صبحي غندور*
معضلة التحرّك الأميركي في الشأن الفلسطيني، تكمن في أنَّ واشنطن تعتمد على مقارنة ما تفعله إسرائيل في فلسطين بما تفعله واشنطن في حربها على الإرهاب: المقاتلون ضدَّ إسرائيل هم كجماعة القاعدة، والعمليات الفلسطينية ضد إسرائيل هي مثل الهجوم الإرهابي على أميركا، والعقوبات الإسرائيلية الجماعية على الفلسطينيين هي مثل معاقبة أميركا للمتهمين بالعلاقة مع حركتي طالبان والقاعدة ..
ولأنَّ واشنطن رفضت سابقاً دعواتٍ عربيةٍ ودولية لعقد مؤتمرٍ دولي لتحديد مفهوم الإرهاب وللفرز بينه وبين حقِّ المقاومة للاحتلال، فقد جاءت الأحداث الإرهابية في سبتمبر عام 2001 في أميركا لتكون أفضل هدية للسياسة الشارونية في المنطقة ولآفاق علاقات تل أبيب مع واشنطن.
فإسرائيل أظهرت امتعاضاً شديداً حينما تجنّبت أميركا في السابق وضع المنظمات الفلسطينية واللبنانية التي تقاتل إسرائيل في لائحة الدول والجماعات الإرهابية، ثمَّ خضعت واشنطن للمطلب الإسرائيلي لاحقاً فأصبحت أيّة جماعة فلسطينية أو لبنانية، تواجه الاحتلال الإسرائيلي، هي جماعة إرهابية في المفهوم الأميركي، وعليها تنطبق كلّ العقوبات الأميركية، كما تُطبَّق إجراءات الملاحقة على كلّ من يتعاطف معها داخل الولايات المتحدة.
إنَّ السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط (وبغضّ النظر عن شخص الحاكم في واشنطن) ما زالت أسيرة مفاهيم الحرب الباردة التي كان لإسرائيل خلالها دور بارز في تحقيق المصالح الأميركية. اليوم، إسرائيل هي عبء كبير على أميركا وعلى مصالحها في العالمين الإسلامي والعربي، ولم تعد اليوم إسرائيل وشواطئها هي المتاح الأساس للتسهيلات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط (كما كانت في حقبةٍ طويلة في الحرب الباردة)، ولم تعد إسرائيل مصدر أمنٍ وحماية للمصالح الأميركية، بل إنَّ تلك العلاقة الخاصَّة معها سبّبت تهديداً لمصالح واشنطن في بقعةٍ جغرافيةٍ تمتدّ من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي، ويعيش عليها مئات الملايين من العرب وغير العرب، وترتبط ثروات هؤلاء أصلا،ً بل وسائر خيراتهم الاقتصادية، ارتباطاً شديداً بالشركات والمصالح الأميركية.
إنَّ المفهوم الأميركي للإرهاب أصبح هو نفسه مصدر تشجيع للإرهاب، عوضاً عن الحدّ منه ومن أسبابه ومن ظواهره.
فقد أعطى هذا المفهوم الأميركي للإرهاب شرعية أميركية للعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وعلى دول عربية أخرى، وقد ظهرت، حصيلة هذا المفهوم الأميركي ونتيجةً للاحتلال الإسرائيلي المستمر، ردود فعلٍ سلبية من المظلومين في ظلِّ هذا المفهوم وممَّن هم ضحايا لهذا العدوان.
واشنطن اليوم هي أسيرة مفاهيمها هذه التي جعلتها أيضاً أسيرة المواقف الإسرائيلية. وسيبقى الموقف الأميركي ضعيفاً في التأثير على إسرائيل الظالمة وتجاه الشعب الفلسطيني المظلوم طالما أنَّ واشنطن تعتبر العدوان الإسرائيلي دفاعاً عن النفس، بينما تنظر واشنطن إلى المقاومة الفلسطينية كما لو كانت حالةً إرهابيةً تستوجب الردع والعقاب.
الموقف الأميركي سيبقى ضعيفاً تجاه العرب والعالم كلّه طالما أنَّ واشنطن لا تتعامل مع العدوان الإسرائيلي على أنَّه حالة احتلال يتوجَّب وقفها فوراً، وأنَّ إنهاء الاحتلال يعني أيضاً بناء دولةٍ فلسطينية مستقلة على كلّ الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، وضرورة تلازم ذلك مع ضمان لحلّ عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين.
واشنطن تتحدَّث الآن عن "دولة فلسطينية" لكن دون تحديدٍ لحدود هذه الدولة ولا لسكانها ولا لعاصمتها، ولا أيضاً لمدى استقلاليتها عن إسرائيل. فلا يكفي الحديث بالعموميات عن "الدولة الفلسطينية"، فشارون نفسه قال بتلك العمومية وكذلك العديد من الساسة الإسرائيليين.
واشنطن تتعامل الآن مع الملفّ الفلسطيني بمنطق ردّات الفعل المؤقتة وليس من منطلق السعي لحلٍّ عادلٍ وشامل للقضية الفلسطينية.
أمَّا إذا افترضنا أنَّ واشنطن جادَّة فعلاً في التعامل مع الملفّ الفلسطيني، فإنَّ أمامها فرصةً لتحقيق ذلك من خلال ملاقاة الشعب الفلسطيني في منتصف الطريق، إذا كانت لا تريد أو أنَّها تعجز عن تفهّم كافَّة حقوقه العادلة.. ومنتصف الطريق هنا هو التسليم بحقِّ الشعب الفلسطيني قي مقاومة الاحتلال داخل الأراضي الفلسطينية المحتلّة بعد عام 1967. بتعبيرٍ آخر، إذا كانت واشنطن تعتبر العمليات الفلسطينية داخل إسرائيل وضدَّ المدنيين الإسرائيليين هي عمليات إرهابية، فكيف لواشنطن أن تكون ضدَّ حقِّ شعبٍ خاضع للاحتلال في أن يقاوم جيش الاحتلال في أراضيه المحتلّة؟!
هذا الموقف المبدئي المطلوب من واشنطن هو جوهر الأزمة الراهنة اليوم في الموقف الأميركي من القضية الفلسطينية، إذ دون الفصل والفرز الأميركي بين حالة المقاومة وبين مفهوم الإرهاب، ستزداد حالات التصادم في الموقفين الأميركي والعربي، وستبقى واشنطن بنظر الفلسطينيين والعرب جميعاً راعيةً للعدوان الإسرائيلي وليس لمشاريع أمنٍ وسلام.
أميركا مدعوَّة أيضاً إلى ملاقاة الأوروبيين ومعظم شعوب العالم في موقفهم المتفهّم لحقِّ المقاومة ضدَّ الاحتلال.
أيضاً، على واشنطن أن تنظر إلى الدعم العربي (الرسمي والشعبي) للنضال الفلسطيني ضد الاحتلال بأنَّه حالة شبيهة بما كانت تفعله أميركا في دعمها ومساندتها لفرنسا ضدَّ الاحتلال الألماني، وكما فعلت واشنطن أيضاً في مساندة "المجاهدين الأفغان" ضدَّ الاحتلال الروسي لأفغانستان.
فإذا كانت الإدارة الأميركية تريد من الدول العربية أن تمارس الضغط على الفلسطينيين وأن توقف أيّة مساعدةٍ لهم، فإنَّ الأجدر بأميركا الضغط على إسرائيل ووقف أيّة مساعدةٍ أميركية عسكرية أو مالية للحكومة الإسرائيلية حتى تنسحب من الأراضي المحتلة وتنفذ ما نصت عليه العديد من قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة.
إن أميركا تريد "تعريب الحلّ الأميركي" لكنَّها تمنع في الوقت نفسه تعريب الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي.
فإذا كانت واشنطن تضغط الآن على الدول العربية وعلى الفلسطينيين لإعلان نبذ استخدام أسلوب العنف والمقاومة المسلحة ضدَّ الإسرائيليين، فإنَّ واشنطن مسؤولة أيضاً في المقابل أن تضمن دعوةً إسرائيلية رسمية (باللغتين العبرية والإنجليزية) لوقف استخدام كافَّة أنواع العنف ضدَّ الشعب الفلسطيني وأن تلتزم إسرائيل بمرجعية الاتفاقات التي رعتها واشنطن أصلاً إذا لم نقل بمرجعية قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة؟!
إذا كانت واشنطن لا تضمن هذا الحدّ الأدنى، فكيف لها أن تطالب العرب والفلسطينيين بوقف مقاومة الاحتلال الإسرائيلي؟
إنّها مشكلة المفاهيم الأميركية المشتركة مع المفاهيم الإسرائيلية، وهي مشكلة تضع مصداقية واشنطن على المحكّ في كلِّ مرَّةٍ تحاول العاصمة الأميركية فيها التعامل مع الصراع العربي/الإسرائيلي.
* مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن
معضلة التحرّك الأميركي في الشأن الفلسطيني، تكمن في أنَّ واشنطن تعتمد على مقارنة ما تفعله إسرائيل في فلسطين بما تفعله واشنطن في حربها على الإرهاب: المقاتلون ضدَّ إسرائيل هم كجماعة القاعدة، والعمليات الفلسطينية ضد إسرائيل هي مثل الهجوم الإرهابي على أميركا، والعقوبات الإسرائيلية الجماعية على الفلسطينيين هي مثل معاقبة أميركا للمتهمين بالعلاقة مع حركتي طالبان والقاعدة ..
ولأنَّ واشنطن رفضت سابقاً دعواتٍ عربيةٍ ودولية لعقد مؤتمرٍ دولي لتحديد مفهوم الإرهاب وللفرز بينه وبين حقِّ المقاومة للاحتلال، فقد جاءت الأحداث الإرهابية في سبتمبر عام 2001 في أميركا لتكون أفضل هدية للسياسة الشارونية في المنطقة ولآفاق علاقات تل أبيب مع واشنطن.
فإسرائيل أظهرت امتعاضاً شديداً حينما تجنّبت أميركا في السابق وضع المنظمات الفلسطينية واللبنانية التي تقاتل إسرائيل في لائحة الدول والجماعات الإرهابية، ثمَّ خضعت واشنطن للمطلب الإسرائيلي لاحقاً فأصبحت أيّة جماعة فلسطينية أو لبنانية، تواجه الاحتلال الإسرائيلي، هي جماعة إرهابية في المفهوم الأميركي، وعليها تنطبق كلّ العقوبات الأميركية، كما تُطبَّق إجراءات الملاحقة على كلّ من يتعاطف معها داخل الولايات المتحدة.
إنَّ السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط (وبغضّ النظر عن شخص الحاكم في واشنطن) ما زالت أسيرة مفاهيم الحرب الباردة التي كان لإسرائيل خلالها دور بارز في تحقيق المصالح الأميركية. اليوم، إسرائيل هي عبء كبير على أميركا وعلى مصالحها في العالمين الإسلامي والعربي، ولم تعد اليوم إسرائيل وشواطئها هي المتاح الأساس للتسهيلات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط (كما كانت في حقبةٍ طويلة في الحرب الباردة)، ولم تعد إسرائيل مصدر أمنٍ وحماية للمصالح الأميركية، بل إنَّ تلك العلاقة الخاصَّة معها سبّبت تهديداً لمصالح واشنطن في بقعةٍ جغرافيةٍ تمتدّ من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي، ويعيش عليها مئات الملايين من العرب وغير العرب، وترتبط ثروات هؤلاء أصلا،ً بل وسائر خيراتهم الاقتصادية، ارتباطاً شديداً بالشركات والمصالح الأميركية.
إنَّ المفهوم الأميركي للإرهاب أصبح هو نفسه مصدر تشجيع للإرهاب، عوضاً عن الحدّ منه ومن أسبابه ومن ظواهره.
فقد أعطى هذا المفهوم الأميركي للإرهاب شرعية أميركية للعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وعلى دول عربية أخرى، وقد ظهرت، حصيلة هذا المفهوم الأميركي ونتيجةً للاحتلال الإسرائيلي المستمر، ردود فعلٍ سلبية من المظلومين في ظلِّ هذا المفهوم وممَّن هم ضحايا لهذا العدوان.
واشنطن اليوم هي أسيرة مفاهيمها هذه التي جعلتها أيضاً أسيرة المواقف الإسرائيلية. وسيبقى الموقف الأميركي ضعيفاً في التأثير على إسرائيل الظالمة وتجاه الشعب الفلسطيني المظلوم طالما أنَّ واشنطن تعتبر العدوان الإسرائيلي دفاعاً عن النفس، بينما تنظر واشنطن إلى المقاومة الفلسطينية كما لو كانت حالةً إرهابيةً تستوجب الردع والعقاب.
الموقف الأميركي سيبقى ضعيفاً تجاه العرب والعالم كلّه طالما أنَّ واشنطن لا تتعامل مع العدوان الإسرائيلي على أنَّه حالة احتلال يتوجَّب وقفها فوراً، وأنَّ إنهاء الاحتلال يعني أيضاً بناء دولةٍ فلسطينية مستقلة على كلّ الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، وضرورة تلازم ذلك مع ضمان لحلّ عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين.
واشنطن تتحدَّث الآن عن "دولة فلسطينية" لكن دون تحديدٍ لحدود هذه الدولة ولا لسكانها ولا لعاصمتها، ولا أيضاً لمدى استقلاليتها عن إسرائيل. فلا يكفي الحديث بالعموميات عن "الدولة الفلسطينية"، فشارون نفسه قال بتلك العمومية وكذلك العديد من الساسة الإسرائيليين.
واشنطن تتعامل الآن مع الملفّ الفلسطيني بمنطق ردّات الفعل المؤقتة وليس من منطلق السعي لحلٍّ عادلٍ وشامل للقضية الفلسطينية.
أمَّا إذا افترضنا أنَّ واشنطن جادَّة فعلاً في التعامل مع الملفّ الفلسطيني، فإنَّ أمامها فرصةً لتحقيق ذلك من خلال ملاقاة الشعب الفلسطيني في منتصف الطريق، إذا كانت لا تريد أو أنَّها تعجز عن تفهّم كافَّة حقوقه العادلة.. ومنتصف الطريق هنا هو التسليم بحقِّ الشعب الفلسطيني قي مقاومة الاحتلال داخل الأراضي الفلسطينية المحتلّة بعد عام 1967. بتعبيرٍ آخر، إذا كانت واشنطن تعتبر العمليات الفلسطينية داخل إسرائيل وضدَّ المدنيين الإسرائيليين هي عمليات إرهابية، فكيف لواشنطن أن تكون ضدَّ حقِّ شعبٍ خاضع للاحتلال في أن يقاوم جيش الاحتلال في أراضيه المحتلّة؟!
هذا الموقف المبدئي المطلوب من واشنطن هو جوهر الأزمة الراهنة اليوم في الموقف الأميركي من القضية الفلسطينية، إذ دون الفصل والفرز الأميركي بين حالة المقاومة وبين مفهوم الإرهاب، ستزداد حالات التصادم في الموقفين الأميركي والعربي، وستبقى واشنطن بنظر الفلسطينيين والعرب جميعاً راعيةً للعدوان الإسرائيلي وليس لمشاريع أمنٍ وسلام.
أميركا مدعوَّة أيضاً إلى ملاقاة الأوروبيين ومعظم شعوب العالم في موقفهم المتفهّم لحقِّ المقاومة ضدَّ الاحتلال.
أيضاً، على واشنطن أن تنظر إلى الدعم العربي (الرسمي والشعبي) للنضال الفلسطيني ضد الاحتلال بأنَّه حالة شبيهة بما كانت تفعله أميركا في دعمها ومساندتها لفرنسا ضدَّ الاحتلال الألماني، وكما فعلت واشنطن أيضاً في مساندة "المجاهدين الأفغان" ضدَّ الاحتلال الروسي لأفغانستان.
فإذا كانت الإدارة الأميركية تريد من الدول العربية أن تمارس الضغط على الفلسطينيين وأن توقف أيّة مساعدةٍ لهم، فإنَّ الأجدر بأميركا الضغط على إسرائيل ووقف أيّة مساعدةٍ أميركية عسكرية أو مالية للحكومة الإسرائيلية حتى تنسحب من الأراضي المحتلة وتنفذ ما نصت عليه العديد من قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة.
إن أميركا تريد "تعريب الحلّ الأميركي" لكنَّها تمنع في الوقت نفسه تعريب الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي.
فإذا كانت واشنطن تضغط الآن على الدول العربية وعلى الفلسطينيين لإعلان نبذ استخدام أسلوب العنف والمقاومة المسلحة ضدَّ الإسرائيليين، فإنَّ واشنطن مسؤولة أيضاً في المقابل أن تضمن دعوةً إسرائيلية رسمية (باللغتين العبرية والإنجليزية) لوقف استخدام كافَّة أنواع العنف ضدَّ الشعب الفلسطيني وأن تلتزم إسرائيل بمرجعية الاتفاقات التي رعتها واشنطن أصلاً إذا لم نقل بمرجعية قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة؟!
إذا كانت واشنطن لا تضمن هذا الحدّ الأدنى، فكيف لها أن تطالب العرب والفلسطينيين بوقف مقاومة الاحتلال الإسرائيلي؟
إنّها مشكلة المفاهيم الأميركية المشتركة مع المفاهيم الإسرائيلية، وهي مشكلة تضع مصداقية واشنطن على المحكّ في كلِّ مرَّةٍ تحاول العاصمة الأميركية فيها التعامل مع الصراع العربي/الإسرائيلي.
* مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن
هناك تعليق واحد:
Very best site. Keep working. Will return in the near future.
»
إرسال تعليق