د. داود خيرالله
طلبت الحكومة اللبنانية وقرر مجلس الأمن الدولي انشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة قتلة الرئيس الحريري وعدد من المواطنين. السجال السياسي الذي قام ولا يزال مستمرّا حول هذه المحكمة والاطلاع على ما تسرّب ونشر كمسودة لنظامها الأساسي يستدعي بعض الملاحظات. يبدو مشهد قيام المحكمة الدولية الخاصة للبعض بأنه يعكس مقايضة السيادة الوطنية بمصالح سياسية لبعض الفرقاء الداخليين ولأخرين يبدو تنازلا عن السيادة من أجل بلوغ العدالة فيما يخشى آخرون أن ما يجري قد يكون تخلّ عن السيادة والعدالة والاستقرار الوطني.
مما لا شك فيه أن القبول بانشاء المحكمة الدولية الخاصة لممارسة أعمال قضائية , على ضوء ما ينصّ عليه مشروع نظامها الأساسي, والقيام بوظائف هي في صميم الاختصاص والسيادة اللبنانية هو تخلّ عن جزء هام من السيادة الوطنية. فالسيادة هي الاستئثار بالحكم الذاتي. وأهمّ مظاهر السيادة هو أن تتولّى الدولة ممارسة كافة حقوقها ومسؤولية تطبيق القوانين في كل الجرائم التي ترتكب على أرضها. من الصعب جدّا تصّور دولة تتمتع بسيادة تامة تقبل بالتنازل عن حقها في أن تقوم أجهزتها وموظفوها بتطبيق قوانينها على كافة اراضيها بما في ذلك مكافحة وعقاب كل من يخالف هذه القوانين.المحاكم الجنائية الخاصة ذات الطابع الدولي تقام عادة لتطبيق القانون في دول منقوصة السيادة.
لكنّ العديد من المواطنين قد يشعر بأن العدالة هي هدف كل مجتمع بشري راق, وأن تحقيق هذا الهدف هو قيمة قد تعلو على قيم عديدة وتدفع الى التنازل عن السيادة في بعض وجوهها فيغالب المواطن حزنه بأنه ينتمي الى وطن تشعر فيه حكومته المؤتمنة على السيادة الوطنية والمكلّفة بممارستها بان العدالة لا يمكن ان تأخذ مجراها وتبلغ هدفها في ظل حكمها فتطلب انشاء محكمة دولية تقوم بما تعجز هي عن القيام به. يغالب المواطن حزنه ويقبل بالتنازل عن بعض السيادة شرط أن تأخذ العدالة مجراها وتبلغ هدفها. وقد يمنّي هذا المواطن النفس بأن مثل هذا الاجراء قد يساهم بشكل فعّال في الحدّ من انتشار ثقافة الاغتيالات السياسية في المستقبل.
لكنّ المقلق هو أن تصبح المحكمة الدولية الخاصة وسيلة لتحقيق أهداف سياسية خارجية وداخلية دون أن تبلغ العدالة هدفها, فتصبح في أيدي محرّكيها "كالمسار السلمي" أي أن المسار أصبح هو الهدف وهو الوسيلة للابتعاد عن السلم, فتطول التحقيقات والاجراءات القضائية والتقارير ذات المفاعيل السياسية ولا تبلغ العدالة هدفها وقد تخرج القضية كلّيا عن سيطرة السلطات اللبنانية ويتحكّم بها المسيطرون على "الشرعية الدولية".
فهل من مبرر لهذا القلق؟
طبيعي ان يهزّ اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق لبنان بكل أطياف شعبه ولكن الاهتمام الذي لقيه هذا العمل الاجرامي وردود فعل بعض سلطات المجتمع الدولي خاصة الولايات المتحدة وفرنسا أمر غير مالوف لا بل غير مسبوق. وقد اتخذ هذا الاهتمام شكل الرغبة في مساعدة لبنان على معرفة الحقيقة بالنسبة للجناة لكي ينالو عقابهم. فكان قرار مجلس الأمن رقم 1595 في تعيين لجنة تحقيق دولية لمساعدة السلطات اللبنانية في التحقيق والكشف عن الجناة وقد اختير السيد دتلف مليس رئيسا لهذه اللجنة التي اعطيت امكانيات مادية وتقنية وصلاحيات ندر أن نال مثلها محقق دولي. فكانت النتيجة أن أساء السيد مليس استعمال وظيفته وخالف كافة القوانين والأعراف لجهة الحفاظ على مبدأ سرية التحقيق بما فيها قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني الملزم له. فسرّب معلومات كان يجب أن تبقى سرّية ونشر أسماء وافادات لشهود ولمتهمين استمع اليهم, وأمر بتوقيف متهمين لا يزالون في السجن بناء على افادات شهود تبين كذبهم فيما بعد, وأعلن في تقاريره عن خطته في اجراء التحقيق وعن استنتاجات قطعية بلغها بالرغم من اعلانه بأن لجنته كانت لا تزال في بداية تحقيقاتها وقد طلب ومنح تمديد المهلة المحددة لاكمال التحقيق.
فلو صدر عن أي فرد عادي جزء بسيط من المعلومات التي نشرها أو سرّبها السيد مليس لحوكم بجريمة اعاقة مجرى العدالة. وليس أدلّ على مخالفة السيد مليس لمبادئ وأصول جوهرية في التحقيق الجنائي من عمل السيد برميرتس الذي خلفه في ترؤس لجنة التحقيق الدولية. فطريقة اجراء التحقيقات وكتابة التقاريرالتي يضعها السيد برميرتس هي ادانة واضحة لما قام به سلفه. فسرية التحقيق أضحت مصانة ولم نعد نسمع أو نقراء في تقارير لجنة التحقيق الدولية عن أسماء وافادات الشهود والمتهمين, وأضحت الاستنتاجات رهينة انتهاء التحقيق. أن عمل السيد مليس كان ذو أهداف سياسية بامتياز. فهدف تقاريره واستنتاجاته المبكرة كان استعمالها لاستصدار قرارات عن مجلس الأمن الدولي هدفها سياسي في جوهره وهذا ما حصل.
بعد مرور عام ونصف العام على بدء التحقيق الدولي بجريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه, والتحقيق هو المرحلة الأهمّ في كشف الفاعلين ومعرفة الحقيقة وهو الموضوع الأساسي لكل محاكمة قادمة, لم يعرف حتى الآن من الجاني ولم يصدر بحق أي فرد, بمن فيهم الضباط الذين لا يزالون موقوفين على ذمة التحقيق, أي قرار بالاتهام أو الظن. ولكن قبل تعيين متهم يمكن احالته الى المحاكمة تتسارع الأحداث وتزداد الضغوط من أجل اقامة محكمة دولية خاصة تحلّ محل السلطات اللبنانية في كل ما يتعلّق بادارة اجراءات التحقيق والمحاكمة وتنتزع من السلطات اللبنانية ما حفظه قرار مجلس الأمن رقم 1595 لها من سيادة بهذا الشأن. فما هي طبيعة وخصائص هذه المحكمة؟
الاستئثار في تطبيق القوانين الجزائية من قبل الدول كان ولا يزال رمزا هاما من رموز السيادة الوطنية. يمكن مثلا أن تحدد قواعد القانون الدولي الخاص في دولة ما تطبيق قوانين دولة أخرى على بعض العقود والمعاملات الخاصة وكذلك تنفيذ أحكام صادرة عن محاكم دول أخرى في شؤون القضايا المدنية والتجارية, لكن من غير المألوف أن تقبل دولة أن تطبق على أراضيها قوانين تتعلق بالشأن العام وخاصة القوانين الجزائية أو تنفيذ أحكام صادرة بهذا الشأن عن غير المحاكم الوطنية. لكنّ الفظائع والمآسي التي خلّفتها جرائم الحرب والابادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية, التي مكّن التطور التكنولوجي المجتمع البشري من معايشتها, جعل من ايجاد مرجع قضائي فعّال على المستوى العالمي للحد من هذه الجرائم ضرورة ملحّة عبّرت عنها الجمعية العمومية للأمم المتحدة منذ عام 1948 . لكنّ رغبة المجتمع الدولي هذه لم تترجم الى واقع حتى عام 1998 مع توقيع اتفاقية روما المنشئة لمحكمة الجنايات الدولية التي مركزها في لاهاي.
لكن العالم شهد قيام عدة محاكم جنائية خاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فمحاكم نورمبرغ وطوكيو أقامها الحلفاء لمحاكمة القادة الألمان واليابانيين الذين اعتبروهم مسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت ابّان الحرب العالمية الثانية. ولم تسلم هذه المحاكم من النقد على أساس أنها كانت محاكم أقامها الغالب لمحاكمة المغلوب. وقد أنشأ مجلس الأمن الدولي محاكم جنائية خاصة لمحاكمة المسؤولين عن جرائم الابادة الجماعية والتطهير العرقي اثر الفظائع التي رافقت تفكك يوغوسلافيا وتلك التي ارتكبت في بوروندي نتيجة حرب أهلية. وكان القانون الذي يطبق في هذه المحاكم هو القانون الدولي والقضاة هم من رعايا دول أجنبية. لم تحقق هذه المحاكم الهدف المرجو منها ان لجهة السرعة في التحقيق أو البت بالدعاوى أو الكلفة المادية أو الأثر الايجابي على الذين عانو من الجرائم ومرتكبيها. وقد عمد مجلس الأمن الدولي الى انشاء محاكم وصفت بالهجينة لأنها ضمت قضاة محليين اضافة الى قضاة أجانب للنظر بالجرائم التي وقعت في سيراليون وكوسوفو وكمبوديا وغيرها.
ان ما يميز المحكمة الخاصة بلبنان عن سواها من المحاكم الجنائية الأخرى ذات الطابع الدولي هو أنها الوحيدة التي أنشئت لمعالجة جريمة قتل سياسية وصفت بالعمل الارهابي لكي يكون لمجلس الأمن الدولي مبررا للتدخل ان بالنسبة للتحقيق أو اقامة المحكمة. ولن يكون على المحكمة الخاصة النظر في أية تهمة أو جريمة من أجلها أنشئت محاكم جنايات دولية. فخلافا للمحاكم الدولية الأخرى لن تنظر المحكمة بجرائم تعتبر عادة جرائم ضد القانون الدولي كجرائم الحرب والابادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية. وفيما يتعلّق بجريمة الارهاب التي تتكرر بسخاء وغزارة في قرارات مجلس الأمن فليس هناك تعريف متفق عليه في القانون الدولي لهذه الجريمة أو عقاب معيّن لها. وليس هناك سابقة أن نظرت محكمة دولية بجريمة وصفت بأنها عمل ارهابي. لذلك فلا مناص من تطبيق القانون اللبناني على جريمة هي في الأساس من اختصاص القضاء اللبناني. وهذا ما نصّت عليه المادة الثانية من مسودة النظام الأساسي للمحكمة العتيدة.
المحاكم الدولية الخاصة لم تسلم من الانتقاد لاسباب عدة ومنها أن الدوافع لأنشائها يغلب عليها الطابع السياسي. لذلك فاللجوء الى" محكمة الجنايات الدولية" هو الخيار الأفضل لابعاد تهمة التسيس عن المحكمة التي تقام لأسباب خاصة وأهداف معينة. ولكن جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه لا يمكن احالتها الى محكمة الجنايات الدولية ليس لأن لبنان ليس عضوا موقعا على الاتفاقية المنشئة للمحكمة, فهذا أمر لحظه النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية ونص على وسائل عدة لتجاوزه. لكن العائق الأساسي هو أن العمل الجرمي المرتبط باغتيال الرئيس الحريري لا يدخل ضمن الجرائم التي هي ضمن اختصاص المحكمة الدولية وهذا دليل اضافي بأن المحكمة الخاصة التي يجري انشاؤها يصعب تجريدها عن مآرب سياسية.
هناك أسباب عدة تدفع للاعتقاد بأن الدوافع وراء انشاء المحكمة "ذات الطابع الدولي" الخاصة بلبنان لا تعكس استجابة للرأي العام العالمي لوضع حد لجرائم ضد الانسانية وانزال العقاب بمرتكبيها, كما هو الوضع بالنسبة لكافة المحاكم الجنائية الدولية الخاصة واالعامة, ولا تعكس رغبة صادقة لاحقاق الحق وبلوغ العدالة كما يتمنى العديد من اللبنانيين. وسوف اقتصر من هذه الأسباب وأصحاب الأهداف السياسية على موقف الولايات المتحدة الأميركية.
مما لا شك فيه أن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ليس لها أن ترى النور لولا ارادة وعمل ونفوذ الولايات المتحدة في مجلس الأمن. ففي حين تسعى معظم دول وشعوب العالم الى اعطاء محكمة الجنايات الدولية, لما تتمتع به من كفاءة وصدقية ونزاهة القدرة على ممارسة سلطات فعلية في تطبيق القانون الدولي الانساني وفرض حكم القانون على مرتكبي كبار الجرائم في القانون الدولي, تمتنع الولايات المتحدة عن التوقيع على الاتفاقية المنشئة لمحكمة الجنايات الدولية وتفرض عقوبات على كل دولة تنضمّ الى المحكمة الدولية ما لم توقع مع الولايات المتحدة تعهّدا بأنها لن تلجأ الى محكمة الجنايات الدولية بشأن أية جريمة أو مخالفة قد يرتكبها جنود أو مواطنون أميركيون أو من حالفهم.
أما بشان المحاكم الجنائية الخاصة فيكفي لتقييم موقف الولايات المتحدة لجهة التجرد والحرص على أن تأخذ العدالة مجراها وتبلغ هدفها مقارنة موقفها بشأن محاكمة ومعاقبة من تعتبر أنهم ارتكبوا جرائم جسيمة وخطرة في العراق وفي لبنان. ففي العراق تعتبر الولايات المتحدة, وقد أعلن رسميّوها مرارا, أن صدّام حسين وشركاه في الحكم مسؤلون عن جرائم حرب وجرائم ابادة جماعية اضافة الى أصناف عدة من الجرائم ضد الانسانية, لكنها ترفض انشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة صدّام ورفاقه. فمن أجل بلوغ العدالة بالنسبة لجرائم دولية بامتياز تلجأ الولايات المتحدة, وبصورة مخالفة للقانون الدولي الذي لا يجيز للمحتل اقامة مثل هذه المحكمة, الى انشاء محكمة عراقية خاصة, في بلد مسلوب السيادةّ وفي حالة تمزّق داخلي, تعمل في الاطار العراقي وفي منأى عن كل رقابة دولية وتعكس في تكوينها كافة الأحقاد والخلافات الداخلية, مما يحول دون بلوغ محاكمة عادلة ولا يضمن سوى الانقسام الدخلي العراقي وارتياب الرأي العام العالمي بعدالة أي حكم يمكن أن يصدر عنها.
أمّا بالنسبة الى لبنان فالجريمة التي هي دون أي شك من اختصاص القضاء اللبناني ولا يوجد قانون دولي يطبق بشأنها وليس هناك قرارات سابقة لمحاكم دولية يمكن العودة اليها, فتعمل الولايات المتحدة مع فرنسا وبمساعدة أطراف لبنانية على انشاء محكمة دولية حتى لو كان القانون اللبناني هو وحده القانون الواجب التطبيق.
المهمّ بعد التنازل عن جزء هام من السيادة الوطنية والمخاوف التي أثارها موضوع المحكمة الدولية أن تأخذ العدالة مجراها وأن لا يصبح دم الرئيس الحريري وآخرون من قادة الرأي الذين قضو في ظروف مماثلة موضوع متاجرة سياسية وأن تصبح المحكمة الدولية الخاصة وسيلة لمزيد من التصدّع الداخلي يمتدّ ويتفاقم مع امتداد فترة التحقيق وبطئ المحاكمة. فما الذي يمكن توقعه بعد اكتمال الخطوات اللازمة لانشاء المحكمة وملئ الوظائف الضرورية لبدء عملها؟
ما يأمله كل مواطن حريص على مصلحة لبنان وما يرجوه كل محب للعدالة هو أن يشغل كافة الوظائف الرئيسية في المحكمة من تتوفر فيهم النزاهة والكفاءة والخبرة والاستقلال والجرأة الأدبية للوقوف بوجه أي تدخّل من قبل أية سلطة مهما علا شأنها وعظمت قوّتها. وأن ينتهي التحقيق والمحاكمات بأسرع ما تقتضيه الضرورات الاجرائية والكفاءة المهنية وتعود الى لبنان سيادته في بسط سلطة القانون على أرضه بصورة تامة وباسرع وقت ممكن. فبالرغم من كل ما ارتكب من أخطاء وتجاوزات وما لقي الشعب اللبناني من معاناة نتيجة اغتيال الرئيس الحريري يمكن للمحكمة اذا توفرت لها النزاهة بالاضافة للكفاءة أن تصل الى نتائج يتمنّاها كل محب للعدالة ويكون عملها سابقة تحتذى في اماكن أخرى من العالم اذا ما اقتضت الضرورة.
لكن من الصعب تبديد شكوك من يساورهم القلق بالنسبة للأهداف السياسية من وراء انشاء المحكمة وما يحتويه نظامها الأساسي من فجوات. قد يكون من المستبعد أن تصدر عن المحكمة أحكام نهائية لا تعكس حدّا أدنى من المهنية من قبل القضاة, الا ان هناك دلائل عدّة بأن المحكمة يمكن أن تستغل لبلوغ أهداف سياسية كما جرى في المرحلة الألى من التحقيق ابّان كان في عهدة السيد مليس. أولا ان مآرب الولايات المتحدة وفرنسا وكذلك الأطراف اللبنانية من وراء انشاء المحكمة لا يمكن تجريدها من الأهداف السياسية. والاصرار على انشاء المحكمة وبدء عملها قبل نهاية التحقيق أمر يدعو للريبة والتساؤل.
بموجب المادة الرابعة من مسودة النظام الأساسي للمحكمة "عند تعيين المدعي العام وفي فترة لا تتعدّى الشهرين, ستطلب المحكمة الخاصة من السلطات القضائية الوطنية المسؤولة عن قضية الهجوم الارهابي على رئيس الوزراء رفيق الحريري وآخرين, الخضوع لاختصاصها" وكذلك سوف تحيل السلطات اللبنانية بناء على طلب المحكمة الخاصة الموقوفين ونتائج كافة التحقيقات ونسخ عن سجل المحكمة. وبناء على طلب المحكمة أيضا, "ستخضع السلطة الوطنية المعنية لاختصاص المحكمة". وبذلك يتم التنازل عن كل ما حفظ قرار مجلس الأمن رقم 1595, الذي أنشأ لجنة التحقيق الدولية، للسلطات اللبنانية من سيادة بالنسبة لادارة التحقيق وتطبيق القانون بشأن الاعمال الجرمية التي رافقت اغتيال الرئيس الحريري وآخرين. فضلا عن ذلك ان كف يد القضاء اللبناني بصورة فورية وقبل انتهاء التحقيق يبدو مخالفا لقرار مجلس الأمن رقم 1644 الذي أقرّ في البند 6 منه طلب الحكومة اللبنانية بأن "يحاكم من توجه لهم في آخر المطاف تهمة الضلوع في هذا العمل الارهابي أمام محكمة ذات طابع دولي...." فهل بلغ التحقيق آخر المطاف ؟ وهل يجوز اختصار التحقيق أو النيل من وحدته عن طريق احالته لمدّعي عام المحكمة الخاصة قبل تمامه؟
هناك فجوات لجهة القانون الواجب التطبيق من الوجهة الاجرائية والأساسية تدعو الى القلق. فبالنسبة الى اجراءات المحاكمة وقواعد الاثبات يبدو أن مسودة نظام المحكمة لم تلحظ قواعد معينة لأصول المحاكمات وقبول الأدلة. وفي المادة 28 من مسودة نظام المحكمة يترك لقضاة المحكمة الخاصة وضع نظام اجراءات بعد تأليفها. فان كان ذلك جائزا في بعض لجان التحكيم الدولية الاّ أنه غير مألوف ويشكل سابقة خطيرة في القضاء الجزائي.
في الباب الثالث من مشروع نظام المحكمة وخاصة في المادتين 13 و16 منه يتبنى مشروع النظام بصورة عامة المعايير الدولية للمحاكمات الجنائية الدولية خاصة لجهة حقوق المشتبه فيهم والمتهمين, الا أنه يغفل الاشارة الى حق الموقوف بطلب اخلاء سبيله من المدعي العام لدى المحكمة الخاصة ضمن مهلة زمنية معقولة اذا لم تتوفر لدى المدعي العام أدلّة بحقه تجيز استمرار التوقيف. وهذه فجوة هامة جدّا بالنسبة لمصير الضباط الموقوفين.
ولعلّ أهم مصادر القلق في مسودة نظام المحكمة الخاصة هو توسيع صلاحيات المحكمة بحيث تمتد, بالاضافة الى جريمة اغتيال الرئيس الحريري, الى أعمال أخرى مماثلة في طبيعتها وخطورتها "حصلت في لبنان بين الأول من تشرين الأول 2004 و31 كانون الأول 2005 أو أي تاريخ لاحق يقرر باتفاق الاطراف المعنية وموافقة مجلس الأمن". ان توسيع صلاحية المحكمة هذا, بالاضافة الى أنه يتعدّى منطوق قرار مجلس الأمن رقم 1664 الذي هو المستند الأساسي في انشاء المحكمة الدولية, والذي يحصر ولاية المحكمة "بالتفجير الارهابي الذي ادّى الى مقتل رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري وآخرين" على أن تنشاء "محكمة ذات طابع دولي لمحاكمة جميع من تثبت مسؤوليتهم عن هذه الجريمة الارهابية", ان توسيع صلاحية المحكمة هذا في الزمان وبالنسبة لأفعال جرمية يترك لاستنساب المحكمة تبنّي معايير التشابه في الطبيعة والخطورة مع الأعمال الجرمية التي أودت بحياة الرئيس الحريري, يخالف مبادئ أساسية في القانون الجزائي خاصة وأن قرار مجلس الأمن رقم 1664 اعتمد أن المحكمة ذات الطابع الدولي يجب أن تستند الى " أعلى المعايير الدولية في القضاء الجنائي". ان قرار توسيع اختصاص المحكمة الى أعمال جرمية قد ترتكب مستقبلا ويترك للمحكمة القرار بشأن اختصاصها للنظر فيها يصعب تجريده من أهداف سياسية.
فبالنظر لتوسيع دائرة صلاحية المحكمة الخاصة لتشمل أفعالا جرمية عديدة ارتكبت وأفعال قد ترتكب في المستقبل اذا شاء أصحاب القرار, وبالنظر الى أن التنازل عن السيادة وممارسة الحق في تطبيق القانون بالنسبة لكافة الجرائم التي ترتكب على أرض الوطن يبدو أنه قد أصبح أمرا مقضيا, فان الأمر الوحيد الذي يمكن التطلع اليه هو أن يكون القضاة القيمون على هذه المحكمة على مستوى عال من المهنية والنزاهة والجرأة الأدبية للوقوف في وجه من باستطاعته أن يحوّل المحكمة الى أداة سياسية لتفاقم عدم الاستقرار السياسي والامني في لبنان. جميع المراكز القضائية التي يلحظها مشروع نظام المحكمة الخاصة هي على درجة عالية من الأهمية خاصة وأن ليس هناك أية هيئة قضائية أو ادارية يمكن مراجعتها في حال مخاصمة أحد القضاة أو موظفي المحكمةلاسباب ادارية أو مالية. الا أن هناك قضاة ثلاثة يجب أن يلقى اختيارهم مقدارا كبيرا من الأهمية وهم المدعي العام والقاضي الدولي لمرحلة ما قبل المحاكمة ورئيس المحكمة.
فالمدعي العام يعين من قبل الأمين العام للأمم المتحدة ويتمتع بصلاحيات واسعة ويسيطر على مجريات التحقيق والاتهام والتوسع بها, وهو يعمل بطريقة مستقلّة في المحكمة الخاصة. والقاضي غير اللبناني لمرحلة ما قبل المحاكمة هو كذلك معيّن من قبل الامين العام للأمم المتحدة وهو يتولّى تحضير الدعوى أو الدعاوى وصلاحياته تتجاوز تجميع الملفات الى التدخل مباشرة في مجريات التحقيق والمحاكمة حتّى أنه قد يعيد النظر منفردا في قانونية الأدلّة المتوافرة في التحقيقات القضائية اللبنانية أو تحقيقات لجنة التحقيق الدولية ويمكن أن يوجّه الدعوى كما يريرد دون شورى أو مراجعة. أمّا رئيس المحكمة فهو بالاضافة الى وظائفه القضائية كرئيس لغرفة الاستئناف في المحكمة فهو يمثل المحكمة الخاصة ويكون مسؤولا عن أدائها. وهو يرفع تقريرا سنويا عن سير أعمال المحكمة الى الأمين العام للأمم المتحدة.
يكفي أن يوفق أصحاب المآرب السياسية في انشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان, بتعيين قاض واحد من هؤلاء الثلاثة من صنف السيد ديتليف ميليس, أول رئيس للجنة التحقيق الدولية, لكي تصبح المحكمة الخاصة حلما مزعجا في ليل يعلم الله متى ينتهي وكم ستكون كلفته من عدم الاستقرار السياسي والأمني فضلا عن كلفة مالية قد تفوق تصوّر الكثيرين.
------------
*استاذ محاضر في القانون الدولي في جامعة جورجتاون في واشنطن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق