بقلم: إبراهيم علي
في مطلع سبعينيات القرن الماضي، كانت لدينا في البحرين "كلية الخليج الصناعية" التي تحول مقرها في مدينة عيسى لاحقا إلى مجرد فرع من فروع جامعة البحرين. والذين حالفهم الحظ، وتلقوا تعليمهم العالي في هذه الكلية، لا شك أنهم يتذكرون كيف كانت أجواءها الأكاديمية و أنشطتها الطلابية و فعالياتها الثقافية متقدمة جداً بالمقارنة مع ما يجري اليوم في أروقة جامعاتنا، سواء كان الحديث عن جامعة البحرين أو الجامعات الخاصة التي بدأت تنبت كالفطر من حولنا دون معايير أكاديمية صارمة أو رقيب يحصي عليها خطواتها الأكاديمية و نوعية مناهجها و كفاءة أساتذتها، إلى الحد الذي لم تتردد فيه إحدى هذه الجامعات الجديدة التي لم يمض على ظهورها سوى اقل من سنتين عن الإعلان عن منحها درجات الماجستير، بل و الدكتوراه أيضا. هذا مع العلم بأن الجامعات الجادة والحريصة على سمعتها و مستواها الأكاديمي تتريث طويلا قبل الشروع في إطلاق برامج الماجستير و الدكتوراه.
على أننا في هذه العجالة لسنا بصدد تقييم النوع الأخير من جامعات البحرين، لأن الحديث في هذا الشق يطول و يحتاج إلى متخصصين، و إنما بصدد البحث في مفهوم الجامعة و الأدوار التي تلعبها في حياة مجتمعاتها. فمن نافلة القول التذكير بأن التعليم الجامعي في أي مكان و أي زمان يهدف إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية، تختلف كلها عن أهداف التعليم ما قبل الجامعي. و بعبارة أخرى، إذا كان الهدف من التعليم ما قبل الجامعي تسليح الطالب أو الطالبة بمعارف مبدئية شاملة في حقول العلم المختلفة و تعويده على الطاعة و الإنصات و المتابعة و الاستذكار و الاهتمام بما يطلب منه من فروض و واجبات، فان التعليم الجامعي يستهدف أمورا أكبر و أوسع من مجرد تخصص المتلقي في فرع من فروع المعرفة، و إلا لما سمي بالجامعي.
انه يهدف باختصار إلى صقل شخصية المتلقي، و تمكينه من الاعتماد على نفسه، و إعداده لأدوار قيادية في حاضر و مستقبل بلده و مجتمعه. و هذا لن يتأتى إلا من خلال تعويده على التفكير الحر المستقبل، و إزالة الوصاية الأبوية عنه، و تحفيزه على التعبير عن ذاته و أفكاره دون وجل، و تشجيعه على إظهار طاقاته و مواهبه دون تابوهات. و هذا بدوره لن يتأتى إلا بوجود أمرين على الأقل هما: جو أكاديمي مفعم بروح التحدي، تتصارع فيه الأفكار، و تتلاقح فيه الأبحاث، و تنشط فيه الفعاليات الراقية على مدار العام. و جامعات ترتبط بمشاكل مجتمعها و تتفانى في خدمتها و تحرص على دمج طلبتها في صميم متطلبات الارتقاء بهذا المجتمع.
وإذا ما تأملنا في حقيقة أداء تعليمنا العالي منذ كلية الخليج الصناعية، فإننا نكتشف أن هناك تقدما قد تحقق بالفعل، لكنه للأسف الشديد شمل الكم و ليس الكيف. إذ أن كل المعطيات الماثلة أمامنا اليوم تفيد بأن تقدمنا كان على المستوى العددي للخريجين، و ربما على مستوى تمدد المباني الجامعية وجمال أشكالها الهندسية، في الوقت الذي تراجعنا فيه كثيرا لجهة نوعية التعليم و الأداء الأكاديمي، و بالتالي لم نحقق شيئا من الأهداف الحقيقية المرتجاة من إطلاق الجامعات من تلك التي سبق شرحها.
و لا نبالغ لو قلنا أن كلية الخليج الصناعية، و رغم كل ظروف السبعينات الصعبة، قدمت وقتذاك حياة طلابية وتعليمية شبه متكاملة لطلابها، شاملة أنواعا لا تعد من الأنشطة الأكاديمية و غير الأكاديمية من تلك التي جرت في أجواء صحية بعيدة عن التزمت والتشدد الذي بات يسمم أجواء جامعات اليوم ، و بما أثرى تجارب الطلبة و صقل شخصياتهم و استنطق مواهبهم وساعد على تواصلهم و عزز علاقاتهم و قرب فيما بينهم و مكنهم من معرفة هموم و أحلام مجتمعاتهم. و هذا بطبيعة الحال لعب دورا محوريا في حصول البحرين وقتذاك على كوادر متخصصة قادرة على قيادة مسيرة التنمية و تبوء المناصب القيادية و الإشرافية و التنفيذية في القطاعين العام و الخاص باقتدار رغم حداثة تخرجها.
في مقابل هذا ، نجد أن الفترة التالية وصولا إلى أيامنا هذه، حفلت بمظاهر التراجع التدريجي في قطاع التعليم العالي و مخرجاته، الأمر الذي يمكن البرهنة عليه من خلال ما نراه من توجه شركات القطاع الخاص والمصارف نحو تبني سياسة تفضيل خريجي الجامعات الأجنبية الأوروبية والأمريكية على خريجي جامعة البحرين في إشغال الوظائف الشاغرة. ودلالة هذا التوجه أن خريجي الجامعات المحلية أو الوطنية لا يمتلكون المؤهلات العلمية والشخصية التي تتفق مع معايير السوق العالمي واحتياجاته و تستطيع تحقيق الأهداف المنشودة للمؤسسات الاقتصادية والمالية الحديثة. كما أن هناك الكثير من أولياء الأمور الذين استدانوا من أجل إن يبعثوا أبناءهم لإكمال تعليمهم الجامعي في الجامعات الأسترالية والأوروبية والأمريكية، وذلك بسبب عدم ثقتهم في التعليم الجامعي الوطني.
وبعد ، فان السؤال الذي تطرحه الوقائع السابقة هو: إلى أين يمضي تعليمنا الجامعي؟ و إلى متى نظل نخدع أنفسنا بالقول أن كل شيء في قطاع التعليم العالي عال العال؟ الم يحن الوقت بعد لإحداث ثورة شاملة في هذا القطاع وبالاستناد إلى تجارب الأمم الحية في الشرق، كيلا نقول الغرب؟ و ماذا سنقول لأجيالنا الشابة من المنخرطين اليوم في جامعات خاصة بائسة لا تستحق هذا المسمى، يوم أن يكتشفوا أن زهرة شبابهم ضاع في تحصيل شهادات لا تساوي شيئا بمعايير سوق العمل العالمي و لا تطعمهم خبزا في عالم لا يتوقف عن التحديث و التجديد و الارتقاء.
أسئلة نترك الجواب عليه للمسؤليين عن التعليم العالي في المملكة.
bumarwan@batelco.com.bh
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق