الجمعة، مايو 19، 2006

أنسي الحاج في مؤتمر قصيدة النثر: فتحنا الغرفة الممنوعة


هل لا تزال قصيدة النثر تحدياً بعد مرور نصف قرن على انطلاقها، هي التي واجهت طوال هذا الوقت جداراً من سوء الفهم والاتهام.
هل لا تزال منبوذة أم باتت عضوا عاديا في الصالون الأدبي.
هل انتهى عصيانها أم هي تواصل انشقاقها وتمردها.
هل لا تزال موصومة بالاعتداء على اللغة والتراث وبالتالي على الذاكرة القومية وعلى عمود الأمة، لم يكن الانتقال سلساً الى قصيدة النثر، فباختيارها هي وإرادتها هي تحولت الى قلق دائم في الضمير الأدبي. بل قلق دائم في الضمير الثقافي والسياسي أيضا.
دُمغت منذ ولادتها بالعقوق والتمرد، فهل بقيت مساحة فعلا للعقوق والتمرد أم دخلت في بيت الطاعة، ولم يعد هناك مجال للفضيحة التي غدت، كما قال بروتون، مستهلكة وعادية.
مؤتمر قصيدة النثر رغم كل هذا الوقت لم يكن مألوفا. لم يعرف أهله إذا تأخروا فعلا أم هم لا يزالون قبل الوقت. لقد ربحت قصيدة النثر وسادت اليوم لكنها مع ذلك متهمة بأنها جرّت الشعر الى عزلة مقيمة. لقد انتصرت، لكن هذا دوّخ النقد وجعله متخلفا عن لحظتها، وبقيت في انتصارها كما في بدايتها اليتيمة، وحيدة.
على كل حال، إنها خمسون عاما، ما يعني أجيالا على أجيال وأسئلة على أسئلة. ولا نعرف كيف يمكن لمؤتمر قصيدة النثر المنعقد في الجامعة الأميركية، بتنظيم برنامج أنيس المقدسي، أن يخوض في هذا الركام العملاق من النسيان ومن الإرجاء.
كان الافتتاح لأنسي الحاج الشاعر الذي كان ديوانه <<لن>> بنصه ومقدمته أحد البيانات المدوية لقصيدة النثر، ومنذ ذلك الحين طبع أنسي الحاج بشعره وشخصه وجها أساسيا لقصيدة النثر، والأرجح أن الشاعر الذي زلزل الجو الأدبي والثقافي بمغامرته الفنية التي بدأها وهو في الرابعة والعشرين لا يزال فتى خالدا، ولا تزال هذه الطاقة الشابة التي أطلقها هي نفسها بحجم تمردها وعنفها.
كان أنسي بهذا الشباب الأبدي صالحا ليتوسط أجيال قصيدة النثر، وليصل بين ضفافها العديدة، وليتكلم على تقاطع اتجاهاتها وتجاربها.
ذكر ماهر جرار بأنه تعلم قصيدة النثر على متكآت أنسي الحاج وأسعد خير الله في تقديمه لأنسي استعاد بعضا من نهايات شعره <<الشعر التام نسيان الشعر>> كانت هذه العبارة تصل أوائل أنسي بأواخره، كما تصل أوائل قصيدة النثر بأواخرها. بدأ أنسي بمعالجة سؤال خالد ما هي قصيدة النثر. كان جوابه هذه المرة إشكاليا <<مخلوق دخيل>>، <<كوكب الحرية>>، <<عشية طلعت من بركان أسود>>، <<بنت التمرد على أوزان القضاء والقدر>>.
الأجوبة معلقة كما الأسئلة، الحرية ليست شيئا محددا. والحرية تقيم في التناقض <<إيقاعية، وفالتة، متوترة، مرسلة، غنائية، منفلشة وقائلة ما لا تقوله الأوزان>>.
سؤال خالد آخر هو المباراة بين النثر والوزن. وأنسي يقرر مجددا أن ليس بين الوزن والنثر مباراة وأن قصيدة النثر لا تطمح في أن تحل محل الوزن وأن أهلها يحبون الأوزان حبهم للأغاني. إنها إرادة تعايش بين القصيدتين، الأولى الشعبية المقبولة المكرّسة، والثانية الشقية المتمردة.
مع ذلك فإن أنسي الحاج لا ينسى أن في النثر إيقاعا واحتمال أوزان جديدة. بل يسمى النثر <<بحراً>> لا حدود له. ليست قصيدة النثر بلا شروط، لكن شعراءها يخترقونها. إنها خيانات ضرورية. تقول القواعد شيئا وتقول الحياة شيئا آخر. من العام الى جانب يزداد خصوصية. إنها مأساة الرواد. مأساته الشخصية إذا جاز القول. ليسوا عمالقة ليكونوا عوالم كاملة وتكوينات تامة مغلقة. لقد وجدوا مفاتيح لأبواب لم يملكوها ولم يغلقوها على أعمالهم. وضع مؤلم كما يقول أنسي بل يرشح ألماً عندما يسمى جيله أقزاماً ويرجو أن تتخطاهم الأجيال الجديدة بل تدفنهم. من المأساة الى نشيد القيامة والانتصار. هكذا يتطلع أنسي الى كتابة تشفي، تنقذ، تخلص. لا تنكر بل تضيف إضافة النعمة. كتابة هي وليمة للقوة التي تغلق البؤس واليأس، وليمة الخلاص. خليط من نيتشوية ومسيحية، بل لغة نيتشوية ومبنى مسيحي. هكذا ينهي على وقع تصفيق حاد خطابه بنشيد النعمة والقوة والخلاص. جمهور غير معتاد في هذه القاعات بعدده ومصادره انجذب الى العالم الخاطف الذي فتحه أنسي وجعله يدفق على الجميع، قبل أن ينهي كلمته ويعود كل شيء الى مكانه الأول.
السفير

ليست هناك تعليقات: