني.
حلقات الوفاق والوحدة والسيادة حلقات متداخلة يأخذ بعضها برقاب بعضها الأخر، تجتمع معا لتحول الإنسان الفرد من دائرة الرعية إلى دائرة المواطنة، وتحول المجتمع العربي من مجتمع ينقسم بين سادة وعبيد، إلى مجمع أحرار يثريه تعدد آراء ابناءه ومواقفهم وقراراتهم، ولايفسد خلافهم للود قضية.
ISNA*مدير مركز
للتنمية القيادية
انديانا – الولايات المتحدة
louay@isna.net
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق