بقلم كمال العيادي
نقلاً عن دروب
إلى الأحبّة : كلّ من التقيت من غيلان - لاشومير- تلك التي عند سرّة البيضاء, ثمّ طبعا إلى الكبير محمد المزديو أينما كان… بعد نصف ساعة
تكسّر تعبير وجهه بشكل فظيع، وهو يحد جني بنظرة ناريّة. أنخرطت مرّة أخرى في الضحك. وكنت كلّما حاولت كبح نزق ضحكي ونظرت إليه، وهو يضيّق عينيه الضيّقة بطبعها، ويحاول تعديل تدلّق وجنتيه التي لا تتناسب بتاتا مع وجهه المستدير الصغير، أغرق في موجة جديدة من الضحك.ـ اسمع يا سيّد، أنا شخصيّا لا أجد مبررا لهذا ا لضحك، ولا أستطيع أن أفهم ما الذي يضحكك أساسا !وحين تيقن بأن تأنيبه وهيئة الجدّ التي يتّخذها لا يزيدانني إلاّ مزيدا من الضحك، راح يعدّل من جلسته، ويسوّي من تقوّس ظهره العريض وهو يضحك أيضا لكن بصوت مكتوم محركا برأسه وباحثا بأصابعه المتورّمة عن منديل الورق بين الأوراق المتراكمة على مكتبه.
واصل حكايته، محاولا استرجاع هيئة العزم و الوقار التي تميّزه، وتجعله يبدو أطول قامة، وأخطر شأنا من مجرّد الموظف القصير بمصلحة الشؤون الجبائية واستخلاص الضرائب بالدائرة الشمالية لمدينة ميونيخ.
ـ اسمع، قال مرّة أخرى، وقد تخلّص وجهه نهائيّا من آخر آثار تعابير المرح.في تلك الفترة، كنت أمر حقيقة بفترة صعبة للغاية، هل تفهم ؟كنت وحيدا ومحبطا، وكان عملي التافه في ذلك الوقت، بمصنع - بروكن لاك - للمستحضرات الكيماوية قد دمّر أعصابي تماما. رائحة الدهان الحقيرة ومادّة – التيربانتيكس – تنفذ مباشرة إلى الدّماغ، وتدمّر الخلايا النخاعيّة والغدد الضروريّة للتّوازن. إضافة طبعا لبلادة السيّد – ميلر مان -، ذ لك المحاميّ العجوز الذي كلّفته بمتابعة إجراءات الطّلاق من زوجتي – بيترا - والذي لا أكاد أدخل مكتبه، بعد انتظار طويل، حتّى يضع السّاعة البلاستيكية الصّفراء، الفاقعة اللّون، التي يمتلكها، تماما في منتصف الطّاولة، بيني وبينه. هكـــــــذا.وقبل أن أنهي نصف ما أردت قوله، كان يشير لي بسباته المنفّرة، بأن الوقت المخصص لي قد انتهى. مذكّرا إياي، وهو يسحب دفتر تواصل الاستسلام الأزرق الصغّير، بضرورة دفع القسط الموالي من الأتعاب.
عدّت في في ذلك اليوم بعد يوم مرهق من العمل الشّاق، وكانت مهمّتي في ذلك الحين القيام بجرد وضبط الممتلكات والمخازن لتقديم تقرير لمكتب المحاسبة قبل نهاية السنة.عدت من العمل في ذلك اليوم الأزرق ساخطا على الدّنيا و على العباد. وقد زاد من سخطي، أنّني اكتشفت بقعة سوداء بأسفل كمّ سروالي البنّيّ، وهو السروال الوحيد الذي يتناسب مع ربطة العنق الخضراء الّتي أملكها، وأعتزّ بها لأنّها هديّة من زوجة صديقي المرحوم – هانس براون – النّائب السّابق لرئيس قسم الاعتراضات والنزاعات بالمصلحة الماليّة.
كنت محبطا، وبي إحساس بأنني كيس مبتلّ من البطاطا المتعفّنة.أنت تعرف بأنّني لا أشرب خمرا، أكثر من كأس في المناسبات أو مجاملة لصديق مقرّب. ولكنّني في ذلك اليوم، ولخوفي الشّديد من الكوابيس الّتي لازمت نومي منذ مدة، فإنّني قرّرت الدّخول إلى الحانة الّتي تقع مباشرة أسفل العمارة الكئيبة حيث أسكن، بشارع - بشريد شتراسيا -.كانت حانة تافهة يمتلكها الآن شابّ ألبانيّ أو رومانيّ، اسمه - طاراكان - ذو ملامح سلافيّة وانف قصير حاد مثل منقار الدجاجة، كان معروفا بمجونه وسوء خلقه وأخلاقه. يشغّل كلّ يومين نادلة يوغسلافيّة أو روسيّة من هؤلاء السّاقطات اللاتى يملأن البلد ويدّعين بأنّهن طالبات، بينما هن عاهرات فاسقات من الدّرجة الأولى. كان يبحث عنهنّ ويجدهنّ بلا عناء بفضل إعلانات طلب العمل بالصحف اليوميّة. كان يعاملهن في اليوم الأول كأميرات، ويغض الطرف عن أخطائهنّ، وينفث في آذانهنّ من الوعود والكلام المعسول ما يجعلهن مشدودات مثل حبة الرّمان عند أوان قطافها، ولا يمرّ مساء اليوم الثّاني حتى يكون قد قشّر تفاحتها ثمّ لا يمرّ اليوم الثّالث، حتّى يكون قد أطردها خاصما من أجرتها كلّ ما كانت قد كسرته في يومها الأوّل من كؤوس.
لقد كنت أتقزّز منه ومن كلبه الحقير الأسود، الّذي كان يناديه بتخنّث، وهو يشقشق سوار معصمه الذّهبيّ بميوعة مقرفة : ” تعال يا بلاكي … اجلس يا بلاكي… خذ يا بلاكي”. وكان كلبه أيضا مخنّثا وبلا ذيل. تصوّر الحقير الوسخ، كان يتبعني كلّما ذهبت إلى المرحاض، وكان يلعق بلسانه المعفّن، المليء بالوباء والأمراض، أصابعي. ويتشمّم مؤخّرتي…تفوه.المالك شاذ، و الكلب شاذ، والنّادلة عاهرة ترتدي ملابس داخليّة داكنة، تحت ملابسها البيضاء الشفّافة، ولا تتورع عن لعق نتونة بطن - طاراكان – المليء بالشعر، وهي تعرف بأنّها ستطرد بعد أيام معدودة.ثمّ أن الزّبائن كانوا أيضا في منتهى التّفاهة والجهل والكآبة والضّياع. أكوام نتنة من اللّحم الفاسد، تنتظر يوميّا موتها، وهي تتلمّظ رغوة البيرّة البيضاء.
نفس الوجوه المتورّمة من الهموم وقلّة الهواء النّقيّ، ودخان السّجائر الرّخيصة. خمسة أو ستّة أشباح يسكنون جميعا بنفس المبنى حيث أسكن، وأشمّ رائحتهم الكريهة يوميّا، وأنا أنتظر وصول المصعد لألقى بالزّبالة قبل أن أنام.
- فرانك هانس – المريض بالرّبو، يجلس عند نفس الطّاولة منذ أكثر من عشرين سنة. الطّاولة الأخيرة يسار المطبخ. مقابل المرحاض مباشرة. وهو لا يرفع برأسه من منفضة السّجائر إلا حين يدفع أحدهم الباب المخصّص للمرحاض الرّجاليّ. تصوّر، في هذه الخربة الموبوءة مرحاض للنساء وآخر للرجال. رغم أنّني لم أر إطلاقا امرأة واحدة، غير النّادلات اللّواتي لا يستعملنه في كلّ الأحوال غير مرات معدودات قبل طردهنّ الحتميّ.
الطّاولة الوسطى يحتلّها – موزر- وهو يدّعي بأنّه كان موظّفا بمصلحة حكوميّة، ولكنّني مقتنع بأنّه كان عاطلا عن العمل منذ ولادته. إنّه يظلّ يشرب من السّاعة الواحدة، موعد فتح الحانة إلى حدود السّاعة الثّانية صباحا، حين تنفضه النّادلة لتمسح الطّاولات استعدادا للإغلاق ولعق مؤخّرة مؤجّرها وكلبه النّتن.
عند الطّاولة الملتصقة بباب الدّخول، يجلس دائما – هانس فيبر – ويكفي أن تعرف عنه، بأنّه بقي ثلاث سنوات بمستشفى للأمراض العصبيّة، قبل طرده، لأنّهم اكتشفوا بأنّه ليس مريضا، وإنّما يستغلّ تسامح صندوق التأمين للأكل والسّكن المجانيّ.كان حيوانا بشعا ببطن متدلّقة إلى الأسفل وعلى الجانبين بشكل مقزز. قربة متورّمة بيضاء، وكان حين يقوم متثاقلا مثل عجل بحر عجوز، يتوكأ على كلّ الطاولات التي في طريقه. ولم يكن يخجل إطلاقا، حين تفلت منه ضرطة مختنقة، قبل وصوله للمرحاض. كلّ ما كان يفعل، أنّه كان ينظر إلى – هانس فيبر – ويرفع بحاجبيه علامة عن اليأس الشديد والقنوط من الحياة.
عند الطّاولة الّتي تقع مباشرة تحت جهاز الألعاب الإلكترونيّة، والّتي لا يستعملها أحد غير صاحب الحانة أحيانايجلس – أوتر – وبالرّغم من أنّه لم يبلغ الأربعين بعد، فإنّه لا يكاد يقوى على فتح عينيه، وهو دائما في حالة سكر مطبق، إضافة طبعا للمخدّرات الّتي تفضحها ذراعه الزرقاء، المليئة بالثّقوب المخزّنة. إنّه لا يرى أحدا، ولا يكلّم أحدا. يظلّ جالسا هكذا، منحن إلى الطّاولة، ولا يرفع برأسه إلا حين تستبدل له النّادلة كأسه الفارغة بأخرى ممتلئة. عندها فقط يهمهم بكلمات مبهمة، قبل أن يغيب من جديد في عوالمه المنطفئة.
تحت البار من الجهة اليمين، يجلس – راينه – ينظر بدون انقطاع إلى جميع الإتّجاهات، ويتابع الجميع، يتكلّم حتّى وهو يعرف بأنّ لا أحد يستمع إليه. يعلّق بطريقة مضجرة عن الطّقس، والطّرقات، ، وصندوق الشّيخوخة. وهو يذكّرك دائما بأسلوب نذل، بضرورة التأكد من وجود ورق – التواليت - بالمرحاض، قبل الجلوس. تفوه. إنّه أكثرهم نذالة وحقارة. بل أنّه حشرة قذرة، عبّأت خطأ في هيئة كائن بشريّ.
هناك أيضا أحد الغجر، يدعى – جاك تسيغونيا – كهل تافه في الخمسين من عمره، يلبس خرصا فضّيا بأذنه، ويتباهى بوشم قبيح لامرأة يلتفّ حولها ثعبان, ورأس كبش، مرسوم على ذراعه الأيسر. وإلى جانبه – قيثار- يزعج به الحاضرين كلّما عنّ له ذلك. مردّدا أغان مملّة، سوقيّة، ثمّ أنّه لا يمتلك أيّ موهبة في العزف، لذلك تراه ينقر بأصابعه تارة على الأوتار، وتارة أخرى على خشب القيثار، بدون سبب معقول، محاولا موافقة صوته الأجشّ مع الإيقاع، وناثرا في الجوّ مزيدا من الكآبة والحزن.
المهمّ، دخلت الحانة، وتعمدّت تجنّب الجلوس مقابل ذلك البغل – راينه – خاصة.كنت في حالة نفسيّة، مهيأ معها لضربه بمنفضة السّجائر لو حصل وفتح مغارة فمه الأبخر.والحقيقة أن البحث عن مكان مناسب استغرق منّي وقتا، قبل أن أجد لي مكانا يمكن القول بأنّه مناسب. عند الطّاولة الثّانية، المقابلة للحائط، بحيث أنّني كنت قادرا على مراقبتهم من خلال المرآة المقابلة من ناحيّة، حتّى لا أترك لهم الفرصة للتّغامز وراء ظهري من ناحيّة أخرى، كانت إشارة واضحة منّي بأنّني لا أرغب في الحديث إلى أي حمار منهم.
شربت في ذلك اليوم أربعة كؤوس من – البيلز البافاري -، ذلك أنّي لم أكن مستعدا حقا لطلب البيرة البيضاء كما يفعلون. أربعة كؤوس تكفي. بل هيّ أكثر من اللأّزم . ثمّ أنني بدأت أشعر ببعض الدوار.
كنت أستعدّ للدفع والخروج، خاصة وأنّي بدأت أختنق برائحة السجائر الّتي تملأ هواء الحانة بشكل مكثف.كنت حقّا أستعدّ للخروج، حين اكتشفت وجوده.
في البداية،أصبت بذهول شديد، لأنّني لم ألاحظ وجوده قبل ذلك. كان يجلس قبالتي تماما. هادئا. محترما. يفيض وقارا وحضورا، رغم تقلّص تعبير وجهه الوسيم. أنيق. ممتلئ. رجل نبيل، بأتمّ ما تعنيه الكلمة.يا إلاهي كيف لم ألاحظ وجوده خلال كلّ الوقت الذي قضيته مقابلا له. هل يمكن فعلا أن أصل إلى هذه الحالة، بحيث لا ألاحظ وجوده. فمن المؤكد بأنه كان موجودا قبل مجيئي. وإلا كنت رأيته. كنت أشعر بقدرة سحريّة على اختراقه. بل أنّ حزنه و ضجره تبدى لي وقتها تأكيد آخر بأنّ هذا الشخص، أصيل. صادق. اعتدال كتفيه، رغم تقوس ظهره بعض الشيء. أظافره الشّفافة و المقلّمة بعناية. آثار الخاتم في إصبعه الوسطى دليل على عنايته المفرطة بنظافة يديه. لاحظت بأنّه كان ينظر نحوي هو أيضا بدهشة لا تقلّ عن دهشتي.ولدفع كلّ التباس, طلبت كأسا خامسة من – البيلز – رغم أنّه لم يحدث معي في أيّ يوم من الأيّام, أنّني شربت أكثر من ثلاث كؤوس. وبالرّغم من أنّني كنت قد لاحظت منذ حين, أنّه كان يهمّ قبلي بالخروج. إلاّ أنّه طلب كأسا أخرى من – البيلز – أيضا. ربّما كان يتعمّد هوّ الآخر, مثلي , عدم مشاركة الرّوّاد شرابهم المفضّل, أيكؤس – البيرّة البيضاء - المعبّأة في كؤوس تشبه براميل صغيرة, مع كثير من الرّغوة المتخثّرة.
كان يتصرّف مثلي تماما. يتفرّس في وجهي بحذر شديد, محاولا عدم لفت انتباهي . يبدو أنّه كان مرتبكا أيضا ومصعوقا. أحسست ذلك بثقة استغربت لقوّنها.
لاحظت أيضا بأنّ – طاراكان – صاحب الحانة, يختلس النّظرات نحوى. وحين التقت نظراتنا, ابتسم وأشار بيديه وهو يرفع علبة السّجائر إلى فوق. علامة, فهمت منها أنّه يسألني إن كنت أرغب في سيجارة.
أنا عبد المجيد, أقف, وأتّجه إليه ؟ - طاراكان- بالذّات ؟؟أنا. عبد المجيد بن محمود بن حسين السلاّوي أفعل ذلك, متلفّظا بأفضل ما يسعفني به لساني من عبارات الشّكر. أنا ؟؟نعم. لقد فعلت ذلك فعلا. تصوّر.
حين عدت إلى مكاني, تجرّعت في نفسين, كلّ ما تبقى من كأس – البيلز – ولم أشعر بأيّ رغبة في المغادرة.كنت أحسّ بحالة رائعة من الإنتشاء والخدر والرّضى. محاولا طبعا تجنّب النّظر صوبه. هوّ. هوّ الذي هناك عند الجهة المقابلة. ولم أكن أشكّ أنّه يفترس وجهي.
جاءت النّادلة بكأس – البيلز – السّادسة التي يبدو وأنّني كنت طلبتها قبل ذلك.
انتبهت, لأوّل مرّة إلى أنّ النّادلة جميلة جدّا. بل هيّ في غاية الجمال والرّوعة. بل هيّ معجزة في الجمال. آية من آيات الله التي أكرم بها أرضه القاحلة. قصيدة بلا خلل. لحن جبّار. دندنة عود. أنين ناي وقبس من نور الله.
يا إلهي, يا ربّ المشرقين والمغربين. هل يمكن أن نصاب بالعمى لهذا الحدّ, حتى لا ننتبه لكلّ هذا الجمال وهاته الفتنة التي تسير بيننا بدون حجاب ؟
نظرت إليها مبتسما. وبدت لي كلمة الشّكر التي تلفّظت بها, خيطا رفيعا, مشحونا, امتدّت أصابعها الرّقيقة إلى طرفه الآخر. أمسكت به محاذرة قطعه. لفّته حول أصابع يسراها. نظرت نحوي. صالحتني مع نصف قرن من عمري. إعتذرت لي عن كلّ الآلام التي كنت أعجز عن التّعبير عنها بدقّة. أعادت لي عقود ملكيّة كلّ الأملاك التي لم يتركها أبي في أيّ يوم من الأيّاموقالت لي هاك… أسندت لي مستدركة أرفع العلامات في مادّة الإنشاء التي كنت أمقتها. غفرت لي ذنوبي السّابقة ةاللاّحقة…أجابتني عن الأسئلة العالقة. زغردت اعتذارا عن امّي وذبحت لي خروفين احتفالا بحصولي على شهادة - الباكالوريا - التي لم أتممها.واستني.باستني.عانقتني.مسحت بنور كفّيها على رأسي ونثرت على طاولتي طبقا من الوعود. والابتسامات, ذابت لدفئها كلّ طبقات الصّقيع الجاثمة منذ نصف قرن على قلبي. وأحسست أنّني طليق.طليق. أقدامي ضاربة في رحم الأرض ورأسي في السّماء, يداعب السّماء. اعتراني إحساسبانّني أصلح فتق النّجوم. وأعيد برحمة توزيع مواقعها من جديد.إتّجهت صوب – طاركان – صاحب الحانة , طالبا بلا خجل, سيجارة أخرى. قدّمها لي وهو يحضنني بحنان وحبّ وعطف صادق. نبل. عمق. إخاء. إشراق لا يخالط عظمة فيضه لوم, أنّني أسقطت كرسيّا, في طريقي إليه. الغفران الخالي من المراجعة. القبول للقبول. الرّضى بلا استدراك. السمّو في الصّفح. نسيان ما من أجله يباح الإعتذار. كمال الرّضى.أشعل لي سيجارة واقفا وحاول زجر كلبه – بلاكي – الذي وثب يتشمّمني. ولكنّني انحنيت ومسّحت على ظهره الأسود الدّافئ. وكانت تقلّصات جلدته تبعثني من جديد وتغرس في روحي حبّا جديدا لم أعهده فيّ, لهاته الكائنات الطّيّبة الرّائعة, التي رفضت التّوحّش واستأنست الإنسان. وأحسست فورا بتطهّر تلقائي وحاسم من كلّ الآراء التّافهة والاحكام المسبقة التي كنت أحملها عن الكلاب.وأجابني السيّد – طاراكان – عن سؤالي, بأنّ – بلاكي – سيبلغ سنته الثّالثة خلال شهر أغسطس القادم. قال ذلك وهو ينظر كالحالم للوراء وكأنّه يغفر اخطاء البشر وروّاد الحانة كلّهم. لكم بدى لي عميقا وكبيرا في تلك اللحظة.
كنت طبعا أحسّ به كامل الوقت. هوّ. عند الجهة المقابلة. وكنت أقاوم الرّغبة في النّظر إليه. لكنّني كنت على يقين بأنّه يتابعني بنظراته, حتّى أنّني كدت أتعثّر مرّتين من حدّة الإحساس بأنّه هناك. يسجّل كلّ نفس. كلّ خطوة. كلّ إحساس. كلّ إشراق أو فيض في نفسي. إنّه يقشّرني مثل برتقالة. يقرأني مثل كتاب مفتوح. يحرّك خيوط الضّوء المتراقص عند خشب قلبي. يباركني.يؤازرني. يحميني من الردّة. يسند جسدي الذي كدت أفقد توازنه, حتّى لا يميل. بيني وبينه الأرض. بيني وبينه نصف ميل. هوّ السّاكن في ضلوعي. المطّلع على خفايا الأمور. هوّ. القادم. المدبر. القريب. البعيد. السّاكن. الهاجر. المعاتب. الغافر. المتفرّد. الجمع. السّؤال. الجواب. المسألة. الحلّ. الرّجوع. القطيعة. المحلّ. المسافر. النّديم. الجمر. الضّوء. النّار. الكلّ في آن.
ويبدو أنّ – جاك تسيغوينا – كان قد بدأ في العزف على قيثارته منذ مدّة, لأنّني انتبهت, إليه. هوّ. هناك. وهو ينقر بأصابعه على الطّاولة, متابعا الإيقاع. ولأوّل مرّة وجدت أنّ عزف –جاك-ليس سيّئا. إطلاقا. بل يمكن القول بأنّه مقبول ومناسب للجوّ العام. ثمّ لا ينبغي أن نأخذ – جاك-على أنّه موسيقي عظيم. إنّه لم يدّع ذلك في أيّ يوم من الأيّام أيضا.
دبيب مثل دبيب النّمل يتصاعد بدغدغة مع دمائي المتخثّرة. كنت أحسّني أرتدّ إلى الأرض. شيئا ثقيلا كالرّصاص يسحب الضّوء من عيني.مبتلّ ولزج أنا. أحاول بكلّ ما تبقّى لي من جهد, مغالبة الرّغبة في الإرتخاء. كنت ممزّقا, بين الرّغبة في طلب كأس أخرى, تسوّى وضعي المائل, وبين نداء الفراش الأجشّ.ووجدتني في أشدّ الحاجة إليه. هوّ, هناك. هوّ بالذّات. والآن. الآن وليس في أيّ وقت آخر. سأنظر صوبه. هكذا. سأنظر إليه, وليكن ما يكون. هيّ فرصتي الآن. كان بي عطش للحديث معه هوّ بالذّات. فهو الذي يمكنه رفع أحمالي. هوّ الذي سيخلّصني من هذا القناع الذي تعرّقت تحته تضاريس وجهي وعطنت منذ نصف قرن. هوّ خلاصي وفرصتي الأولى والأخيرة. وليذهب الوقار إلى الجحيم. لتذهب الجداول والقواعد والحذر إلى الجحيم. أريد أن أحيا. أن أبعث حيّا.سأحكي له عن سالمة بنت الجيران. حبّي الأوّل الذي حملته معي كامل الوقت في صمت.سأحدّثه عنها. صورتها وهي تنشر الغسيل فوق السّطح. وهي تدلق ماء الصّابون أزرق أمام عتبة الدّار. فيصيبني الدّوار. حجارة صومعة المسجد, عند آخر الحيّ القديم. أنا الذي خربشت بأعلاها حروف اسمها. س. للأبد. وعلى سور المعهد الشّرقيّ وأطر شبابيك دار الثّقافة الخضراء أيضا. أنا الذي فعلت كلّ ذلك ولم يعلم بشر. أنا الذي فعل ذلك وأكثر.
سأحكي له قصّة حبّي – لهيام يونس – .العسل المعطّر في شفتيها وهي تتهجّأ حروف أغانيها. تميل فأميل. تكوّر شفتيها, فيصيح كلّ سكّان جسدي : الله أكبر…الله أكبر. رفع الحقّ وزهق الباطل. إنّ الباطل كان زهوقا.سأحكي له أيضا. وسيضحك. كيف أنّني كتبت لها رسالة, سلّمتها لموظّف الإستقبال بنزل- أميلكار – حيث كانت تقيم حين قدومها ذلك الصّيف البعيد.
الكلاب تتنابح. هناك حيث لاشيء يدلّ على مرور الوقت غير تشقّق قبر. أو تفسّخ ألوان الأبواب الخشبيّة. الكلاب قد تتنابح. هناك.
كيف يمكن بربّك تبيّن الحدّ بين التّفاصيل, وقلبك متورّم كجرذ متعفّن. فطس منذ اسبوع. وروحك مليئة بالرّيش الملطّخ والبثور؟رغوة البيرّة البيضاء. البيرّة البافاريّة البيضاء تفيض. تفيض من كأس – راينه – هناك. تفيض وتفيض, وهوغائب في قعر كأسه. قعر القعر في قعر كأسه. لولب. لولبيّة. شيىء كريه يتدافع حرّا إلى الأعلى. حلقك يتقلّص ثمّ يتماسك في آخر لحظة. لم يبق إلاّ أن تلوّث قميصك أيضا, ولا سبيل للوصول إلى المرحاض, دون المخاطرة بحدوث الأمر. فضيحة. لن أتحمّل أن تنحني النّادلة لتنظيف الأرض وملابسي, أو عفونتي على الطّاولة. سأقاوم.
جاءني صوتها من أعمق أعمق فجاج الدّنيا.رفعت رصاص راسي وخوّصت عيني اليمنى لأركّز.
- هل يمكنني رفع منفضة السّجائر ؟ أعادت النّادلة مرّة أخرى وهي ترمقني باستياء واضح.- منفضة ماذا ؟- منفضة السّجائر!…أعادت النّادلة مرّة أخرى. – لأنّنا سنغلق.
أدرت كالحصان المذعور ببصري في كلّ اتّجاه.
كنت الزّبون الوحيد بالمقهى. عند البار, كان– طاراكان- مسندا رأسه إلى يديه وهو ينظر لي نظرات عدائيّة تقطر سمّا. يبدو أنه كان في منتهى درجات الضّيق.
لا أحد على الإطلاق, غير النّادلة و –طاراكان- . لا أحد إطلاقا.- سنغلق.
كرّرت النّادلة بتبرّم ونفاذ صبر.
- وأين السيّد صاحب ربطة العنق الخضراء, الذي كان يجلس هناك عند تلك الطّاولة ؟- عن أيّ شخص تتحدّث.- الشّخص الذي كان هناك. السيّد الذي يلبس ربطة عنق خضراء مثلي. أين هوّ ؟؟- لم يدخل أحد يلبس ربطة عنق, منذ اسبوع غيرك .- السيّد الذي……- من فضلك يا حضرة. لم يدخل اليوم ولا في أيّ وقت من الأوقات أحد يلبس ربطة عنق. لا حمراء ولا خضراء. قاطعني – طاراكان – بحدّة وهو ينهض بغضب أذهلني.
دفعت الحساب, وخرجت وأنا في شبه غيبوبة, رغم أنّني كنت قد أفقت تماما من السّكر.هناك خطأ ما.هناك خطأ ما.
إنّهم كذّابون. محتالون.لم يتحمّلوا رؤيتي مرّة واحدة سعيدا. لم يتحمّلوا أولاد الكلب. لذلك ينكرون كلّ شيىء.
كانت تعابير وجهه قد تكسّرت تماما, من جديد, وهو يرفع وجهه نحو.
- ستظنّ طبعا أنّني كنت سكران. أو أنّني لم أنتبه إلى أنّها صورتي منعكسة في الزّجاج.أقسم لك أنّ الأمر لم يكن كذلك.
عموما لم يعد يعنيني ذلك على الإطلاق. لقد مرّ وقت طويل على تلك الحادثة.ثمّ أنّني لم أدخل تلك الحانة الحقيرة التّافهة بعدها إطلاقا. بل أنّني كنت ولمدّة الثّلاث سنوات التي سكنتها بعد تلك اللّيلة بنفس المبنى أتجنّب حتّى مجرّد المرور من أمامها.وقد وجدت حلاّ مناسبا لي ولهم. أنني كنت أدخل المبنى من بابه الخلفيّ. حيث مأوى السيّارات.
كمال العيادي –
ميونيخ*
العنوان الأوّل للقصّة : ليلة لا يمكن إدراجها بمذكّرات السيّد عبد المجيد.وهذه هوّ العنوان الأخير للقصّة, كما ستنشر بمجموعة وجوه وأقنعة
ww.kamal-ayadi.com
ة