الجمعة، أكتوبر 19، 2007

أحصدوا خرائبي وازرعوا جنتكم.. لعبد السلام العطاري


زياد جيوسي

" هذيان لا أكثر "
بهذه العبارة التي تعتلي النص، يضعنا عبد السلام العطاري أمام بحر لجب ذي أمواج هادرة، تجعل المرء يفكر ألف مرة قبل أن يفكر بالإبحار، فالهذيان حالة من حالات انعدام الوعي والخروج عن المألوف والطبيعي، والإنسان لا يهذي إلا في حالات مرضية أو حالات التعب النفسي أو الإجهاد المرتفع الدرجة، فهل أراد شاعرنا أن يقطع الطريق علينا، ويجعلنا نفهم مسبقاً أنه ليس مسؤولاً عن كلماته، وأنها صدرت في حالة من حالات الهذيان ؟ أم أن الكلمات تحمل في طياتها رسالة معينة محددة الوجهة، فلا يريدنا أن نأخذها نحن بعيداً عن هذه الوجهة المجهولة التي يقصدها؟
في إبحارنا في النص نجد الشاعر يستخدم صيغة الجمع في المخاطبة: أحصدوا / ازرعوا / احرقوا / انسفوا / ابنوا / أنثروا / صبوا / أعلنوا... نجد ذلك منذ بدء النص إلى منتصفه، حيث ينتقل بنا فجأة إلى صيغة مخاطبة الفرد التي ترد أربع مرات في النص لا غير: حمقاء / تتطوعين / ارحلي / أتُركي... وينتقل إلى الحديث بصيغة المتكلم عن نفسه، فنجد كلمة أنا تتكرر في بدايات وصف الذات أربع عشرة مرة بأوصاف تتراوح بين الألم والاعتزاز بالذات، لكي يعود إلينا في نهاية النص بصيغته الأولى: ازرعوا / احصدوا / ارحلوا... لكنها هنا أعطت للمخاطب صيغة الخيار المؤلم: أحصدوا خرائبي وازرعوا جنتكم أو فارحلوا.. مشيراً إلى المخاطب أنه يبني حصاده على ألم الشاعر المتضوج ألماً وحزناً، ومن هذا الزرع المؤلم في خرائب نفس الشاعر يزرع المخاطب جنته الخاصة، بعدما أستنـزف الزرع من خرائب الشاعر، وهي أطلال حب تحول في لحظة إلى خرائب، فثوى القلب من الجمال والحب، لكنه ما زال خصباً بعطاء الزرع للمحبوب حتى على الخرائب.
إن استخدام هذه الصيغ المشار إليها تحمل في داخلها دلالات ذات معنى، فهو يخاطب الفرد بصيغة الجمع معبرّاً عن حالة من الألم الذي يعتري الروح والنفس، فيشعر بالألم مضاعفاً كبيراً ينعكس على روحه بقوة، فيستخدم تعابير، أشرنا إليها، تشير إلى الدّور الذي يلعبه الآخر في داخله وهي صيغة الفعل: احرقوا / انسفوا.. الخ، بينما حين استخدم صيغة المخاطب للفرد، أعطى صفة للمخاطب لا تنعكس عليه بقدر ما هو طلب موجه من الشاعر إلى المخاطب.. ارحلي .. اتركي..
وحين يستخدم "أنا" مشيراً إلى نفسه بالتشبيه أنه زعيم الصعاليك عروة بن الورد، الشاعر والفارس وشاعر المجون والترف، يصف نفسه أنه ما تبقى من كأس نبيذ، من بقايا قصيدة، من عشق امرأة... وهذا التعبير هو الذي يكشف ما توارى خلف الكلمات وصيغ المخاطبة من أن كل الدخان المحترق والخرائب ناتجة عن حالة عشق تعرضت لهزة أو هزيمة، ولذا نجد التناقضات في الوصف تملأ وصف الذات والأنا، فمن وصف الاعتزاز باسم عروة بن الورد إلى وصف نفسه بأنه سبي قبليّ خاسر، وشتان بين اعتزاز عروة وألم السبي وبين خريف الغضب والربيع الذي يزهر حطباً بدلاً من الزهور والأشجار.
ما سر هذا الانهزام والألم حتى يبدو حبل المشنقة أجمل حين يطوق عنقه؟ هل هو فقدان الثقة بالذات إلى آخر بلحظة محددة، فيشير إلى آخر في بطون الكلمات: " هناك من ينتصر لك.. من يحملك على مركب وأشرعة إلى مرجان البحر والمياه العذبة "، لكنه يواجه ذلك بعزة نفس صارخاً: " ارحلي واتركي لي الرمل والصحراء.. أنا عروة بن الورد"، أم ردة فعلٍ على حدثٍ ما أو حوار أو حديث ما مسَّ نفس العاشق: "هزمتنا كلماتنا وقصائدنا"، أو فقدان إيمان بحب وعشق وإنسان: "انثروا من حبق الفجر زهرة مسمومة".
هي قصيدة ألم يتجلّى في قمته حتى يبلغ ذروة العذاب وجلد النفس من جانب، والاعتزاز بالذات ومحاولة السمو على الجرح من جانب آخر، الحب والعشق المهزوم.. الحب والألم، فكانت حالة من مأساة قلب متمزق بليلة نوء شديد.
أبدع العطاري في صوره وتشبيهاته وفي طريقة تطويع صيغ المخاطبة ما بين القسوة تارة والحنان المغلف بالقسوة تارة أخرى، وما بين اعتزاز وهزيمة وتوتر وقليل من الهدوء، يجول بنا عبد السلام العطاري برائعته، فلنتمتع سوياً، ونبحر مع العطاري.

أُحصدوا خرائبي وازرعوا جنتكم
عبد السلام العطاري

"هذيان لا أكثر "
أُحصدوا خرائب الزمن المُرّ
وازرعوا اليأس حنطة
احرقوا ما تبقى من قصائدكم
وانسفوا جسور العبور
وشدوا الوثاق
حبل المشنقة يبدو أجمل
حين يطوق عنقي

ابنوا على خرائبي عروشكم المهزومة
وازرعوا فوق قباب الذاكرة صورة مشوهة
وانثروا من حبق الفجر زهرة مسمومة
شيّدوا منابركم
وانثروا كلماتكم
هذا الجمهور المقهور يحتسي عرق التعب
صبّوا ناركم
جنونكم
خوفكم
وأعلنوا أن نيرون يعود هذا المساء
حمقاء يا لغتي أنتِ
كيف تتطوعين خلف جنوني؟!
كيف أطوع رغبتي السوداء كي تكوني جحيماً
ناراً
وحكاية مهزومة؟!
هناك من ينتصر لكِ
من يحملك على مركب وأشرعة إلى مرجان البحر والمياه العذبة
ارحلي واتركي لي الرمل
والصحراء
أنا عروة بن الورد
صعلوك الحكايات القديمة
أنا شاعر المجون والترف
أنا ما تبقى من كأس نبيذ
من بقايا قصيدة
من عشق امرأة
من رائحة دخان المحرقة
أنا الجحيم حين لا تكون الجنة واحة للتصوف
أنا المبعثر بين الأساطير القديمة
أنا حجر القلاع المسلوبة
أنا هديل حمامة يطاردها الرب وجُند الحراسات
أنا صيف بلا أشجار
بلا أنهار
أنا شتوي عتيق موحل
ليل ينتحر القمر فيه
أنا "خريف الغضب "
ربيع يزهر حطباً
أنا كل ما تبقى من اليابسة الميتة
أنا حجارة سجيل تبحث عن أبرهة
أنا آخر ما تبقى من سبأ
هزمتنا كلماتنا وقصائدنا
وأغنياتنا
أنا سبي قبلي خاسر
أنا كل ذلك الوقت المضبوط على إيقاع الجرح والحزن
فاحصدوا خرائبي وازرعوا جنتكم
أو ارحلوا.
رام الله المحتلة \ فلسطين

ليست هناك تعليقات: