عائد نبعة*
زاد طنينها حتى ابتلع مسام الغرفة, وأخذت أراقبها مرتعدا, بدت كطائرة أنهكتها الغارات الكثيفة على ساحة المعركة, تهبط وتصعد ولا تدري أين وجهتها؟ كأنها تصارع سكرات الموت ,وأخيراً ارتدت بعيداً حتى كادت ترتطم بسقف الغرفة الذي يرتفع أربعة أمتار أو أكثر ،حلّقت للحظات ثم غارت كصاروخ ذكي نفث غباره في وجه أمي مصدرة أزيزاً كسماعة بائع الحلوى التي تعطلت كلما مر بقريتنا ذات صيف,صرخت أمي فجأة بعد أن طعنتني بنظرة حادة آمرة
" أخرج هذه الذبابة الملعونة من بيتي".
وفي الحال امتثلت لأوامر سيدة البيت ،أخذت أهش على الذبابة بيدي ،واضرب الأرض بقدمي ،والاحقها لأخرجها من الباب فتهرب نحو الشباك وهكذا... و أخذت تدور حول رأس أمي وكأن أمي لا تعجبها,فتلحق بها أمي الى كل الامكنة مستخدمة ما تيسر من مكانس ومن صواني القش المعلقة على الجدران .
بيتنا ككل بيوت القرية ذو سقف عال، وجدران سميكة , أذكر المرات التي افترشت بها النوافذ بوسائد صوفية أهدتنا إياها عمتي في العيد، كم كنت منتشيا بمراقبتها تحشو الصوف داخل أكياس قماشية مزركشة ناعمة الملمس, قيظ آب يتجنب النوافذ الغربية بحسب قول جدي الذي داهمه الموت وهو متمدد في باحة إحدى النوافذ عند الغروب، ودفن عشاء ذلك اليوم، وظلت جدتي التي لحقت به في نفس السنة تردد" كان جسده بارداً رغم قيظ آب".
تعلمت أمي من جدتي فرد القمح والشعير بين يدي النوافذ ليجف سريعا،ومن ثمة تخزنه في خوابيها مؤونة لشتاء مر,صرخت أمي ولكن بصوت أعلى هذه المرة، وأمرتني أن أسرع وفي الحال لمناداة أبي ليخرج هذه الذبابة التي تقضُّ راحة أمي,وتشغلها عن تنقيتها لما بين يدها من عدس وقمح .
مسرعا ذهبت إلى دكان أبي ، مشغول مع أحد زبائنه يبادل خمس بيضات بصاع شعير,فبضاعة أبي اقتصرت هذا العام على على القمح والشعير والتمر والحلاوة والحلقوم ، الزيت قد نفذ ،محصول العام الماضي كان شحيحاً بزيتونة وأمطاره,حمل الزبون صاع الشعير وغاب في شوارع القرية المقفرة المغلفة بلزوجة القيظ, زّن الدبابير ينهش حبة التين اليتيمة في الشجرة المقابلة للدكان ، ويعلو بإستمرار ليمزق الفضاء الرمادي, القرية في ذلك اليوم الجهنمي مقفرة لا يسكنها أحد,نظر أبي الذي ما زال مستغرقاً بإغلاق كيس الشعير إلى الشارع شاكيا" إن هذا أول زبون يعبر شارعنا منذ أسبوع", ما يردده أبي على مسامع أمي بإستمرار حين تشكو الفاقة وتدني الغلة ,وبالكاد أنهى كلامه، وإذا برجل فارع الطول_ لم أر مثل قامته من قبل _يذرع الشارع, مربع الجسد والكتفيين، رأسه كبير جداً وكأنه لأربعة رجال ، مخيفاً عالياً كجبل في زي رجل، يحمل فأساً عملاقة على كتفه تجهز على ثور بضربة واحدة,وقف قليلاً ،حدق في الدكان,تجمدت خطواتي ،الصمت غلف القرية ،لم أعد أسمع صوت زنِّ الدبابير ولا صوت كيس الشعير بيد ابي, لا صوت إلا صوت لهاث الغريب,ثم هم مغادراً الشارع بإتجاه المقبرة,أما ابي فمازال مشدوهاً يحدق بالغريب فهو لم ير رجلاً بهذا الحجم ابدا,رمى بأذيال الكيس من يديه وخرج مسرعاً يصرخ بالغريب أن يتوقف,حفرت اقدام الغريب حفرة حمراء في نسيج الشارع،وانتصب الجسد المرعب كعمود الظلمة رامقا ابي بنظرة محايدة متشفية، ابي حبة شعير أمام عود الحراث الذي يجره حصان ،كان وجه الغريب مفلطحاً وعيناه غائرتان وشعرة الطويل الأجعد يغطي جبهته البارزة ، لا ليس بآدمي، ملابس غريبة الشكل مصنوعة من مادة خشنة ومخاطة بشكل فظ ، يداه كبيرتان وقدماه الضخمتان العالق بهما كثير من الأعشاب والطين الجاف تسللت اليه من وعورة المسافات البعيدة ,أبتعد أبي قليلاً، وعيناه تجوسان الغريب ،لم يتوقف أبي لحظة عن الحديث وعن طرح الأسئلة "من أين جاء وإلى أين يذهب "ولكن الغريب بقي صامتاً كصمت حبل الصدى المحاذي للقرية المجاورة إلى أن دعاه أبي إلى الدكان فنظر إلي نظرة واحدة جمدت الدم في عروقي وهم راجعاً الى الدكان. طارت الدبابير التسعة عشر عن حبة التين اليتيمة وشعرت أن الريح هبت نحوي في ذلك اليوم الحار،ركض أبي من أمامه باتجاه الدكان ولحقه الغريب بخطوات ثابتة، انتظره أبي عند الباب ووصل الغريب ،وقف بجانبي فلم أجرؤ النظر إلى من سد الشمس عن عيني، ولكني شممت رائحة العرق القوية التي فتكت بحواسي ، وقف محدقاً بأبي الذي مازال يسأل بنبرته الراجفة والمرتعدة "إلى أين تذهب في هذا اليوم الحار؟",فأجاب الغريب أخيراً بنبرة حادة هزت كل الأواني التي رتبها أبي في رفوف الدكان بأنه ذاهب إلى المقبرة ليدفن نفسه,فبلع أبي ما تبقى من ريق ومسح جبهته التي تتصبب عرقاً ودعاه لشرب الشاي الأخير,حنى الغريب جسده وكور نفسه ليلج الباب الذي كان عالياً على كل رجال القرية,وأغلق الغريب الباب خلفه,ارتعدت فرائسي وبدأ صوت قلبي الذي يخفق بشدة يرتفع لدرجة أني صرت أسمعه بوضوح، نظرت إلى حبة التين اليتمة التي خلفت الدبابير الفارة نصفها، سقطت من شدة الحر والخوف على باب الدكان المقفل. خارت قدماي ولم أعرف أنمت أو أغشي علي؟.ولكني صحوت مع أذان العصر,أفقت على صوت فتح باب الدكان ،وثبت واقفا على قدمي عندما رأيت ذلك الجسد الضخم يتكور مرة أخرى للخروج من الباب، مد جسده ثم استقام كمنارة ،وضع فأسه على كتفه,ولحق به أبي الذي لم ينظر إلي _ بفأس على كتفه _ ماشيا خلفه بخطى ثابتة تشق الصمت والقيظ ،وأخذا يبتعدان نحو القرية,تسمرت في مكاني إلى ما قبيل الغروب ،وبدوت كخميس المعتوه الذي كان يجوب القرية كل صباح، يحدث نفسه بطلاسم لا يعرفها أحد قبل أن يرفسه بغل أم مسعود ويرديه قتيلاً قبل عام ونصف_.
بدأ اصفرار الجو يخيم على تخوم القرية فركضت مسرعاً نحو الجبل المطل على المقبرة والذي يأكل الشمس كل مساء،؟ فصعدت الجبل حافي القدمين أستجمع ما تبقى من أنفاسي المتقطعة حتى وصلت القمة عند الغروب, الجو يميل إلى الحمرة عند الأفق البعيد ، نتوءآت الجبال المتصلة تنتظر الشمس بفارغ الصبر لتمارس فجورها الليلي,نظرت باتجاه المقبرة فميزت الغريب وفأسه في المقدمة وأبي خلفه وكل رجال القرية الحامليين فؤوسهم خلفه متجهين إلى القبور,ركضت مسرعاً متدحرجاً على الجبل باتجاه القرية مخلفاً ورائي هذا المشهد حيث بدأ الظلام الكثيف يحط أنفاسه الثقيلة على قلب قريتنا الصغيرة,ووصلت البيت مع آخر نفس بقي لدي فإذا بأمي على وشك أن تجهز على تلك الذبابة.
زاد طنينها حتى ابتلع مسام الغرفة, وأخذت أراقبها مرتعدا, بدت كطائرة أنهكتها الغارات الكثيفة على ساحة المعركة, تهبط وتصعد ولا تدري أين وجهتها؟ كأنها تصارع سكرات الموت ,وأخيراً ارتدت بعيداً حتى كادت ترتطم بسقف الغرفة الذي يرتفع أربعة أمتار أو أكثر ،حلّقت للحظات ثم غارت كصاروخ ذكي نفث غباره في وجه أمي مصدرة أزيزاً كسماعة بائع الحلوى التي تعطلت كلما مر بقريتنا ذات صيف,صرخت أمي فجأة بعد أن طعنتني بنظرة حادة آمرة
" أخرج هذه الذبابة الملعونة من بيتي".
وفي الحال امتثلت لأوامر سيدة البيت ،أخذت أهش على الذبابة بيدي ،واضرب الأرض بقدمي ،والاحقها لأخرجها من الباب فتهرب نحو الشباك وهكذا... و أخذت تدور حول رأس أمي وكأن أمي لا تعجبها,فتلحق بها أمي الى كل الامكنة مستخدمة ما تيسر من مكانس ومن صواني القش المعلقة على الجدران .
بيتنا ككل بيوت القرية ذو سقف عال، وجدران سميكة , أذكر المرات التي افترشت بها النوافذ بوسائد صوفية أهدتنا إياها عمتي في العيد، كم كنت منتشيا بمراقبتها تحشو الصوف داخل أكياس قماشية مزركشة ناعمة الملمس, قيظ آب يتجنب النوافذ الغربية بحسب قول جدي الذي داهمه الموت وهو متمدد في باحة إحدى النوافذ عند الغروب، ودفن عشاء ذلك اليوم، وظلت جدتي التي لحقت به في نفس السنة تردد" كان جسده بارداً رغم قيظ آب".
تعلمت أمي من جدتي فرد القمح والشعير بين يدي النوافذ ليجف سريعا،ومن ثمة تخزنه في خوابيها مؤونة لشتاء مر,صرخت أمي ولكن بصوت أعلى هذه المرة، وأمرتني أن أسرع وفي الحال لمناداة أبي ليخرج هذه الذبابة التي تقضُّ راحة أمي,وتشغلها عن تنقيتها لما بين يدها من عدس وقمح .
مسرعا ذهبت إلى دكان أبي ، مشغول مع أحد زبائنه يبادل خمس بيضات بصاع شعير,فبضاعة أبي اقتصرت هذا العام على على القمح والشعير والتمر والحلاوة والحلقوم ، الزيت قد نفذ ،محصول العام الماضي كان شحيحاً بزيتونة وأمطاره,حمل الزبون صاع الشعير وغاب في شوارع القرية المقفرة المغلفة بلزوجة القيظ, زّن الدبابير ينهش حبة التين اليتيمة في الشجرة المقابلة للدكان ، ويعلو بإستمرار ليمزق الفضاء الرمادي, القرية في ذلك اليوم الجهنمي مقفرة لا يسكنها أحد,نظر أبي الذي ما زال مستغرقاً بإغلاق كيس الشعير إلى الشارع شاكيا" إن هذا أول زبون يعبر شارعنا منذ أسبوع", ما يردده أبي على مسامع أمي بإستمرار حين تشكو الفاقة وتدني الغلة ,وبالكاد أنهى كلامه، وإذا برجل فارع الطول_ لم أر مثل قامته من قبل _يذرع الشارع, مربع الجسد والكتفيين، رأسه كبير جداً وكأنه لأربعة رجال ، مخيفاً عالياً كجبل في زي رجل، يحمل فأساً عملاقة على كتفه تجهز على ثور بضربة واحدة,وقف قليلاً ،حدق في الدكان,تجمدت خطواتي ،الصمت غلف القرية ،لم أعد أسمع صوت زنِّ الدبابير ولا صوت كيس الشعير بيد ابي, لا صوت إلا صوت لهاث الغريب,ثم هم مغادراً الشارع بإتجاه المقبرة,أما ابي فمازال مشدوهاً يحدق بالغريب فهو لم ير رجلاً بهذا الحجم ابدا,رمى بأذيال الكيس من يديه وخرج مسرعاً يصرخ بالغريب أن يتوقف,حفرت اقدام الغريب حفرة حمراء في نسيج الشارع،وانتصب الجسد المرعب كعمود الظلمة رامقا ابي بنظرة محايدة متشفية، ابي حبة شعير أمام عود الحراث الذي يجره حصان ،كان وجه الغريب مفلطحاً وعيناه غائرتان وشعرة الطويل الأجعد يغطي جبهته البارزة ، لا ليس بآدمي، ملابس غريبة الشكل مصنوعة من مادة خشنة ومخاطة بشكل فظ ، يداه كبيرتان وقدماه الضخمتان العالق بهما كثير من الأعشاب والطين الجاف تسللت اليه من وعورة المسافات البعيدة ,أبتعد أبي قليلاً، وعيناه تجوسان الغريب ،لم يتوقف أبي لحظة عن الحديث وعن طرح الأسئلة "من أين جاء وإلى أين يذهب "ولكن الغريب بقي صامتاً كصمت حبل الصدى المحاذي للقرية المجاورة إلى أن دعاه أبي إلى الدكان فنظر إلي نظرة واحدة جمدت الدم في عروقي وهم راجعاً الى الدكان. طارت الدبابير التسعة عشر عن حبة التين اليتيمة وشعرت أن الريح هبت نحوي في ذلك اليوم الحار،ركض أبي من أمامه باتجاه الدكان ولحقه الغريب بخطوات ثابتة، انتظره أبي عند الباب ووصل الغريب ،وقف بجانبي فلم أجرؤ النظر إلى من سد الشمس عن عيني، ولكني شممت رائحة العرق القوية التي فتكت بحواسي ، وقف محدقاً بأبي الذي مازال يسأل بنبرته الراجفة والمرتعدة "إلى أين تذهب في هذا اليوم الحار؟",فأجاب الغريب أخيراً بنبرة حادة هزت كل الأواني التي رتبها أبي في رفوف الدكان بأنه ذاهب إلى المقبرة ليدفن نفسه,فبلع أبي ما تبقى من ريق ومسح جبهته التي تتصبب عرقاً ودعاه لشرب الشاي الأخير,حنى الغريب جسده وكور نفسه ليلج الباب الذي كان عالياً على كل رجال القرية,وأغلق الغريب الباب خلفه,ارتعدت فرائسي وبدأ صوت قلبي الذي يخفق بشدة يرتفع لدرجة أني صرت أسمعه بوضوح، نظرت إلى حبة التين اليتمة التي خلفت الدبابير الفارة نصفها، سقطت من شدة الحر والخوف على باب الدكان المقفل. خارت قدماي ولم أعرف أنمت أو أغشي علي؟.ولكني صحوت مع أذان العصر,أفقت على صوت فتح باب الدكان ،وثبت واقفا على قدمي عندما رأيت ذلك الجسد الضخم يتكور مرة أخرى للخروج من الباب، مد جسده ثم استقام كمنارة ،وضع فأسه على كتفه,ولحق به أبي الذي لم ينظر إلي _ بفأس على كتفه _ ماشيا خلفه بخطى ثابتة تشق الصمت والقيظ ،وأخذا يبتعدان نحو القرية,تسمرت في مكاني إلى ما قبيل الغروب ،وبدوت كخميس المعتوه الذي كان يجوب القرية كل صباح، يحدث نفسه بطلاسم لا يعرفها أحد قبل أن يرفسه بغل أم مسعود ويرديه قتيلاً قبل عام ونصف_.
بدأ اصفرار الجو يخيم على تخوم القرية فركضت مسرعاً نحو الجبل المطل على المقبرة والذي يأكل الشمس كل مساء،؟ فصعدت الجبل حافي القدمين أستجمع ما تبقى من أنفاسي المتقطعة حتى وصلت القمة عند الغروب, الجو يميل إلى الحمرة عند الأفق البعيد ، نتوءآت الجبال المتصلة تنتظر الشمس بفارغ الصبر لتمارس فجورها الليلي,نظرت باتجاه المقبرة فميزت الغريب وفأسه في المقدمة وأبي خلفه وكل رجال القرية الحامليين فؤوسهم خلفه متجهين إلى القبور,ركضت مسرعاً متدحرجاً على الجبل باتجاه القرية مخلفاً ورائي هذا المشهد حيث بدأ الظلام الكثيف يحط أنفاسه الثقيلة على قلب قريتنا الصغيرة,ووصلت البيت مع آخر نفس بقي لدي فإذا بأمي على وشك أن تجهز على تلك الذبابة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق