بقلم د. إبراهيم عباس نـَتــّـو
عميد سابق في جامعة البترول
مع تنامي النهضة الحالية الاقتصادية الاجتماعية الفكرية الإنسانية في البلاد، وخاصة مع بدء العهد الزاهر، و مع تـنامي بل تطافر، الطفرة النفطية التاريخية الحالية (و هي الطفرة الثانية بعد "الأولى" التي عاصرناها في منتصف السبعينات من القرن الماضي بدءاً بمعقبات حرب 1973م و الأزمة النفطية التي رافقتها و تلتها)..
..فقد يحسن بنا الوقوف برهة.. و التأمل فيما يجري و يركض و يتراكض عندنا في خضم سيلان السيولة النقدية الجديدة و شبه المفاجئة..بعد وصول سعر برميل النفط الخام إلى السبعين دولاراً..بل و تعداها- و ذلك بعد العديد من السنوات التي راوحت بين منزلتي شيء من الندى و شيء من الجفاف، تمثلت في "ترشيد" الإنفاق، و ميزانيات العجز المتواصل، و ما تبعه من الاستلاف من متعدد المصادر بما رفع الدين العام إلى مستويات متعالية.
أما الآن، و منذ ما قبل الصيف الماضي.. و مع تدفق المداخيل و تفاقم الإيرادات و تلاطم سيول سيولتها، فلقد آن الأوان لتغطية كل "عجز"، و اللحاق بالقيام بكل ما يمكن تغطيته من لوازم وطنية إنشائية (في كافة البنيات الأساسية / التحتية) من إسكان، و طرقات، و خدمات علاجية لائقة، و مدارس (غير مستأجرة)، و تعميم المرافق الترفيهية و الرياضية و خاصة الحدائق العامة و الفرعية في أنحاء المدينة الواحدة.. و كذلك بالطبع محطات تنقية الصرف الصحي و إعادة تدوير أطنان المخلفات..الخ.
ثم.. وهذا موطن القصيد هنا في هذه المقالة: عدم المضي في إغفال الحاجات البشرية غير المادية،.. بل لزوم إدراج و لو بعض الموضوعات والمشروعات النفسية/ الترويحية، للأخذ بالإنسان إلى مستويات أرقى من التنعم بالحياة. هنا أركز على حاجة الإنسان إلى أهمية الترفيه و التمتع بالحياة..فيما وراء المأكولات و المشروبات و الملبوسات و اقتناء فواخر السيارات..و مضطرد التعالي في بناء العمارات و "الفيللات" و ما يلحقها من الملحقات.
فلعله آن الأوان (و ربما كان قد آن منذ الطفرة النفطية الأولى..أي قبل أكثر من 3 عقود) بأن نبدأ الاعتناء بالنواحي الأقل مادية، و بالاهتمام بالمجالات الأكثر "نوعية" في الحياة. و لعل الكثير منا بدأ الشعور..منذ أمد بعيد.. بأننا نحتاج إلى ما وراء الأكل و الشرب و ما شابهما،... و أن ليس بالقرصان وحدها يحيا الإنسان.
و في هذا السياق، لعله أمسى من المناسب البدء في الإحساس بأهمية العيش الأكثر رغداًً.. و الاهتمام بالنواحي الأكثر تمدناً و حضارة و رقياً. و يدخل ضمن ذلك رعاية الفنون الجميلة بأنواعها السبعة، و مع ما يصاحبها في أفلاكها من فروع و مرادفات.. تضيف في مجموعها إلى الحياة ألقاً، و تجعل في المناخ العام رونقاً، فيما وراء الانشغال اليومي الرتيب المضني والممل..المتميز حالياً بالتركيز على تعددية المأكولات بلحومها و شحومها، و بالمتكدس من المقتنيات و المتراكم من الديكورات..و الإسراف في كل هذا و ذاك (و كأنه تعويض مبطن عن الحرمان من النواحي الروحية الترويحية النفسية ..غير المادية.) (أشارت إحصائية دولية صدرت قبل أيام عن أن المملكة العربية السعودية تعد في مصاف الدول التي تعتري شعبـَها السمنة ُالمفرطة، بل تقع في مرتبة العشرة الأوائل؛ أما عن مرض السكري، الذي عادة ما يأتي من عواقب السمنة المفرطة، فقد أشارت نفس تلك الإحصائية إلى أن 40% من السعوديين يعاونون من مرض السكري..)
أقولُ ربما آن الأوان أكثر من أي وقت مضى، للاعتناء بما يُسعد الإنسان و ما يَسمو بأحاسيسه، بما تنعمُ معه العين،و ما يرهفُ له السمع و يطربُ له الوجدان.
بما في ذلك الفنون الموسيقية.. و بقية الفنون الجميلة السبعة.. و التي يحسن أن نهتم بها في مجملها. (أنوه هنا فقط ببعضها: فن المسرح و التمثيل؛ و فنون النحت والخزف و الأشكال؛ و فن السينما..الفن السابع)؛ و كذلك الفنون الاستعراضية المتنوعة،.. فليس بالعـَرْضة وحدها يرقص الإنسان.
كونسرفتوار سعودي، معهد لفنون الموسيقي:-
مما تحتاجه البلاد.. منذ عشرات السنين..هو إقامة عدد من المعاهد التي تنمّي الإحساس السمعي و ترقىَ بالذوق الموسيقي عند مواطنينا الراغبين، و هم في أعداد متنامية؛ و ذلك باشتمال أيامنا الدراسية في المعاهد والمدارس على أجزاء من البرامج الإنشادية الموسيقية، سماعاً و أداءً. فلعله من الواضح أهمية و قيمة الموسيقى.. و فوائدها النفسية و الصحية و التراثية الحضارية الثقافية..و في بث أوجه الحبور الاجتماعي.
فالموسيقى هي لون من ألوان التعبير الإنساني قد يتم التعبير فيها و بها عن خلجات القلب المتألم الحزين، و كذلك عن النفس المرحة المرتاحة؛ و في الموسيقى قد يأتي المرء على جملة من الانفعالات التي فيها ما فيها من الرموز التعبيرية المتناسقة.. في "مقاطع" معزوفة يحس بها مرهفُ الحس أو من كان "ذوّاقة" ينفعل ويتفاعل سماعياً و وجدانياً و فكرياً، يحس بها إحساساً عميقاً و ينفعل به انفعالاً متجاوباً، مثله مثل أي من الكائنات الحية. فالموسيقى -و بخاصة تلك الموسيقى الراقية- تساهمُ في إراحة النفس و في علو الروح و سمُوِّها.
و لكن الموسيقى ليست مجرد أنغام؛ بل هي وسيلة "للتواصل"، لالتقاء الذهن و الروح عند الشخص الواحد؛ و هي أيضاً وسيلةٌ فاعلة اجتماعية و تربوية تساهم في عمليات التفاهم و في تنمية الحس الشخصي؛ و تعمل على إدخال البهجة على النفوس و في تجميل العالم من حولنا.
كما تساهم الموسيقى إسهاماً فعالاً في تبادل التآخي الثقافي الحضاري و توثيق الصلات و تقوية عُرى الصداقة و المودة و تسهيل التعاون و التقارب بين الناس على المستوى المحلي في البلد الواحد، و بين مختلف الشعوب على مستوى الكون. و لعله من الممكن لنا أن نكون صورة أو فكرة عن أي بلد بوقوفنا على نوع و مستوى موسيقاه!
و كما في الموسيقى و الغناء، فهناك الحركات المُموسقة المعتمدة عليها؛ و هذا يعني و يشمل الأداءات الاستعراضية و الحركات البدنية من الرقصات بأنواعها، الجماعية و الشعبية و الكلاسيكية و الفردية.. فبالرقصات تكتمل و تتماهى المعزوفات.
إن أداء الحركات المُموسقة (الرقص بأنواعه) هو أداء طبيعي و هو وسيلة للتعبير عند الإنسان في كافة أرجاء المعمورة و في مختلف الأوطان ..التقليدية منها و الحديثة. و ما رقصة "العـَرضة" في شبه الجزيرة العربية إلاً مثالٌ حي و مستمرٌ عبر حقب الأزمان، في الهضاب و البراري و السفوح و الوديان. و"العـَرْضة" تقليد موسيقى يؤدى في عدة مناطق في المملكة العربية السعودية ..عدا الحجاز و عسير(حيث تتوافر أنواع من الرقصات المحلية الفلكلورية في كل منهما)؛ ثم هناك العديد من الرقصات في منطقة الخليج، مثل موسيقى و رقصة "الّليوة"، و موسيقى و رقصة الطنبورة، و كلاهما جاء إلى الخليج من الساحل الأفريقي الشرقي. كما و تشتهر في منطقة الخليج أيضاً رقصة "الكاسر"(أو الحَربة) و أصلها من الساحل الشرقي للخليج (إيران) و هناك عدد من الرقصات النسائية، مثل رقصة "النَّشِل" التي تؤديها الفتيات على ساحل البحر و هن مرتديات فساتين ("ثياب") النشل احتفالاً بعودة أزواجهن و ذويهن الغواصين.
و كما في المدن و القرى على ساحل الذهب الأسود (الخليج)، فإن لمدن المناطق الأخرى أيضاً أداءاتها الاستعراضية المُموسقة، بما يشمل قرى تهامة و جبال الحجاز، برقصاتها الشعبية المتميزة المتعددة؛ ففي مدن الحجاز، مثل مكة المكرمة و "عروس البحر" جدة ، كانت و لا زالت رقصة "المِزمار" تؤدَى تقليدياً في الحارات، في مختلف المناسبات.
و في أنحاء العالم، لا تكاد منطقة و لا دولة إلا و تقام فيها رقصاتها الشعبية(الفولكلورية)..من جزر المحيط الهادئ و أرخبيل اليابان (أنواع الـ"ماتسوري" =الاحتفال) و الفلپـين وإندونيسيا شرقاً..إلى أنحاء أوربا، مروراً بدول الشرق الأوسط، و على رأسها الرقصات المشهورة بـ"الدبكة"..بأنواعها اللبنانية و الفلسطينية والأردنية و السورية و العراقية..حيث یؤديها الراقصون/و الراقصات -و منها ما تؤديه النسوة حصراً- في أداء مختلف رقصات الدبكة..مثل تلك المخصصة للبذر و الجَني و الحصاد.
فبالموسيقى و بالغناء تنتعش النفوس و تسمو الأرواح، و بخاصة حينما يتم الجمع بين الغناء الجميل و الموسيقى الرخيمة و الأبيات الشعرية الجميلة، و الحنجرة الصادحة الندية، فيأتي "الكورال" بالأغنية و النشيد، رائعَ اللحن شجيَّ النغمات، فتهتز معه الأسماع و تطرب له النفوس لحناً و معنى. فما الإنسانُ و ما الأنْسَنة.. و ما "الأنسُ" إلا رفاق في دروب عشق الحياة.
فالمقترح هنا هو تعميم إقامة معاهد وطنية و مناطقية و محلية للنهوض بالموسيقى وتشجيع مختلف قطاعات المجتمع للتضافر في هذا المجهود..سعياً إلى تنمية الحس المرهف عند الناس ..كأفراد من ناحية.. وإلى إعادة إحياء شيء من التراث الوطني الموسيقي ..الفلكلوري منه و المخضرم و الكلاسيكي..و ذلك بالتناغم مع التراث الموسيقي العالمي من ناحية..و ما يتصل بخصائص وتراث العطاء الفني السمعي في كل منطقة حسب إمكاناتها و استعداداتها.
التعاون بين القطاع العام والقطاع الخاص:-
و في هذا وذاك من مختلف المجالات الفنية ..يمكن أن تقوم في البلاد نهضة ذات "قفزة نوعية"..فنية، ثقافية؛ و يمكن أن تقام مختلف "الصناعات" الترفيهية و الترويحية و السياحية لإمتاع عموم المواطنين المهتمين..و لزوار البلاد المرتقبين بعد إقرار الدولة بصفة رسمية و بعد أن حزمت أمرها و حسمت مبدأ الولوج إلى عالم الحراك البشري العالمي بتشجيع الاستثمار بأنواعه بما يدفع عجلات إلى مزيد من التقدم.. بما فيه النمو السياحي، فيما وراء الحج و العمرة؛ و التهيؤ لاستقبال الزوار من أنحاء المعمورة، لزيارة البلاد و التجوال فيها لرؤية معالمها و آثار تاريخها و تراثها الفني و أطلالها وعمرانها و فلكلورها في مختلف المناطق، و مدى إسهامات شعبها في مسار الفنون الجميلة.. و أوجه المسيرة البشرية الإبداعية.. و مقارنتها على مستوى العالم بين الـ192 دولة حالياً، حيث أنه بدا جلياً أن "السياحة" تأتي في الدرجة الثانية مباشرة عالمياً.. حيث الاستثمار، و المردود. فستكون المنافسة جد شديدة.
و إذا كان ما قد دأبنا عليه.. في غياب إقامة معاهد للفنون الموسيقية.. هو اعتمادنا في مجال الموسيقى على مجهودات فردية في المجال الخاص..فإنه –رغم ذلك- كان قد نبغ في مجال الموسيقى، و بخاصة في الحجاز، خلال القرن الماضي عدد من الفنانين و الفنانات؛ فكان ممن اشتهر من الرجال: حسن جاوة، الذي شارك بمجموعة أغاني في مهرجان الغناء العربي الأول في القاهرة،1923م؛ و الشريف هاشم العبدلي الذي سجَّل عدداً من الأغاني على عدة أسطوانات في القاهرة (توفي في 1926م)؛ ثم جاء فيما بعد: الموسيقارون الكبار: طارق عبدالحكيم، و محمد علي سندي؛ و طلال مداح، و غازي علي، و عبدالله محمد، و فوزي محسون، ومحمد عبده، وعبادي الجوهر، و علي عبدالكريم، و محمد عمر؛ ثم أبو بكر سالم بالفقيه، و من بعده ابنه أصيل ؛ ثم برز: راشد الماجد؛ عبدالمجيد عبدالله؛ عبدالله رشاد؛ و المطرب "الجَسّيس" محمد أمان،. ْْْْكما كان من المطربات الحجازيات الشهيرات المعاصرات: المطربة الفنانة "توحة" (فتحية حسن يحي)؛ و ابتسام لطفي، و كذلك عتاب. و ممن جاء في الجيل الجديد من برز في داخل البلاد و خارجها: جواد علي، إبراهيم عبدالله، عباس إبراهيم. و من اليافعات الواعدات: سارة الغامدي؛ وعد؛ رحاب؛ ود ..و غيرهم/ غيرهن.
ثم طفق مطربونا المحدثون و بعض المخضرمين يعتمدون في تجهيز و تطوير و تسجيل معزوفاتهم على الموارد والمرافق المتوافرة بوفرة في خارج البلاد، سواء في مصر ولبنان..أو في منطقة الخليج، و مؤخراً في دُبي بالذات؛ كما واضطر عدد من المحدثين من المطربين من التسجيل و التصوير السينماتوگرافي المطلوب للمعزوفات ..في أماكن أخرى في العالم، شرقاً و غرباً.
و لكن في غالب الأحوال..اعتمد هذا و هذه وذاك على المجهود الفردي و التمويل الشخصي. و في سيرورة هؤلاء الفنانين و الفنانات. في معظم الأحيان، بدأ الأداء و تطورت المواهب في طي المحاولات و الاجتهادات و على مستوى الهواية ..بعيداً عن التدريب الرسمي أو التأهيل المعهدي المؤسسي 0فيما عدا "د. عبدالرب إدريس" الذي حظيت به السعودية منذ فترة. و بقيت-- على مدى الأيام، و على كل حال-- الحاجة الماسة إلى إقامة كونسرفتوار.
فالأمل معقود على الجهات الرسمية (وزارة "الثقافة و الإعلام"؛ و الهيئة العامة للسياحة) و فيما ورائهما نتطلع إلى القطاع الخاص و خاصة الموسرين و كبار التجار المهتمين بارتقاء النوعية الحياتية والثقافية إلى مستويات أرقى؛ فيؤمل من المشتغلين في مجال الفنون و الموسيقى (مثل عميد روادنا الفنان الكبير طارق عبدالحكيم –ليعاود قيادة الحركة الفنية الموسيقية..بسمعته و منزلته و أقدميته)؛ و مثل الفنان محمد عبده الذي سمعت انه اكتسب مؤخراً مئات الملايين لقاء عدد من مجموعته الغنائية ..في صفقة حديثة مع إحدى المؤسسات القومية الرائدة المشكورة، "روتانا"؛ فمن "حق" هذا الفنان للوطن السعودي..و من حق محبـيه في فضاء الوطن العربي.. أن يسهم في إنشاء كونسرفتوار قومي.. يتركه تراثاً تالداًًَ و لحناً خالداً.. فيقوم بما لم تستطعه الأوائل من الخالدين لضيق ما بأيديهم مثل كوكب الشرق السيدة أم كلثوم.. و صاحب "النهر الخالد".. محمد بن عبدالوهاب ..طيب الله ثراهما.
ففي مجال الفنون الموسيقية، يحسن أن تتضافر مجهودات و عطاءات القطاع الخاص من مؤسسات و شركات و أفراد، و ألا نستمر في المضي .. كما كنا منذ عشرات السنين..بالاكتفاء بالمجهودات الشخصية و الفردية من قبل عدد محدود ممن جادت به بلادنا من مبدعين و تم خلالها و طيلتها الاقتصار على أشخاص لم يتجاوز عددهم أصبع اليد الواحدة.. و أحياناً زادت عن ذلك قليلاَ.
فلتكن لدينا أكاديمية لفنون الموسيقى على المستوى الوطني، و لو بدءاً بمدينة جدة، عروس البحر. و من نافلة القول أن إقامة معهد عال للموسيقى يتطلب--بالطبيعة- إقامة أكثر من أكاديمية فرعية في مختلف أنحاء البلاد.. ليتم تنامي إعداد الطلاب و الطالبات في مختلف المعاهد بما يتواكب مع إنشاء المعهد الوطني و ليزوده بعصارة الدارسين المتدرجين في سلم هرمية التعلم و الارتقاء لتغذي صفوتـُهم أعدادَ المنضمين إلى المعهد العالي للموسيقى، أكاديمية الفنون الموسيقية.. الكونسرفتوار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق