الجمعة، مايو 19، 2006

الشّخصيّة المزدوجة في "النّموذج اللّبناني"!




صبحي غندور*

يشكّل لبنان " حالة نموذجيّة " فريدة في المنطقة العربيّة. فهو كان قبل بدء الحرب الأهليّة في 13 نيسان/أبريل 1975، نموذجاً للعرب في ممارسة الحياة السياسيّة الدّيمقراطيّة، والتّعدّدية الحزبيّة، والانفتاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولمجتمع الحرّيات العامة بشكل عام.
لكن بعد اشتعال الحرب الأهليّة في منتصف السبعينات في القرن الماضي، انكشفت مساوئ هذا "النّموذج اللّبناني" وما كان فيه من أمراض طائفيّة هدّدت الجسد اللبناني أكثر من مرّة بخطر الانتحار الّداخلي أو القتل المتعمّد من الخارج.
ودارت الأعوام والأحداث في لبنان حتّى رست على صيغة اتّفاق الطائف عام 1989 ، والّتي أثمرت وفاقاً لبنانيّاً مدعوماً بوفاق دولي/عربي على إعادة إحياء التجربة اللّبنانيّة القديمة بطبعة جديدة منقّحة!
وهكذا عاد "النموذج اللّبناني الصّالح" إلى الوجود بالمنطقة العربيّة رغم التّشوّه الّذي حدث له بفعل سنوات الحرب في عقدي السبعينات والثمانينات.
وعلى مدار ربع قرن من الزمن (من العام 1975 إلى العام 2000) كان الخنجر الإسرائيلي هو الأكثر إيلاماً في الجسم اللّبناني، بل كان هذا الخنجر المسموم يستهدف قتل "النموذج اللّبناني" الّذي أعطاه عام 1974 من على منبر الأمم المتّحدة الرّئيس اللّبناني الرّاحل سليمان فرنجيّة كبديل عن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وكنموذج لتعايش الطوائف المتعدّدة في ظل دولة ديمقراطيّة واحدة.
وقد استطاعت المقاومة اللّبنانيّة الّتي برزت عقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 أن تردع هذا الخنجر وأن تقطع يد الاحتلال الّتي حملته، فكان الانتصار اللّبناني على الاحتلال الإسرائيلي عام 2000 بداية لنموذج لبناني جديد في المنطقة العربيّة وفي الصّراع العربي الإسرائيلي. فإذا بتعبير " اللّبننة " يتحوّل من معنى الإنذار بحرب أهليّة والتحذير من مخاطرها، إلى معنى المقاومة النّاجحة ضدّ الاحتلال والقدرة على دحره.
لكن لبنان في العام الماضي، شهد الذّكرى الثلاثين لاندلاع حربه الأهليّة، والذّكرى الخامسة لتحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي، في ظل أجواء سوداويّة ما زالت تحوم فوق ربوعه نتيجة ما حدث من اغتيالات وتفاعلات سياسيّة وأمنيّة، جعلت "النّموذج اللّبناني المقاوم" يتراجع لصالح "النّموذج اللّبناني" المتصارع مع نفسه!
وهاهي اليوم مناسبة الذّكرى 31 لحرب نيسان/ إبريل 1975، تعود على لبنان وهو يتأرجح بين دفّتي الاستقرار والفوضى، بعد أن أصبح المستهدف الأوّل هو رأس النّموذج المقاوم ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، ليكون المنتصر بعد ذلك "نموذج الاقتتال الدّاخلي" وصراع الطّوائف والمذاهب والمناطق، وصيغ الكانتونات الفيدراليّة الخاضعة للهيمنة الخارجيّة والمتشابكة مع المصالح والغايات الإسرائيليّة في المنطقة العربيّة.
لكن حسم هذا التأرجح في الخيارات القادمة للبنان، لن يتوقّف فقط على مقدار التفاهمات الدوليّة والإقليمية بشأن لبنان، ولا فقط على "حكمة" المتحاورين في مجلس النواب، بل سيكون العامل الأهم هو مقدار وعي الشّعب اللبناني عموماً، وجيل الشباب تحديداً، بالذي أمامه من احتمالات وخيارات، وبما عليه من مسؤوليّة ودور في ضبط أتباع الصراعات الدّاخليّة والمشاريع الخارجيّة، وعدم الانجرار من جديد إلى أتون الصّراعات المسلّحة والحرب الأهليّة.
فجيل الشّباب في لبنان هو أداة أي صراع مسلّح أو تفجير أمني، وقد حدث ذلك عام 1958 بعد 15 سنة على استقلال لبنان عام 1943. ثمّ كان جيل لبناني آخر هو ضحيّة بدء الحرب الأهليّة عام 1975 والّتي استمرّت لمدّة 15 سنة.
اليوم، هناك جيل لبناني جديد بعد 15 سنة من الاستقرار النّسبي والتّعايش الوطني، لم يعرف جيّداً مآسي الحرب وثمنها الباهظ على نفسه وعلى أهله ووطنه ومستقبله. وهذا الجيل الحاضر للأزمة السياسيّة الرّاهنة الآن بإمكانه حسم الخيارات، فهو وقود أي أزمة كما هو طليعة أي حلّ.
الجيل اللّبناني الجديد مطالب الآن في الذّكرى 31 لاندلاع حرب عام 1975، بأن يعطي النّموذج السّليم للّبنانيين أوّلاً قبل الحديث عن "النّموذج اللّبناني" للعرب عموماً. النّموذج السّليم في الإصرار على إعادة بناء النّظام السياسي على أسس وطنيّة ديمقراطيّة غير طائفيّة أو مناطقيّة. فعطب الدّاخل هو الّذي يسهّل دائماً تدخّل الخارج، وبإصلاحه تتعطّل فاعليّة التأثيرات السّلبيّة الخارجيّة.
الجيل اللّبناني الجديد قادر على صنع "نموذج لبناني" يقوم على الديمقراطيّة السليمة في الداخل وعلى التحرّر من أي هيمنة خارجيّة في ظل الحفاظ على "نموذج لبنان المقاوم" الّذي حرّر الوطن من الاحتلال الإسرائيلي، فذلك هو المدخل الصحيح لإنهاء أي وجود مسلّح غير لبناني شرعي على الأرض اللّبنانيّة. إذ طالما هناك احتلال إسرائيلي لأي أرض لبنانيّة, ستكون هناك حاجة أو مبرّرات أو أعذار لسلاح إقليمي آخر.
الجيل اللّبناني الجديد مطالب اليوم بأن يعطي نموذجاً في الاحتكام للمؤسّسات المدنيّة وللوسائل الدّيمقراطيّة في العمل الشّعبي والسياسي وفي رفض أسلوب العنف أو الاحتكام للسلاح مهما كانت سخونة القضايا الدّاخليّة أو صعوبة التّوافق حولها. فليكن الاحتكام إلى المؤسّسات الدّستوريّة وليكن العمل المدني أو التّحرّك الشعبي من أجل انتخابات سليمة تفرز مندوبين حقيقيين عن القطاعات الشّعبيّة وليس ورثة إقطاع سياسي ومالي في هذه المنطقة أو تلك، أو في هذا الكانتون الطائفي أو ذاك.
الجيل اللّبناني الجديد قادر على إيقاف التّعامل مع النّاس وكأنّهم قطيع من الغنم يسوقهم الرّاعي الطّائفي بعصا أو بفتات من العشب، ثمّ يورث القطيع لمن بعده في أسرته. فيبقى الغنم غنماً والرّاعي راعياً!!
المطلوب الآن في لبنان: نموذج من الجيل اللّبناني يحسم ازدواجيّة الشّخصيّة في الحالة اللبنانيّة، ليكون لبنان المستقبل هو شعلة نور لنفسه ولمن حوله، لا شعلة نار تحرق الأرض والشّعب والوطن.


*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن.
alhewar@alhewar.com

ليست هناك تعليقات: